قال المستشرق وأستاذ اللغة العربية والدراسات الإسلامية بجامعة إيكس مارسيليا، دينيس غريل، إن اللقاء مع ابن عربي تمّ خلال القرن الماضي بعدما أثارت هذه الشخصية التراثية اهتمامه ليعكف على ترجمة العديد من أعماله، شاكراً أكاديمية المملكة المغربية، التي أحيَت روابط عرفت نوعا من الفتور البحثيّ بحكم الابتعاد وهلة عن تراث محيي الدين بن عربي.
وأضاف الفرنسي غريل، متحدثا من محاضرة نظمتها أكاديمية المملكة المغربية، تحت عنوان “ابن عربي أو كيف تصبح مترجما للمترجم؟”، أن هذه المحاضرة هي فرصة لتنهض الأهواء الغافية لترجمة التّرجمان ابن عربي، مؤكدا في السياق ذاته أن عملية الترجمة المذكورة لم تكن مهمة سهلة، بل مغامرة حقيقية تستدعي قدرا عاليا من الدقة والاطلاع الجيد على لغة الآخر: العربية.
وتابع قائلا: “كان الهمّ هو كيف أنقل رسالة هذا الرجل وأسراره ومفاهيمه إلى الفرنسية، فقد كانت مساهمته لا غنى عنها في فهم عميق للأسس النصية الدينية والمبادئ الروحية للتقاليد الإسلامية، دون أن ننسى الإجابات التي يقدمها بخصوص مجمل استفهاماتنا حول الوجود والكون وعلاقتنا بالإلهي. لقد كان معلّما نموذجيا بلغة عربية رائعة”.
وحفاظاً على المهمة الحضارية للترجمة وللاستشراق في أحد وجوهه، أشار المستشرق الفرنسي، المتقن للغة العربية، إلى أن المترجم يتعين أن يكون متذوقا جيدا لتقاليد العرب القديمة، وأن يسافر في بحور اللغة، ضاربا المثل بكون اللغة التراثية حمّالة أوجه، فلفظة “المتكبر” مثلما هي ذات حمولة قدحيّة، هي أيضا من أسماء الله الحسنى، وهو ما يستدعي قدرا عاليا من العناية والدقة في ترجمة نصوص ابن عربي وغيره من الشخصيات التراثية التي تنال اهتمام الباحثين والمترجمين.
وبعدما كان عبد الفتاح الحجمري، مدير مكتب تنسيق التعريب، قد وضع أرضية المحاضرة بالإشارة إلى أن الترجمة تؤسّس معرفة إنسانية مُشتركة، أكد أستاذ اللغة العربية والدراسات الإسلامية بجامعة إيكس مارسيليا أن ترجمة نصوص ابن عربي، أو النصوص التي هي في الأصل عبارة عن ترجمة، أي أن كاتبها يعد ترجمانا يفسر في الدين ما يستعصي على بقية الناس، هي عملية مغامرة، ولكنها متعة معرفية لكونها تنقل المستعرب إلى تلك العوالم بشخصياتها وتجعله يعيش تفاصيلها.
وأضاف أن “ابن عربي شخصية متعددة الانشغالات: المنطق واللغة والشعر والنثر، وكان فقيها وشيخا عظيما، فهو أحد أعظم مؤلفي الأدب العربي، وله قدرة على النفاذ إلى أعماق العوالم غير المرئية”، مشيرا إلى أن الشيخ الأكبر يتعامل مع عقائد معقدة ودقيقة يجب فهمها أولا قبل الشروع في نقلها إلى الفرنسية. وأضاف أن الرهان هو أن تأخذ المصطلحات العربية خلال الترجمة معناها الكامل، فهي تستفرد بمعان غير تلك المقصودة في الترجمة البسيطة.
وهو يسبط صعوبة ترجمة لغة لا تُسلّم نفسها في حرفيّتها أو قراءتها الأولى، قال المستشرق الفرنسي إن “ابن عربي كان ترجمانا، فنحن ليست لدينا المقدرة على فهم كلمة الله مباشرة، لذلك نحن بحاجة إلى مترجم، إنه يترجم لغة عربية للعرب”. لذلك يقول ابن عربي ‘مترجماً لا متحكّما’؛ وبالتالي ترجمة مترجم مسألة ليست بتلك السهولة الظاهرة، والوحي القرآني يتم استيعابه أولاً إلى ترجمة، أو نقل كلمة إلهية متسامية إلى كلمة مألوفة في لغة الناس.
وأوضح قائلا: “هناك علاقة بين من يترجم وما يترجمه. ترجمة كاتب هو الذهاب لمقابلته، وبالتالي المشاركة في القليل من حياته، وتقاسمه ترجمته. نحن نقول في الفرنسية: “الرجل هو الأسلوب”، ومشاطرة هذا المتصوف أسلوبه هو مهمة من نوع خاص”. وأشار في سياق آخر إلى أن “التفسير هو ترجمة الحقائق التي يدركها ذكاء القلب والكشف بلغة واضحة أحيانا، وأحيانا تلميحية، لاسيما عندما يكون فهمها محفوظا لأولئك الذين يُعطى لهم فهمها”.
وجواباً عن سؤال لهسبريس حول الدوافع الكامنة خلف هذا الاهتمام المعرفي بالشيخ الأكبر، قال غريل بكلّ بساطة: “لأنه الأقرب إلى قلبي، ووجدت عنده ما لم أجده عند غيره؛ اشتغلت على شخصيات كثيرة في التراث العربي الإسلامي، ولكن أفق ابن عربي مختلف، إنه أحد فرسان اللغة العربية، الذين قدموا نفسا كونيا حقيقيا داخل هذا التراث وداخل الصناعة الروحية والصوفية الحصرية لهذا التاريخ الإسلامي”.
يشار إلى أن محاضرة دينيس غريل، المهتم بالتراث الصوفي والعضو في معهد البحوث والدراسات حول العالم العربي والإسلامي IREMAM، تأتي تفعيلا لأهداف الهيئة الأكاديمية العليا للترجمة التابعة لأكاديمية المملكة المغربية، التي تضطلع بمهمة تشجيع أعمال الترجمة بالمغرب وخارجه بين اللغة العربية أو اللغة الأمازيغية واللغات العالمية الأخرى، وقد عرض خلالها المحاضر أشعاراً ومقاطع نثرية ترجمها لابن عربي.
المصدر: وكالات