“باستطاعة كافة الرجال تقريباً تحمل المحنة، لكن إذا أردت أن تختبر شخصية الرجل، أعطه السلطة” (أبراهام لينكولين)
ما السلطة؟
معتقل بأشعة ما فوق بنفسجية يسرق منك سلافة الحياة.. الظامئ إليها، مثلما يرتوي بملح البحار.. شرك بيت العنكبوت للحالمين بنياشين التميز والتفوق وللغاضبين على شكل لباسها وإيقاع مشيتها وهندسة جسدها المغاير لما تعلموه في كتب الفلاسفة المثاليين والقانونيين الحالمين جدا.
مكافأة الوردة بالذبح.. جزاء سنمار، وضع قنبلة على شفتي قبلة.. منذ أول القتل إلى آخر العمر، لا تمسك السلطة إلا بتلابيب الأشياء وشبح الظلمة.. لأن لها دوما شهية الكلاب المدربة على الصيد، والموت في حدائقها صديق أليف.. يد تلهو بقطع الشطرنج، قبضة ريح وريشة للهباء.. امرأة تفتح صدرها للعاشقين ثم تطويه مثل قبر.. ضوء جاذب لفراش الليل ومفتاح للجحيم، عش الدبابير ووكر أفاعٍ هي.
السلطة تداول رجالاتها وتبقى.. تقتات على الأنسجة الحيوية لمن تمنحهم منصة التتويج بكراسي مريحة.
بضعة مهج الدنيا تبيد، وكيد بلا حدود هي، قادرة على صنع الأعاجيب لأن: “السلطة تعني بكل بساطة إنتاج آثار مرجوة” (برتراند رسل).
ليل يخفي تجاعيده عن خيوط النجوم، سرير يؤثث طقوسه براحة الغدر ونسيج الخيانة وشهوة الدم حيث يسبق السيف دوما العدل.. آلة عجيبة لترويض الخيول، تقود فرسان عشاقها نحو المهاوي السحيقة.
“السلطة أول الحيوان فينا”، ألم يقل ميكيافيللي في كتابه “الأمير” الذي أطلق عليه موسوليني وصف “ملازم رجل الحكم”: “على الأمير الذي يجد نفسه مرغما على تعلم طريقة عمل الحيوان، أن يقلد الثعلب والأسد معا، إذ إن الأسد لا يستطيع حماية نفسه من الأشراك، والثعلب لا يتمكن من الدفاع عن نفسه أمام الذئاب، ولذا يتحتم عليه أن يكون ثعلبا ليميز الفخاخ وأسدا ليرهب الذئاب، وكل من يرغب في أن يكون مجرد أسد ليس إلا، لا يفهم هذا”.
الخيانة ملح الوفاء في السلطة.. هي كذبة المنابر، شهوة الأمير اللامتناهية للخلود، خدعة الكلام في المجالس ورائحة مسكونة بالخوف والضياع. السلطة حفلة الألم، منطقة مسيجة بالكوابيس، الرعشة المصاحبة لكل عضو، في الجسد أو في البرلمان.. حذر التربص، شهوة القنص ونصب الشراك للأحلام المزعجة.
حزبائية اللون تكتسي شكل الكرسي الذي تقتعده، سليلة النكايات، لا تنفرج أساريرها إلا عن فرح بجراح الآخرين: الأعداء المحتملين، إذ في السلطة لا بد من عدو في الحرب أو تراتبية في لحظة السلم، بهدف الوفاء للتقاليد التاريخية والطقوس الضرورية لتجسدن مراسم كرنفال السلطة.
مخدر لإعداد الوصايا قبل الذهاب إلى الجنازة.. إدمان التعليمات والوباء الجماعي للأمر بغير معروف.. حين ترفع السلطة يدها للتحية، لا يعرف العاشق هل هي يد للسلام أم للوداع الأخير تمتد.
في المسافة بين خطو وآخر ترسم السلطة سكة قبور عشاقها.. في ميزانها، هي أو لا أحد .. تدفن موتاها فلا تحس بطعم الأسى ولا بواجبها في البكاء، ولا تحرر أعداءها إلا لصناعة باقة من التمجيد لعرشها، محاكاة لما فعلته كليوباترا بالقائد الروماني مارك أنطوان.
في ميزان السلطة، عين السخط كعين الرضا تبدي المساوي .. حواجز شفيفة بين المقدس والمدنس، لا مجال في دائرتها للصدفة، والحرب مجرد حادثة سير في منعطف التاريخ أو إعادة ترسيم حدود غصن الحمام.
السلطة باب مشرع على غواية الغياهب، الطعم المر في الفم لكل مشتهى .. فم تنين أسطوري، بؤرة للجمر، هي لعنة التوقعات حين تخيب.. لهاث الناسوت للدخول في ملكوت اللاهوت، لتأبيد الرموز والطقوس والشهداء.. هي التي تحيل الأيام إلى رماد الصمت، وتخلق البهجة من شرنقة الأكاذيب، وعود بالقناطير ووفاء بالبخس منها، باب لتجميع الأغراض.. مديح وهجاء، غزل ورثاء.
كان الملك الراحل الحسن الثاني يرفض وصمها باللعب، لأن السلطة جد.. الشهوات، لهيب الحرب، جمرة الحيوان في أحشائنا، نشوة الشهرة في جناح الوقت. لو تألقت كل أغصان الأشجار، وسيقان السنابل، وضوء القمر وشعاع الشمس وهبة ريح الغروب، لما نسجت بيتا واحدا لمدح السلطة. من حيث الدلالة المعجمية “للسلطة”، نجد في “لسان العرب” حوضا دلاليا واسعا يشترك في أبعاد الهيمنة والمعرفة والقوة والسيادة والسيطرة والغلبة والحجة والبرهان، على الشكل التالي:
سلط: من السلاطة وهي القهر والسيادة والهيمنة والحدة والشدة والسطوة والحزم والتأثير. فالسليط طويل اللسان، وما يضاء به من زيت وغيره، والسليطة: الفصيحة حديدة اللسان أو من اشتد صخبها.
السلط: القوائم الطوال، والسلطان: الحجة والبرهان وهو القاهر وحجة الله في أرضه، والأمراء سلاطين لأنهم تقام بهم الحجة والحقوق، والسلطة: السهم الطويل وإطلاق القدر والقهر.
في نحو السلطة لا قاعدة واحدة صالحة للإعراب، لأن الكل فيها مبني على الخفض أو الرفع، على الكسر أو النصب أو السكون إلى الأبد. ولأنها تلجأ إلى التعميم، تمنح نفسها حق الحديث المشرعن باسم الآخرين: الله والإنسان والمؤسسات، وما بين الأرض والسماء من هواء وماء ونار وتراب، وتسلب الكل حقه في إنتاج قوله أو بلاغته الخاصة، وتتكئ على الإبهام القصدي للمعنى في خطابها، لإيقاع الآخرين في شرك التحليل والتعليق والتفسير لا التأويل؛ لأن نص السلطة مقدس شرعا، لذلك تعتبر المعارضة مجرد حاشية على متن السلطة، فـ”لا تحكم لغة السلطة وتأمر إلا بمساعد من تحكمهم، أي بفضل مساهمة الآليات الاجتماعية القادرة على تحقيق ذلك التواطؤ الذي يقوم على الجهالة، والذي هو مصدر لكل سلطة” (بيير بورديو).
تجاه السلطة، لا خطوة تقود لغير الجحيم نحو الممالك الباذخة.. غريزة البدايات، سليلة النهايات، فتنة نرجس بانكسار صورته على ظل ماء الغدير.. لا تقبل بالنديم ولا الخصم، وتزج بعشاقها كما بأعدائها في خمر لذة النصر أو كرع كأس مرارة الهزيمة. الكل لديها سجين، وحبل المودة فيها أقصر من حبل الكذب، لذلك لا يغويها لحن قرابة الدم، حنو الأخوة ووفاء البنوة، “فالسلطة لا تفسد قدرة صاحبها على الحب فقط، بل تفسد أيضا تلقائية الحب لدى الغير؛ فصاحب السلطة لا يمكنه أبدا أن يتأكد من نزاهة الحب الذي يعلنه له الأصدقاء وذوو القربى، لأنه من الممكن بسهولة أن يكون هذا الحب محض نفاق ورياء، فضلا عن ذلك إن حب الرياء ينمو بما يقتات، فأولئك الذين يرفضون أن ينافقوا يغدون مكروهين منبوذين منفيين، في حين إن المنافقين يكافؤون”.
في السلطة يحضر الأموات دوما ليبرروا بقاء الأحياء، أو لنعيد كتابة التاريخ على ما تبقى فيهم من أثر. السلطة فخ الطامحين، قلادة لأسر الأحلام والحاجة إلى إيقاظ الفتنة، حيث القبر يصلح لاستقامة الظهور المحدودبة.. لهاث التعاليم، حقول تزرع بالجثث وتروى بالدم ودماميل التاريخ.
في السلطة الكرسي مصيبة والجالس عليه دوما مصيب.
فيها يصبح الحجام مسؤولا عن سقوط الصومعة. لذلك، فالداخل إليها مفقود والخارج منها مقدود، لأنها العتبة العليا لتجسيد بُعد الحق في امتلاك حجية التأويل، حق العنف وتبرير الخروج عن السياق، وحق إرسال الآخرين إلى الحج أو الجحيم على حسابها الخاص، بيت الله أو بيت النار سواء.. وعدالة السلطة هي ما شخصه شكسبير في مسرحية “الملك لير”، الذي قال: “الكلب يطاع وهو يحتل منصبا”، ومن لم يعجبه صوته فسيعجبه سوطه.
كل سلطة تتزين بعشب البراءة وتطعم الحشود أساطير دافئة لينسوا دموعهم كل ليلة حين يهجعون.. ويحرصوا على إزالة السخرية المرتسمة على وجوههم حقدا وكراهية.
السلطة نظام كلي لا يقبل التنازع في جزئياته، هي الروح المطلق أو الفكرة الكلية لارتقاء الحيواني فينا من الأدنى إلى الأعلى، دون أن يتخلى عن بدائيته الأولى، أقصد وجوده الطبيعي، هي اللذة في استقطاب أقصى حد من الألم بغية الحصول على أكبر قسط من السعادة، لذلك تبدو السلطة العتبة العليا التي تجافي حدود العقل والطبيعة معا. لذلك فـ”إن السجن هو المكان الوحيد الذي تبرز فيه السلطة في حالتها العارية وأبعادها الأكثر مبالغة، خاصة وهي كسلطة أخلاقية… وهذا هو ما يبهر في السجن، إذ إنها أول مرة لا تتخفى فيها السلطة ولا تتقنع، وتبرز كتجبر مبالغ في جزئياته الوقحة بذاتها، وفي الوقت نفسه فهو نقي، لأنه مبرر، لأنه يتشكل داخل أخلاقية تؤطر وجوده” (ميشيل فوكو).
فليست السلطة جوهر حقيقة الفكرة الأخلاقية، إنها ديالكتيك هيجل مقلوب على رأسه، الذي أنتج بموجبه الدوغم أو المعتقد المطلق، كل الغيتوهات والغولاكات وأشكال لاغيوتين المستحدثة.
وعلى عكس الحب الذي يشبه طائر البليكان الذي يهب فراخه، حين تجوع، أحشاءه طعاما لينقذها من سغب الموت، فإن السلطة مثل القطة الجائعة التي تأكل أبناءها ببلادة حينا وبذكاء ماكر أحايين أخرى.. فـ”الانخراط في السلطة، هو فعلا أن يموت المرء كإنسان ليولد كحائز للمسؤولية الكبرى” (ألفريد سوفي).
حتى حين تقتل السلطة القمر، وتسدد لإله المطر الضربات القاضية، تظل تبتسم بين الجرح والجرح.. هي تضع دائما الملح حين يكون السكر هو المطلوب، ومع ذلك فعشاقها كثر، وما زالوا يتناسلون ويستمرون.
لا تترك السلطة للذاهبين إليها فرصة إعداد نزواتهم، وفستان أحلامهم. تسكرهم بخمرة الهبة والجاه، وتسلب زهرة عمرهم، هنا يتوحد المعتقل السياسي والمنفي والمضطهد مع الحاكم وحاشيته، أحدهما يشقى في نعيمها والآخر ينعم في شقائها، تلك فتنة السلطة السادرة في غيها. “إن السلطة تتصرف بعنف أو تمارس نفسها كإيديولوجية، تارة تقمع، وأخرى تموه أو تخدع وتوهم، تارة تتقمص زي الشرطي وتارة ثانية تتخذ شكل دعاية. فالسلطة تمارس نفسها كإيديولوجية، حتى عندما تتسلط على النفوس، لا تلجأ بالضرورة إلى العنف، لا تقمع في الوقت الذي تتسلط فيه على الأجساد، بل الصحيح هو أن العنف مظهر أو أثر للقوة المسلطة على شيء؛ فالسلطة تنتج الواقع قبل أن تقمع، كما تنتج الحقيقة قبل أن تضفي عليها رداء إيديولوجيا، قبل أن تجرد أو تموه.
السلطة ليست مؤسسة، وليست بنية، وليست قوة معينة يتمتع بها البعض، إنها الاسم الذي يطلق على وضع استراتيجي معقد في مجتمع معين (…) تحاصر السلطة المغلوبين وتخترقهم مرتكزة إليهم بالكيفية نفسها التي يرتكزون بدورهم إلى التأثير والسطوة اللذين تمارسهما عليهم في صراعهم ضدها” (جيل دولوز).
هي أقوى من حرارة فرن الصائغ، على تذويب المحبين كما المعارضين مثل فص ملح؛ فالسلطة عسل على شفرة حادة، هوس لتفريغ العقد حتى على أعواد مقصلة، وتفريغ للمكبوت في قالب مرصوص بالذهب.
عين لا تنام، لذلك فهي لا ترى جمال النخلة، سحر قطرة الندى كبذرة جمال على خد وردة، نفح الطيب وشذى الأحلام الرغيدة. رغم دواء الديمقراطية، تنتشر السلطة مثل السرطان، حتى في التفاصيل الصغيرة حيث تؤاخي الشيطان. ومع ذلك، فهي ذات أدب جم، توشح المغضوب عليهم بأوسمة شرف وبكلمات من المديح الطيب، وتمشي في جنازة من تكشطهم بسرعة البرق، وقد تبني لهم التماثيل وتطلق أسماءهم على شوارع رئيسية بالعاصمة. لغز ساحر هي، تجتهد دوما في إبراز الواحد كتعدد لا نهائي في وحدة ألوهيتها، ألم يخاطب لويس الخامس عشر برلمان باريس في مارس 1716 قائلا بيقين الديمقراطي الأوحد: “في شخصي وحده تجتمع السلطة، ولي وحدي تعود السلطة التشريعية دون منازع أو حسيب، النظام العام بمجمله يستمد وجوده من وجودي، وأنا حاميه الأول”، وكأن الزمن لم يذهب بعيدا في التحول، وكأن الخليفة الأموي قدم درسه للإمبراطور الفرنسي قبل الدخول إلى قاعة البرلمان، وكرر معاوية على سمع الإفرنجي ما قاله وهو يخطب في الأمة ذات زمن بعيد: “الأرض لله، وأنا خليفة الله، فما أخذته فلي وما تركته للناس ففضلا مني”.
السلطة صراع العلامات والرموز، سلاسل الظلمة وأشواك الفتك، حشرجات الحالمين بالذهاب إلى قمة الجبل. في السلطة تختنق الحقيقة وينطفئ الصدق، تتدلى ضفائرها مثل مشانق وسط السراديب، فهي مالكة مفاتيح الأبواب الموصدة، قناصة الفرص، واهبة الأوهام المعسولة، حس اليقظة في الثعلب القناص لا براءة الطريدة.
سحر غامض يتخطى حدود التخمين ذاك الذي تجسده السلطة؛ فهي تحيي عرسا إذا قتلت نجمة، وتشهر سكينا أذا انكسرت بقبلة. وصاحب السلطة يأمر بإعدام الموج إذا مس معطفه ملح البحر، وبمحو الشتاء من قائمة الفصول إذا داعبه رذاذ المطر، وبنزع الألسنة وإخراس أجراس المدينة، إذا التقطت أذنه الصدى لا نداء الصراخ، لأن غضب السلطة مثل الوباء الجماعي لا يبقي ولا يدر. جاذبية الموت هي، امتلاء رخو بنشيد الهزائم، عنوان اللاطمأنينة الأبدية وبيض لتفقيس الخطيئة.
السلطة ابنة الإنجاب بالليل، أما ما تبقى من نهار فهو فقط لتصريف ما تجمع من ركام الواجبات الثقيلة. هي أنثى في المبنى اللفظي فقط، لذلك فـ”كيدها عظيم”، أما هويتها الحقيقة فهي بنية قضيب الذكورة، ومن “يقبل باستعمال وسائل السلطة والعنف إنما يتحالف مع الشيطان (…) فالسلطة لا توجد إلا في إطار سياق العلاقات الاجتماعية التي تمكن جهة غالبة لفرض إرادتها برغم كل عناصر المقاومة” (ماكس فيبر).
ظلت السلطة حية فيما قضى عشاقها نحبهم ومنهم من ينتظر، لأنها هي روح الأفعى، سارقة عشب الخلود من يد جلجامش. هي الأنثى التي روضت أنكيدو وأفقدته قوة الطبيعة، وجعلت الفاتنة الأسطورية كليوباترا ترقد باطمئنان إلى جانب الأفعى في غرفة نومها، مخاطبة إياها: “تعالي يا أفعى الصحاري، عانقي أفعى القصور”.
ليس في جسد السلطة تجاعيد، لذلك فهي تظل تشع بسحرها، ولا تحتاج لعملية تجميل، وتأسر هواة الليل الباحثين عن آخر النفق، والسادرين في غي أحلامهم. لم تبق يوما أرملة، لأنها تتزوج الطامحين إلى عصر حليب نهديها، حتى قبل أن يذبل الحذاء الذي مشت به في جنازة معشوقها السابق.
لا تأبه لتغير الفصول ولا يتعبها تغيير الوجوه، ورغم أنها لا تعود إلى كرسيها مثل صياد خائب، فإن لها دوما إحساس التذمر والانتقام نفسه الذي تحمله الشباك الفارغة.
للسلطة عادات سيئة؛ لا ملابس داخلية لها، لا جوارب ولا صدريات ولا حاملات نهود، لأنها تشعر بالخوف مما تحمله بداخلها، وتحول ضفائرها إلى مشانق بدون عطر، فالسلطة لا تطمئن حتى لسلطتها، فهي تنام بتاجها فوق رأسها خوفا من أن تحس مثل ملك مخلوع، وتريد من الأحلام أن تنحني لها بخشوع كل هجعة ليل. وكلما اهتز عرش عشاقها، غادرتهم نحو الغزاة الجدد بابتسامة مضيفة الطائرة نفسها. السلطة عاهرة قد تمنح ذاتها للآخرين كلما أصاب الجالس بجانبها سهو أو وسن. فقد استخلص الحكيم ابن جماعة وهو قاضي القضاة على عهد المماليك في القاهرة في كتابه “تحرير الأحكام”، بعد تفصيله في أمر ضرورة الالتزام بالطاعة لكل سلطة تمت لها الغلبة: “فإن خلا الوقت عن إمام فتصدى لها من هو ليس من أهلها، وقهر الناس بشوكته وجنوده بغير بيعة أو استخلاف، انعقدت بيعته ولزمت طاعته، لينظم شمل المسلمين وتجمع كلمتهم، ولا يقدح في ذلك كونه جاهلا، أو فاسقا في الأصح، وإذا انعقدت الإمامة بالشوكة والغلبة لواحد، ثم قام آخر، فقهر الأول بشوكته وجنوده، انعزل الأول، وصار الثاني إماما، لما قدمناه عن مصلحة المسلمين وجمع كلمتهم”.
من وجد مفاتيحها ضاع في بطون مهالكها، ومن أراد زرع زهر الصواب في حدائقها، رمته إلى حافة الجنون أو أوصدت عليه أبواب النسيان، فهي تحتاج دوما إلى من يبرز أنه جدير بها. فالموت شهادة حياة السلطة، في كنفها يبدو مبررا بالقانون ومحميا بالكراسي، ركام تيه الطرقات، حيث لا تنفع إرشادات علامات المرور. وحده المتنبي، بفراسته، يقظته وبهائه، كان يميز المهاوي البعيدة في دهاليز السلطة، ولم يسر فيها بحذر الحكيم، فقاده الطريق نحو الجحيم.
في ديوان السلطة يتفق الخصمان اللدودان على الصلح، من أجل القضاء على بعضهما البعض بقفازات حريرية. ومع ذلك، فللسلطة قوانين ونواميس، مؤسسات وضوابط، ودستور تخلقه لتخرقه دوما لتضمن استمرار سلطة سحرها قبل تغيير أزيائها.
للسلطة أساليب بهية، دوما وستبقى هكذا إلى الأبد.
المصدر: وكالات