قال إدريس لكريني، أستاذ العلاقات الدولية وتدبير الأزمات، إن “توالي الانقلابات داخل القارة الإفريقية خلال السنوات الأخيرة، يطرح من جديد مستقبل الدولة في إفريقيا”، مضيفا أن “الانتكاسات السياسية تتزامن مع التهافت الإقليمي والدولي المتزايد على إفريقيا، في سياق السعي إلى تعزيز النفوذ، والتموقع في مناطق استراتيجية داخل القارة”.
وتطرق لكريني، في مقال له بعنوان “عودة الانقلابات لإفريقيا.. الدلالات والمخاطر”، لمجموعة من النقط كـ”تراجع النفوذ الفرنسي بشكل ملحوظ داخل القارة”، و”تنامي الاستياء من التواجد الفرنسي في عدد من المناطق الإفريقية”، مشيرا إلى أن “توالي الانقلابات العسكرية في إفريقيا يمثّل ناقوس خطر، ينبغي على الدول الإفريقية مجتمعة أن تستوعب مخاطره وانعكاساته على سيادة وأمن دول القارة”.
هذا نص المقال:
أثار الانقلاب العسكري الذي شهدته دولة النيجر، بعد الإطاحة بالرئيس الشرعي “محمد بازوم”، وتعويضه بقائد الحرس الرئاسي الجنرال “عبد الرحمن تيشاني” كرئيس مؤقت للبلاد، واعتماد عدد من التدابير الصارمة كإقالة الوزراء، وتعليق نشاط الأحزاب السياسية، وإغلاق المنافذ البرية والجوية بالبلاد..، مخاوف جدية بشأن تدهور الأوضاع الأمنية في البلاد وانعكاساتها السلبية على المحيط الإقليمي، وكذا عودة موجة الانقلابات إلى إفريقيا من جديد، بعد سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية والسياسية التي اعتقد معها الكثيرون أن القارة السمراء؛ حسمت مع تلك الصورة النمطية التي كانت تروج عنها والتي تربطها بالاستبداد والمجاعات والأوبئة..
تذرّع “الانقلابيون” بمجموعة من الأسباب التي دفعتهم إلى الإطاحة بالرئيس الشرعي، من قبيل الاستياء من التعيينات الجديدة داخل الجيش، والتي رافقها تهميش وإزاحة لعدد من النخب العسكرية من مناصبهم، والسعي إلى الهيمنة على مؤسسات الدولة، واعتماد مركزية مفرطة في تدبير الشؤون العامة..
إن توالي الانقلابات داخل القارة خلال السنوات الأخيرة، يطرح من جديد مستقبل الدولة في إفريقيا، ذلك أن الإصلاحات التي شهدتها الكثير من الدول الإفريقية والتي أفرزت نخبا سياسية جديدة عبر آلية الانتخاب، لم تسمح بإرساء مؤسسات سياسية صلبة ومستقرة قادرة على مواجهة مختلف التحديات في أبعادها الداخلية والخارجية، كما أنها لم تكن كفيلة بتحقيق التنمية عبر الحدّ من المعضلات الاجتماعية والأمنية، ووقف نزيف الهجرة نحو أوربا.
كما يلاحظ أن هذه الانتكاسات السياسية تتزامن مع التهافت الإقليمي والدولي المتزايد على إفريقيا، في سياق السعي إلى تعزيز النفوذ، والتموقع في مناطق استراتيجية داخل القارة، وهو ما تعكسه توجهات عدد من القوى الدولية كروسيا والصين اللتان تعتمدان على المدخل الاقتصادي، وعلى استثمار تراجع النفوذ الفرنسي في عدد من المناطق الإفريقية، إضافة إلى طموحات عدد من الدول الأخرى كتركيا واليابان في هذا الخصوص، مع توالي الأزمات الاقتصادية جرّاء الحرب الجارية في أوكرانيا وما فرضته من بحث عن موارد جديدة لمصادر الطاقة، وأخرى تدعم الأمن الغذائي.
تراجع النفوذ الفرنسي بشكل ملحوظ داخل القارة، وهو ما برز بشكل جليّ مع طرد القوات العسكرية الفرنسية من مالي، وتنامي الاستياء من التواجد الفرنسي في عدد من المناطق الإفريقية التي تبيّن مع مرور الوقت أنه يسعى إلى تكريس الانتظارية والتبعية بدل مساعدة هذه الدول على ركوب قطار التنمية، وبناء المؤسسات وتعزيز الأمن.
وقد طالبت دول الاتحاد الإفريقي غير ما مرّة البلدان الأوروبية بإرساء تعاون وشراكة متوازنين يستحضران مصالح القارة، ويعكسان استيعاب التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي عرفتها إفريقيا على امتداد العقود الثلاثة الأخيرة.
علاوة على هشاشة الوضع السياسي الذي مازال يتلمّس الطريق نحو ترسيخ الممارسة الديمقراطية، لا تخفى تداعيات الصّراع الدولي القائم بين القوى الدولية الكبرى كفرنسا وروسيا في سياق تعزيز النفوذ داخل هذه القارة الغنية بإمكانياتها الطاقية وثرواتها الطبيعية ومكوناتها البشرية المتنوعة والشابة، وهو الصراع الذي تجاوز البعد الاقتصادي إلى مظاهر عسكرية تذكّر بزمن الاستقطاب الذي ساد في ظل الحرب الباردة.
عبّرت الكثير من الدول عن رفضها وتنديدها بهذا الانقلاب الذي يمثل ضربة للتجربة الديمقراطية الفتية بالبلاد، فيما فرضت المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (الإكواس)، عقوبات اقتصادية ومالية على قادة الانقلاب، بل وهدّدت باستخدام القوة العسكرية ضدهم ما لم يتم إعادة الأمور إلى نصابها.
علاوة عن الإكراهات الاجتماعية التي تعيشها النيجر والتي تعكسها نسب الفقر المتزايدة، وتصاعد حدّة الهجرة نحو الخارج.. بالإضافة إلى التحديات الأمنية التي يطرحها تمدّد الجماعات المسلحة في المنطقة، فإن دخول أطراف خارجية على الخط يمكن أن يعمق الوضع أكثر، بصورة تتجاوز حدود البلاد إلى منطقة الساحل الإفريقي برمتها.
إن توالي الانقلابات العسكرية في إفريقيا؛ يمثّل ناقوس خطر، ينبغي على الدول الإفريقية مجتمعة أن تستوعب مخاطره وانعكاساته على سيادة وأمن دول القارة، والعمل بشكل جدّي ومسؤول على التصدي لكل العوامل الداخلية والخارجية التي تغذّيها.
إن أول طريق كفيل ببناء الدولة؛ وتقوية مؤسساتها؛ هو تعزيز الممارسة الديمقراطية وترسيخ التداول السلمي على السلطة، كما يمكن للبلدان الإفريقية أيضا استثمار الصراع الدولي الراهن والتموقعات الرامية لإرساء نظام دولي جديد، في تنويع شركائها، وفي الخروج من تحت مظلّة بعض الدول الأوروبية كفرنسا، التي طالما دعّمت الاستبداد وعدم الاستقرار داخل القارة؛ بل وكرّست تبعية دولها، ضمانا لمصالحها الضيقة.
المصدر: وكالات