قال آلان فيشر، رئيس أكاديمية العلوم بفرنسا، إن من التحديات التي تواجه مستقبل الطب تخفيض هوامش الربح في أدوية “ثمنها لا يطاق حتى في الدول الغنية”، فضلا عن احترام “الحياة الخاصة”، والاستمرار في استحضار مهمة الطب الذي “يستبق، ويصلح”؛ لكنه ينبغي ألا يُوجه نحو “تعزيز الإنسان”، مع تأكيده على أن أفكارا مثل “ما بعد الإنسان” أو “الإنسان المعزز” (Transhumanisme) “لن نصل إليها يوما، فهي غيرُ ممكنة التحقق، وهذا أمر جيد. لا نريد نوع المجتمع الذي فيه الكثير من الشيوخ، والقليل جدا من الأطفال”.
جاء هذا في محاضرة نظمتها أكاديمية المملكة المغربية وأكاديمية الحسن الثاني للعلوم والتقنيات، واستقبلها، اليوم الاثنين، مقر الأكاديمية بالرباط، وتحدث فيها رئيس أكاديمية العلوم الفرنسية عن التطورات التي شهدها الطب عبر القرون، وأهم الإنجازات الحالية، والتحديات التي تعترض الطب وتطويرَه، وحماية الإنسان.
وقال فيشر إن “تطور أمد الحياة معطى مهم؛ فقد كان المعدل أقل من ثلاثين سنة، بسبب وفيات كبيرة للأطفال، عند الولادة أو بعدها وبفعل الأمراض المعدية؛ ثم ابتداء من القرن التاسع عشر، مع زيادة ظروف التغذية والنظافة وظهور الطب بمفهومه الحالي من لقاحات ومضادات حيوية، وصلنا اليوم إلى معدل 76 سنة، وهو ما نقص بضعة شهور بسبب جائحة كوفيد، ثم استعدنا تلك الشهور بعد ذلك”.
وزاد المتدخل: “الطب مرتبط بشكل حيوي بتاريخ الإنسان؛ فمنذ 30 ألف سنة، لدينا هيكل عظمي به دلائل إجراء عملية جراحية على طفل، عاش بعدها عشرين سنة”؛ ثم انتقل إلى القرن الثامن عشر وما بعده، حيث ظهر لقاح حمى النفاس التي كانت أول مرض يُقضى عليه عبر اللقاح، ثم تلاه لقاح السعار، فلقاحات أُخَر.
هذه التطورات الطبية لَم تُتَلق دائما بصدر رحب، حيث بين المحاضر أن اكتشاف علاقة عدم غسل اليد وتعقيمها بالكحول قبل إجراء عملية بالعديد من الوفيات، تطلب عشرين سنة ليقتنع به المجتمع الطبي؛ وهو ما قاد “إلى نزول حاد في عدد الوفيات”.
وربط آلان فيشر تطورات البيولوجيا بـ”تطوير باحثين كبار العلوم الحية”؛ من قبيل: “شارلز داروين، وكلود بيرنارد، ولويس باستور، وجورج مينديل، ورودولف فيرشو، وروبرت كوش”.
هذا التطور قاد “إلى المقاربة العلمية في القرن العشرين، بعد الملاحظة والتجريب، في القرنين السابقين”، فقد تطور التقعيد مثلا لمنهجية التأكد من فعالية الدواء عبر تجربته على الناس بطريقة “الدواء الأصلي” و”الدواء غير الحقيقي” (بلاسيبو)، منذ مائتي سنة.
كذلك “التصوير الإشعاعي” الذي بدأ يتطور منذ نهاية القرن التاسع عشر، وبلغ “تطورا هائلا اليوم، بصور جد دقيقة وباعتماد الجانب الرقمي أيضا والذكاء الاصطناعي؛ وهو أمر هائل بالنسبة للجراحين” يحسن دقة عملياتهم.
تحليل الذرات البيولوجية أيضا تطور منذ أول فحص بـ”الأشعة إكس” في أواخر خمسينات القرن العشرين، حيث كانت أولى الصور في سنة 1958؛ والآن بين التصوير والذكاء الصناعي يمكن توقع حال بروتينات أخرى في الجسم، وهو الأمر المهم “لصناعة أدوية جديدة، ومعرفة تفاعلاتها”؛ علما أن هناك مليونين من البروتينات الحية، الإنسانية وغير الإنسانية.
أما الحمض النووي ومعلوماته الجينية، فقد بدأت معرفته منذ الخمسينات وتطورت في نهاية القرن العشرين واليوم، والآن “نعرف ما يتضمنه من 22 ألف جين، فيها 100 ألف بروتين”.
وحول الطفرات الجينية التي تؤدي إلى السرطان، وضح المحاضر مستوى الفهم الجيني اليوم الذي يتجه نحو تطوير العلاج، بـ”خلق أنزيمات تستبق ظهور السرطان”، تدمج في الجسم عبر “أدوية كيميائية”.
لكن “لا يزال التطور مستمرا؛ لأن علم الجينات أعقد من طفرة واحدة بسيطة، فهناك 22 ألف جين، وآلاف منها فاعلة في خلية من الخلايا”، إضافة إلى معطيات أخرى من قبيل “البكتيريات، والبروتينات، والفيروسات، وسنوات العيش، والسلوك الإنساني: هل الشخص يدخن مثلا؟ وهل يشرب الكحول؟”؛ وهي “متغيرات كثيرة” ينبغي استحضارها والتعامل معها “لنصل إلى مقاربة شاملة”.
ومن بين قصص النجاح التي قدمها رئيس أكاديمية العلوم الفرنسية؛ “قصة نجاح منذ عشرين سنة على الأقل، بفضل الأدوية المطورة (بالأجسام المضادة)”. كما أن المستقبل تنتظره “جراحة الجينات”، وتغيير المتسلسلات الجينية المصابة بأخرى طبيعية”، عن طريق “مقصات خاصة”، ولو أن “المتغيرات الجينية تحول دون تعديل الجينوم بدقة عالية جدا”.
وعلى الرغم من التطورات فإن “تحديات الطب” تبين أننا “ما زلنا بعيدين”، حسب المحاضر، ومن بين التحديات المطروحة “أسئلة ممارسة وأخلاق؛ أمام السعي إلى الفهم الأحسن وتطوير العلاجات، باستعمال الذكاء الصناعي، في جمع المعلومات الشخصية على سبيل المثال”.
ثم أردف قائلا: “في مجال الصحة العقلية، ما زلنا لا نفهم جديدا أسس الأمراض النفسية. كذلك علاجات فقدان البصر والسمع عند الكبار، ولا يزال من الصعب علاج الكثير من السرطانات (…) وعلاج أمراض مثل السكري والسمنة، وعلاج الإدمانات، والحساسية، والمناعة، والمقاومة للمضادات الحيوية التي تتطور لدى 5 ملايين إنسان سنويا”، فضلا عن “التغير المناخي، والتلوث”.
وعلى الرغم من أن “ارتفاع أمد الحياة خبر جيد”، فإنه “مرتبط بخبر سيء آخر هو ارتفاع إمكانية الإصابة بالأمراض المزمنة”.
وأكد رئيس أكاديمية العلوم الفرنسية أن البحوث الطبية لن تتطور “دونَ التفكير المرتبط بالعلوم الاجتماعية والإنسانية”؛ فتطوير علاج الصحة ليس مقتصرا فقط على “البيوتكنولوجيا”.
وعلى الرغم من أهمية التشخيص عن بعد واستثمار الذكاء الصناعي، فإن الحوار المباشر بين الطبيب والمريض “مهم وأساسي”، وينبغي توفير العدد الكافي من الأطباء للناس، والاستمرار في توفير الميزانيات المخصصة للصحة والبحث الطبي.
ومن التحديات أيضا “قبول التطورات الطبية لدى الأفراد والمجموعات المجتمعية”؛ فـ”هناك توجهات منذ مطلع القرن العشرين ضد اللقاحات، مستمرة إلى اليوم، وزادت حدتها مؤخرا، وينبغي ألا ننتقص من حدة وجودها”، كما تُطرح الأسئلة المجتمعية والفلسفية أيضا على “الطب الاستباقي”.
المصدر: وكالات