لا يقتصر أحدث كتب أحمد عيدون، المؤرِّخ والدارس للموسيقى المغربية، على فهم الفيلسوف الفارابي للموسيقى، واصطلاحه، وتفسيره لصناعة الألحان وارتباطها بالكلمات، بل يقدّم “أصالة الفكر الموسيقي عند الفارابي”، داحضا “ادّعاء المستشرقين ومَنْ والاهم بخصوص زعمهم أن قدماء مفكّري المسلمين كانوا في تبعية كاملة لفلاسفة اليونان”.
كتاب “الفكر الموسيقي عند الفارابي”، الذي أصدرته حديثا منشورات المتوسط بإيطاليا، يضم تعميقا للتأويلِ وتفعيل علم الموسيقى المقارن عوض الاقتصار على شرح متن الفارابي وترجمة معانيه، مع فتح المجال، من خلال ما توصّل إليه الفارابي في زمنه، لـ “تأصيل النظرية الموسيقية العامة، وتصحيح بعض المغالطات التي نشأت حول الموسيقى العربية، بفعل الانفصام الحاصل بين العلوم النظرية وواقع الممارسة العملية”.
هذا الكتاب الذي يضم سيرة الفارابي ويهتم بمنجزه الفلسفي، يقف عند ريادته في ميدان الموسيقى على الخصوص؛ نظرا “لشمول علمه وتميّزِ إسهامه فكراً ومنهجاً، ذلك المنهج الدامج لمجالات معرفية مختلفة من قبيل الفلسفة والمنطق والرياضيات وعلوم اللسان، فكان مشروعه أصيلاً وعميقاً ومتميّزاً عمّنْ سواه من الأقدمين”، وهو ما يخالف “ما اعتقده وتبنّاه أغلب المستشرقين، في موقف بعيد عن الحقيقة والإنصاف، فالفارابي لم يكن مجرّد ناقل وشارح للفلسفة اليونانية وتوابعهما من العلوم الطبيعية والفكرية”.
والكتاب، وفق مؤلّفه، “ثمرة اشتغال طويل على مؤلّفات الفارابي المتصلة بعلم الموسيقى، وضمن اهتمام متواصل بالتراث الموسيقي المنبثق عن الحضارة العربية الإسلامية في شرقها وغربها”، واستخرج فيه عيدون مجموع المصطلحات التقنية للفارابي، تبلغ 678 مصطلحا استعمله الفيلسوف في الوصف والتحليل وتدقيق المسارات النغمية والإيقاعية والتأليفية والنقدية.
وبيانا لـ”أصالة الفكر الموسيقي عند الفارابي”، رجع عيدون إلى ما كتبه اليونانيون في مجال الموسيقى، وقارنه بما أضافه وصححه الفارابي، بمنهج يعمل على تجاوز “السبل التحليلية المتداولة في تفسير التراث الفكري العربي”؛ لأنه “إذا كان كتاب الموسيقى الكبير هو أساس هذا البحث، فإن الإحاطة بالفكر الموسيقي عند الفارابي تقتضي النظر كذلك في كتابات أخرى، مما يسهم في توضيح بعض ما يمكن أن يلتبس على الباحثين في تفاصيل بعينها، خصوصاً وأن أسلوب الفارابي عصي على الفهم في بعض الأحيان”.
ومن بين ما يوضّحه المصدر الجديد أن الفارابي “لم يقتصر في تناوله للموسيقى على ما جرى به العمل في بيئته العربية، بل حرص على النظر في كونية الموسيقى لكي يتجاوز ما هو مشهور من ممارسة عملية ونظرية في زمنه، إلى استنباط ما هو أعم بتوليد إمكانات نظرية موسعة”، ويقدّم مثالا على ذلك بـ”دوزنة وتسوية الآلات الموسيقية، ما يسميه التسوية المشهورة التي يرفقها بمجموعة من التسويات الممكنة منطقيا مما لا يعرفه أهل الصنعة”، وهو ما يظهر أيضا في “توليد الإيقاعات، وتمزيج بعضها ببعض”.
وبالتالي، كان من اللازم للكتابة حول الفارابي النظر في مباحث أخرى لهذا الفيلسوف، لأن “في خلفية التحليل الموسيقي نجد علوما أخرى” تقارب الظاهرة الصوتية في شمولها الطبيعي والإبداعي والتحليلي والتذوقي، وكذلك في مجمل علاقتها مع النشاط الفكري والجمالي للإنسان.
و”إذا كان غموض العبارة في مسائل بعينها قد أعيى المحقّقين في فكّ رموزها، فلجؤوا بصفة استثنائية إلى التأويل”، وفق المصدر، فإن الكاتب قد واجه المشكلات نفسها فجعلته “لا يحتفظ من التأويلات إلّا ما يحافظ على تماسك الخطاب المنطقي عند الفارابي، ويحقق انسجامه مع جوانب أخرى من عرضه النظري والتطبيقي ضمن مؤلَّفاته الأخرى”.
ويذكّر المنشور الجديد بسيرة الفارابي، عيشا وتفرّغا للتحصيل العلمي والتأليف، ويعرّج على آثاره بصفة عامّة في الفلسفة وتوابعها، وتأثيره عند تلاميذه ومعاصريه، وكيف استمرت أفكاره عند التابعين في المجال العربي الإسلامي؛ لأن “كتاباته رغم ضياع الكثير منها قد وجدت لها صدى عند مفكّري غرب أوروبا منذ القرون الوسطى”، كما يحلّل الكتاب معالم المنهج لدى هذا الفيلسوف، ويستخرج كافّة المصطلحات التِّقْنِيَّة التي استعملها، في سبيل إنصاف فكر الفارابي، ودحض مغالطات ثقافية استشراقية تشرّبها البعض محليا وهمّت عموم المنجز الفكري المخطوط باللغة العربية، بما في ذلك الفكر العربي حول الموسيقى.
المصدر: وكالات