لأول مرة، ينشر نص كتاب “عِقْد الجُمَان” الذي يقدّم تاريخا بـ”نكهة مُغايرة”، وفق مُخرِّجه؛ “فما اعتدنا عليه عادة حين نُطالع كُتُبَ التّاريخ مدح الكُتَّابِ والإخباريِّين للولاة والحُكّام والقُيّاد والوُزراء وتمجيدهم، وإصباغ الصِّفات الحميدة عليهم، وهي الصِّفات التي قَلَّما تتوفر في بعضهم؛ لكن على عكس ذلك،= نجد الزياني قد كسر القاعدة”.
وهكذا، فتَح الكتاب المخرّج “بعض الطابوهات المُتعلقة بالفساد المالي والجنسي والإداري، وتناول ظواهر من قبيل الرشوة والابتزاز والغصب والاغتصاب والتحايل، وفصَّل فيها، ونَبَّه إلى مخاطرها، واستطاع إثباتها من خلال حالات عديدة نقلها في كتابه، مع توثيق أسماء الجلادين والضحايا، كاشفا بذلك عن حقيقة المرتزقة ممن كانوا يستغلون نفوذهم ومناصبهم بغية تحقيق مآربهم الخاصة”.
عن دار سليكي إخوان، صدر كتاب “عِقْدُ الجُمَانِ في شمَائِلِ السّلطانِ مَوْلانا عَبْدِ الرَّحْمَنِ”، للمؤرخ أبي القاسم الزّياني، الذي خرّجه ودرسه الباحث خالد طحطح. ويُعد هذا العمل “من أهم كتابات الزياني عن فترة السلطان المغرب محمد بن عبد الرحمان، ففيه أتمَّ تلخيص تاريخ ملوك الدّولة العلوية إلى غاية سنة 1244 هـ، وكان قد توقف في الرّوضة السُّليمانية عند حوادث سنة 1234 هـ”.
ويضم “عقد الجمان” معلومات تاريخية مهمة عن تاريخ الدولة العلوية من نشأتها وإلى غاية فترة حكم السلطان عبد الرحمان بن هشام، ويعد من أهم المصادر التاريخية عن هذه الفترة، خاصة تلك التي عايشها، فقد خدم أربعة سلاطين: المولى محمد بن عبد الله، والمولى اليزيد، والمولى سليمان، والمولى عبد الرحمن بن هشام.
ومن بين ما يميز كتاب الزياني هذا حضور “التّاريخ الآخر”؛ فلم يُهمل هذا المؤرخ الحديث عن “الضّعفاء من عامّة الطّبقات، ولم يضرب الطّوق عن أخبارهم، بل سجّل نماذج من معاناتهم”؛ وهكذا “أسمعنا المُؤلِّف أصواتَ المحكومينَ ومعاناة المظلومين منهمـ كما سجَّل مظاهر مُؤلمة وَصُوَرا مُجتمعية قاتمة ما كان لنا أن نتعرَّف عليها لو لم يُدوِّنها هذا الإخباري المتميز”، بخطاب “واضح وجريء (…) لم يدار أصحاب الجاه والنفوذ، ولم يتوان عن فضح المفسدين (…) ولم يسلك درب التملُّق والتصنُّع في مُؤَلّفاته؛ ويتبيَّن ذلك إذا ما قورنت كتاباته بما دوَّنه بعض الإخباريين من مُعاصريه أو الذين جاؤوا من بعده”.
وقد التحق أبو القاسم الزياني بخدمة “الحضرة السلطانية” في عهد محمد بن عبد الله، واستمر في خدمة المولى سليمان، ولذلك لُقِّبَ بـ”كاتب الدّولتين، ومؤرِّخ الحضرتين”؛ ونال “تقديرهما الخاص وحاز في عهدهما مكانة معتبرة”، إذ تقلد بأمرهما مناصب سياسية مهمة، و”تولى في عهد أوَّلِهِما مُهِمّات سفارية للأستانة تحدث عنها بتفصيل في (الترجمانة الكبرى)”.
وتقلَّب الزَّياني، وفق دراسة المخرّج طحطح، في منصب الكتابة مدة عشرة أعوام، وذلك في عهد المولى محمد بن عبد الله، ثم حصلت له النكبة عام 1769م، لكن سرعان ما عفا عنه السلطان وأعاده لديوان كتبته، وبلغ في هذه المرحلة أعلى المراتب، وتَقلَّب في عَلِيِّ المناصب؛ فقد عُيِّنَ عاملا على تازة، ثم ولاّه السُّلطان على منطقة تافيلالت. وخلال مقام الزَّياني بتافيلالت توطّدت علاقته بالمولى سليمان، إذ لازمه بمجلس الحكم، واستمرّ فيه إلى وفاة السُّلطان محمد بن عبد الله، وبعدها تعرّض للاعتقال على يد المولى اليزيد بعد بيعته سُلطانا، إذ سجنه لفترة قبل أن يُطلق سراحه ويوكِل إليه مناصب ومهمات؛ لكنه ما لبث أن انقلب عليه مُجددا بعد ذلك، وكان آنذاك بالعرائش، فضرب ضربا مبرحا إلى أن كسرت يده وشُجَّت جُمجمته، وقد ظَلَّ بالسِّجن يُعاني الويلات إلى أن توفي اليزيد.
وبعد وفاة المولى اليزيد عاد الزياني إلى سابق مكانته؛ فقد عيَّنهُ السُّلطان سليمان عاملا على تادلا، وأمره أن يقبض على ولده الرّاضي، فقبضه ودخل عليه قصبة تادلا، ثم إن أهلها “عصبوا عليه وأطلقوه من يد بلقاسم الزياني بالسيف وكرها منه؛ ثم أسند له السلطان بعدها تسيير عمالة وجدة ونواحيها لفترة قصيرة، غير أنه سئم الخدمة في سلك المخزن بعد تعرض قافلته للسرقة والنهب وهو في طريقه لتولي منصبه الجديد بالجهة الشرقية، فآثر الذّهاب إلى تلمسان، حيث اعتكف لمدة سنة ونصف، اشتغل خلالها بالمطالعة وتقييد مسودات بعض كتبه”.
ومن هناك “رحل قاصدا الأستانة، وبعدها اتّجه للدِّيار المُقَدّسة بغرض أداء مناسك الحج، ليعود ثانية لتلمسان التي اختارها مُستقرا، وأثناء مقامه هناك أرسل له السلطان سليمان يأمره بالعودة، ووعده بإعفائه من أي مهمة رسمية فامتثل لرغبته”؛ لكنه “لما وصل إلى فاس عرض عليه السلطان ولاية العرائش فرفض، وألح عليه بعد ذلك للقيام بمهمة مراقبة مراسي المغرب وعُمّالها، فلم يجد بُدا من القبول، وقلَّده السُّلطان سُليمان لاحقا منصب الكِتابَة، ثُمَّ الوِزارَة، والحِجابَة؛ فبلغ بذلك أوْجَ مَجْدِهِ، وبَقِيَ سَنواتٍ بِمَنْصِبِهِ هذا إلى أنْ أُبْعِدَ من الخِدْمَةِ بعد نَجاحِ حُسّاده في تأليبِ السّلطان عَلَيْه، فنزل إلى ‘رُتبة النكبة’”.
وقد تعرَّض الزياني إلى “نكبات كثيرة، لكنها لم تزده إلا إصْراراً وعزماً، وآثَرَ في النِّهاية اعتزال السِّياسة بسبب دَسائسها، ولزم بيته بصورة نهائية ابتداءً من سنة 1224هـ، لَكِنَّهُ ظَلَّ مُتابِعاً لأحداثِ عَصْرهِ، وهُوَ ما يَظْهر جَلِيّا في كتابه عِقْدِ الجُمان الذي ألفه في عهد السُّلطان عبد الرَّحمان بن هشام؛ وكان يجد في فترات اعتكافِه فُرصا لا تُعوَّضُ للتّدوين والتَّأليف، فقد كان مولعا بكتابة التّاريخ في عصرهِ، وجل تآليفه أنجزها خلال فترة انعزاله، بين سنوات (1809-1833)، بالزَّاوية العيساوية بفاس”.
وقد تميّزت كتابات أبي القاسم عن الدَّولة العلوية، وفق خالد طحطح، بـ”الدِّقة والمِصداقِيَّة”، لكونه “عاصر مُعظم الأحداث التي نقلها، وكان شاهِدَ عيانٍ على مرحلةٍ مُهِمَّة مِنْها، والمُلاحظ أنه لا ينتمي إلى طائفة الإخباريين المرتزقة كما يتبين من خلال كتابه (عِقْدُ الجُمان في شمائل السُّلطان عبد الرَّحمان)، ولم يَكُن مِنَ الكُتّاب المُتَملِّقين، كما أنَّ الأخْبار التي عَرضَها تُظهر مَعْرِفَته ببعض أحوال الإمبراطوريَّة العُثمانِيَّة”.
وقد خلّف الزياني كُتبا كثيرة جاوزت العِشرين عنوانا، و”انفرد بكثير من الأحداث التي شكلت مصدرا مُهما للإخباريين من بعده، الذين نقلوا عنه الكثير بإحالة أحيانا وبتجاهل أحيانا أخرى”، وقد جلبت عليه مؤلفاته “نقمة كثير من الحساد والمغرضين ممن لا يخلو منهم زمان، إذ كانت له الجرأة للتعبير عن آرائه في مواضيع حساسة نظما ونثرا، فكثر أعداؤه ممن نشروا عنه إشاعات كاذبة بهدف تشويه سمعته والنيل منه”.
وحضر في بعض مؤلفات الزياني النقد الصريح لمن تقلدوا مهام المسؤولية في الإدارة من الولاة والقياد والمحتسبين والأشياخ والمقدمية، في كتبه (تحفة النبهاء في التفريق بين “الفقهاء” و”السفهاء”) و(حديقة الحكام الجفاة ومن انضاف إليهم من البغاة)، و(عِقْدُ الجُمَان في شمائل السلطان مولانا عبد الرحمان)، الذي صدر بتخريج ودراسة جديدين.
ويُعد كتاب “عِقْد الجُمَان” نصا فريدا من نوعه، وفق مخرّجه؛ “فهو لا يخلو من الفوائد والعبر. وتجد صراحة الزياني تفسيرها في استغنائه عما في أيدي الآخرين، إذ كان ميسور الحال، ولم يكن مفتقرا للمساعدات والمشاهرات، ولا متشوفا للأعطيات والهبات، فقد توفرت له إمكانيات مادية ورثها عن والده، ما جعله أكثر استقلالية وحرية مقارنة بأقرانه من الكتاب والمؤلفين ممن كانوا يعانون من قلة ذات اليد، أمثال محمد أكنسوس وعلي السوسي والعربي المشرفي”.
ولهذا، استطاع الزياني تسجيل كثير “من الأعمال الإجرامية” في كتابه (عِقْد الجُمَان) ووضحها في رسالته (حديقة الحكام الجفاة ومن انضاف إليهم من البغاة). وقد أضاف الباحث خالد طحطح هذه الأخيرة إلى الكتاب المخرَّج؛ لأن “فيها فضح أصحاب الرذائل وكل من حاول التستر على أفعالهم، ما يؤكد انحيازه للحق على حساب الظلم؛ فقلما نجد كاتبا مخزنيا تناول خلال العصر العلوي السلوكات المقيتة التي يرتكبها الحكام في حق السكان الأبرياء”.
المصدر: وكالات