تتساءل: لماذا يلاحقنا الماضي رغم كل محاولاتنا للهروب؟ ولماذا يصبح كل خيار مشروعًا للندم؟ ولماذا تتصارع الضمائر في أعماقنا مع إرث العنف الذي نحمله؟ تلك هي الأسئلة التي يحملها فيلم “القاتل المأجور”.
يفتتح فيلم “Gunman” أبوابه على هذه الأسئلة الحارقة، ويغوص في قلب شخصية مرتزق يطاردها شبح الماضي وأخطاؤه، ليثير مشاعر التوتر والقلق، ويجعل المشاهد يواجه واقعًا قاتمًا، لكنه مليء بالمعاني حول ما يعنيه أن تكون مرتزقًا.
لعبة الثأر والبحث عن الخلاص
يستعرض الفيلم الأمريكي “قاتل مأجور” (2015 / 115 دقيقة) للمخرج بيير موريل، رحلة جيم تيري (يؤدي دوره شون بن)، المرتزق السابق والمحترف في عالم العنف، بعد أن يتعرض للخيانة أثناء مهمة في أمريكا اللاتينية. ويُجبر على الهروب ومواجهة شبكة من الأعداء الذين يسعون للإطاحة به، بينما يلتقي بحبه القديم آني (جاسمين ترينكا) ويدرك أن حياته لم تعد ملكًا له وحده. ويعكس الفيلم الصراع بين الواجب والضمير، والمال والأخلاق، ويطرح أسئلة عن ماهية العدالة الشخصية ومكانة الرحمة في عالم يسيطر عليه العنف.
ويعالج الفيلم قضايا كبرى مثل المسؤولية الفردية، والثأر، والبحث عن الخلاص في عالم مليء بالعنف، ويستحضر طروحات حول تأثير الحروب والصراعات على النفوس البشرية. ويستحضر أيضًا التوتر بين القوة والمخاطر، حيث تصبح كل مواجهة اختبارًا للأخلاق والشجاعة، بينما يبرز عنصر الإثارة كأداة لسرد الأحداث وإيصال التوتر النفسي إلى المشاهد. ويعكس البناء السردي للفيلم هويته الخطابية، إذ يعتمد على المزج بين الأكشن والتحليل النفسي للشخصيات، ويخلق مساحة للمشاهدة النقدية والفكرية، تجعل الجمهور متورطًا في صراع الشخصية مع ذاتها ومع العالم من حولها.
ويقدم الفيلم صورة للمرتزق لا على أنه مجرد آلة قتل، وإنما على أنه إنسان مجروح، متأمل، يسعى إلى التوبة والخلاص، مما يجعله أكثر قربًا من الجمهور وأكثر قابلية للتعاطف. ويؤكد الاقتباس الذي قاله جيم تيري: “أدركت أن أكبر أعدائي لم يكونوا من أطلقوا علي النار، بل أنا الذي أطلقت النار على نفسي”، وهو يعبر بوضوح عن الرؤية النفسية العميقة التي يصنعها الفيلم لشخصية المرتزق، ويُثبت قيمته الفنية كعمل يجمع بين الأكشن والتحليل النفسي والاجتماعي.
ويقدم الفيلم تجربة سينمائية متكاملة، ويطرح أسئلة حول أخلاقيات القوة والعنف وأثرهما على الإنسان، ويترك لدى المشاهد إحساسًا بالرهبة والإعجاب، كما يشعل الحيرة والتفكير، لأن الفيلم ليس مجرد فيلم عن العنف، فهو تأمل فني ونقدي في طبيعة المرتزق ونفسيته وما يحكمه من هواجس عميقة.
هشاشة الإنسان وصدى الأخطاء
تتجسد هوية جيم تيري (شون بن) في فيلم “Gunman” كنسخة معقدة للشخص المرتزق الذي يكابد دماره الذاتي والاضطرابات المحيطة به. ويظهر البطل كمرتزق محترف، لكن في أعماقه ثقل ضمير لا يهدأ، ويكشف الفيلم عن هشاشة الإنسان حين يتقاطع العنف مع الأخلاق. ويعكس كل تصرف لجيم تيري صراعًا داخليًا مستمرًا بين البقاء على قيد الحياة والبحث عن الخلاص، في حين يوضح من خلال سرده الداخلي: “أحمل كل الذخائر التي أطلقتها كندوب على روحي”، فتظهر حدة إحساسه بالمسؤولية تجاه أفعاله الماضية وتأثيرها على من حوله.
ويستحضر الفيلم حساسيات البطل من خلال مواجهاته اليومية مع العدو والمجتمع ومع نفسه، ويعرض تناقضات هويته بين المرتزق الباحث عن المال والمقاتل الذي يسعى للحقيقة والعدالة. ويبرز من خلال شخصيته المتناقضة بحساسية عالية تجاه التلاعب بالآخرين، والميل إلى التمرد على القواعد المفروضة من القوى السياسية والاقتصادية. ويقول أحد شخصيات الفيلم رفيقه فليكس مارتي (يجسده خافير بارديم) له: “في كل مرة تحاول الهروب من نفسك، تجد أن العالم يذكرك بأنك لا تستطيع”، ليبرز كيف يفرض العالم الخارجي شروطه وأجندته على البطل، بينما هو في صراع مستمر مع ذاته.
ويتناول الفيلم الأبعاد الاجتماعية والسياسية بعمق، حيث يعكس الصراعات الإقليمية وتأثيرات الحرب على المدنيين، ويضع جيم تيري في مواجهة مباشرة مع الفساد والخيانات متعددة الطبقات. ويعكس الحوار بين الشخصيات هذه التوترات، كما يقول زميله فليكس مارتي: “السياسة هنا لا تفرق بين الضحية والجلاد”، فتبرز رؤية الفيلم للظلم الاجتماعي والسياسي والازدواجية الأخلاقية التي تحكم العالم الذي يتحرك فيه البطل.
ويستعرض الفيلم أيضًا البعد الأيديولوجي والاقتصادي، حيث تصبح مهمة جيم جزءًا من شبكة مصالح دولية، ويظهر الصراع بين الدوافع المادية والالتزامات الأخلاقية. ويتضح تأثير هذه الأبعاد في قوله: “كل مهمة مُكلَّفة بثمن أكبر من المال”، ليؤكد أن قراراته ليست مجرد خيارات عملية وإنما خيارات بين الربح والخطر.
ويعالج الفيلم الأبعاد النفسية والجمالية من خلال تقديم جيم تيري كبطل معقد داخليًا، شخصيته مشحونة بالذكريات والصدمات التي تكشف عن هشاشة الإنسان أمام العنف والخيانة. ويبرز مشاهد الانعزال والفلاش باك الانفعالية، وتساعد الموسيقى والتصوير السينمائي على نقل شعور الوحدة والرعب النفسي، فيما تقول حبيبته السابقة آني (جاسمين ترينكا): “في صمت الليل، يسمع المرء صدى كل خطأ ارتكبه”، ليجعل الفيلم تجربة حسية وعاطفية تتيح للمشاهد الانغماس في عالم البطل الداخلي.
المرتزق وقتل العبث
يقدم الفيلم الأبعاد الجسدية والهوياتية، إذ تظهر قدرة جيم تيري على القتال والمناورة، وهي انعكاس لتدريباته السابقة وحرفيته في فنون القتال، بينما يعكس جسده وأفعاله الشخصية المحورية للمرتزق القوي والقادر على النجاة. وفي الوقت نفسه، يظهر الفيلم الأبعاد اللغوية والثقافية، إذ تتقاطع حوارات الشخصيات مع لغات متعددة ونبرة حوار تعكس التنوع الثقافي للعالم الذي يتحرك فيه، ويقول جيم تيري في إحدى اللحظات: “الكلمات أحيانًا تكون أخطر من الرصاص”، لتأكيد قوة اللغة في التأثير والتحكم.
ويستحضر الفيلم من خلال شخصية جيم تيري حساسية البطل تجاه العدالة الإنسانية، إذ يصبح مرآةً للتأمل في طبيعة القوة والعنف والتضحيات التي يفرضها العالم. ويعكس الصراع بين ما يريده وما يفرضه الواقع، ويطرح أسئلة مستمرة عن المسؤولية الفردية والخيارات الأخلاقية، ويؤكد على أن المرتزق ليس مجرد آلة للقتل، وإنما إنسان معقد، عاطفي، مدرك لتأثير أفعاله على من حوله.
ويتجاوز الفيلم البعد الشخصي ليصل إلى البعد المجتمعي، حيث يسلط الضوء على تأثير الصراعات على المجتمعات الضعيفة، ويطرح قضايا النزوح والهجرة والتأثير النفسي للحروب. ويربط الأحداث بالمستوى الفردي والاجتماعي والسياسي، مما يمنح الفيلم بعدًا نقديًا متعمقًا، ويقول جيم تيري في لحظة من الحيرة: “أحيانًا أشعر أنني أقاتل لأجل لا شيء، وأن العالم كله يراقب كيف أرتكب أخطائي”، ليؤكد على الطبيعة الشاملة للصراعات التي يعيشها المرتزق.
ويعكس البعد الجسدي في فيلم “Gunman” الصراع الداخلي للبطل وجوهر شخصيته، إذ تتحرك جسده ومهاراته القتالية كامتداد لماضيه وحياته السابقة، بينما تصبح كل حركة فعل مقاومة وبقاء، ويقول جيم تيري في إحدى اللحظات المؤثرة: “جسدي يحفظ كل المعارك التي خضتها، وكل مرة تنهكني فيها ذاكرتي، أشعر بألمها في عروقي”. وتتداخل الأكشن والإثارة مع لغة الجسد لتصوير التوتر النفسي والقلق المستمر، وتصبح اللياقة البدنية والقوة السريعة علامات تعريف لهويته كمرتزق محترف يحمل عبء أخطائه.
ويعتمد الفيلم على البعد اللغوي لتوسيع الفضاء النفسي والعاطفي للشخصيات، حيث يخلق الحوار أبعادًا رمزية ويعكس تباين السلطة والضعف، ويقول جيم تيري في لحظة تأمل: “الكلمات أحيانًا أصعب من الرصاص لأنها لا تُنسى”. وتتسم اللغة بالحدة والرمزية والبلاغة، فتصبح أداة لاستكشاف الهوية والضمير ولتوصيل رسائل أخلاقية وسياسية ضمن بنية السرد.
ويتجلى البعد الخطابي في الفيلم من خلال سرد الأحداث بأسلوب شيق يجعل المشاهد شريكًا في الصراع، ويطرح تساؤلات وجودية وأخلاقية عن العنف والعدالة والإنسانية ومفهوم الارتزاق، ويؤكد البطل جيم تيري: “كل فعل يحمل معنى أكبر مما نتصور”، ليجعل خطاب الفيلم مرآة للتأمل في الذات والعالم، ويجمع بين الأكشن والتحليل النفسي بطريقة متماسكة وجمالية في ذات الوقت.
ويبرز الفيلم الأبعاد الجمالية في الأداء والتصوير والموسيقى، حيث يخلق التباين بين مشاهد العنف والصمت لحظات جمالية تعكس التوتر الداخلي للبطل، ويجعل المشاهد يشارك البطل تجربة معقدة من التشويق النفسي والإثارة البصرية. ويقول فليكس مارتي: “العين التي ترى كل هذا لا تستطيع أن تنسى”، لتسليط الضوء على البعد الفني الذي يحول الفيلم من مجرد قصة إلى تجربة سينمائية عميقة.
يعيد الفيلم التأكيد على الهوية المتعددة للمرتزق، إذ يترك المشاهد مع إحساس بالرهبة والتأمل في طبيعة هوية المرتزق بين القوة والضعف، بين الحق والخطأ، وبين الرغبة في البقاء والبحث عن الخلاص. ويسعى جيم تيري في محاولة للخروج من شخصية المرتزق مرارًا وتكرارًا: “ربما لم أستطع تصحيح كل أخطائي، لكنني تعلمت أن أنظر في عيني نفسي قبل أن أنظر في عيون العالم”، ليجسد عمق شخصية المرتزق ورؤية الفيلم كعمل نقدي وجمالي متكامل يعالج الإنسان وصراعاته مع نفسه ومع المجتمع حينما يصبح الشخص عبئًا على ذاته ومرتزقًا بأجر لدى الآخرين وطموحاتهم.
المصدر: وكالات
