“طفولة بلا مطر”، هو عنوان إصدار جديد للدكتور إدريس لكريني، أستاذ التعليم العالي في كلية الحقوق بجامعة القاضي عياض في مراكش رئيس منظمة العمل المغاربي. لكن هذا الإصدار مختلف تماما عما صدر له من كتب ودراسات معمقة تناولت مواضيع ذات الصلة بالقانون الدولي العام والعلاقات الدولية، وتدبير أزمات التحول الديمقراطي، وإدارة الأزمات الدولية.
المولود الفكري الجديد للدكتور إدريس لكريني إضافة نوعية، حيث قال عنه في المقدمة: “في غمرة الانشغال الأكاديمي بكثير من الأحداث والقضايا الدولية الصاخبة التي أصدرت بصددها عددا من المؤلفات والدراسات والمقالات، كنت أتساءل مع نفسي دائما: ألم يحن الوقت بعد للالتفات إلى تلك الذكريات المتراكمة التي تغمرني من حين لآخر وأجد فيها متنفسا وحنينا للطفولة؟”. وقبل ذلك يعترف المؤلف في مطلع المقدمة قائلا: “كثيرا ما راودتني فكرة كتابة هذه المذكرات وتقاسمها على نطاق أوسع بعد أن حكيت جزءا منها لأسرتي الصغيرة ولبعض الأصدقاء”.
يقع كتاب “طفولة بلا مطر” في 152 صفحة، ويتكون متنه السردي من 24 عنوانا فرعيا، هي حسب الترتيب الذي اختاره المؤلف: موعد مع الحياة، في أحضان المدرسة، “سمرا” في موسم الحصاد، عازف في المقبرة، لعنة الجفاف، الرحيل، في الطريق إلى “العين”، سياحة روحية، الجفاف، “صنم” في الفصل، موسم الزيتون، الحنين، مغامرة في الجبل، مهمة تحت الشمس، في رحاب “دار الشباب”، قلق المدينة، أنيق في الفصل، السكن الجديد، البطل المزور، في ضيافة “الحرم الجامعي”، هدوء قبل العاصفة، عاشق “الست”، خارج الحدود، أحلام على مشارف المدينة.
كانت هذه العناوين جميعها ذات دلالة عميقة تحمل نفحة فلسفية، تشكل في حد ذاتها موضوع قراءة تحليلية للمرجعية الفكرية للكاتب لكريني، خاصة وأنه أرفق كل عنوان فرعي بمقولة مختصرة لشخصية عربية أو عالمية مشهورة بعطائها الغني والمتميز في مجالات الأدب والشعر والفلسفة والعلوم والسياسة والفنون والموسيقى. ومن هذه الشخصيات جلال الدين الرومي، ونجيب محفوظ، وعباس محمود العقاد، وتوفيق الحكيم، ومحمود درويش، ومحمد الماغوط، وواسيني الأعرج، وكونفشيوسن، واسحاق نيوتن، وآلبرت انشتاين، ومهاتما غاندي، وبرنارد شو، ودوستويفسكي، وألبير كامو، وهيلين كيلر، وفان غوخ.
سرد المؤلف في هذا الكتاب جوانب من سيرته الذاتية ومذكراته عن مرحلة طفولته في مسقط رأسه بقرية بني عمار نواحي العاصمة الإسماعيلية مكناسة الزيتون، ثم في مدينتي مولاي إدريس زرهون والعاصمة العلمية فاس، واستعمل في ذلك لغة جميلة من النوع السهل الممتنع، بأسلوب بلاغي جميل وممتع، يقوم على الوصف الدقيق للأمكنة والمشاعر والوقائع، مما يشد القارئ ويساعده على متابعة مجريات الأحداث السعيدة والأليمة التي عاشها المؤلف بدون الإحساس بالملل بل التعاطف مع الكاتب، وأحيانا الإحساس بتقاسم عدد من التجارب معه، خاصة إذا كان القارئ ينتمي إلى المجال البيئي والسوسيو-ثقافي والاقتصادي نفسه الذي تدور فيه أحداث “طفولة بلا مطر”.
وحظي الكتاب بمتابعة إعلامية واسعة في الصحافة المكتوبة وفي المواقع الإلكترونية والإعلام السمعي البصري، حيث أجمعت كثير من المقالات على أنه عمل إبداعي يتيح للمتلقي “مساحة رحبة لمتعة القراءة والاطلاع على جوانب دافئة من حياة الكاتب، الذي ألِفه باحثا أكاديميا مدججا بالصرامة العلمية والأسلوب البحثي الجاف، حيث يتحرر من الصرامة الأكاديمية ويعيد إحياء أحاسيسه الإنسانية بأسلوب ممتع ومشوق”. واستنتجت مقالات أخرى أن الكتاب مذكرات ومزيج فريد من الدفء والعذوبة، حيث يرتدي لكريني قبعة الأديب ويقدم للقراء رحلة خاصة إلى ذكرياته الطفولية، بينما رأى آخرون أن الكاتب يتميز في سرد الذكريات بأسلوب يمزج بين دهشة الطفل وبساطته، وبين سخرية البالغ وفكاهته، كما أنه تحرر من الصرامة الأكاديمية المعروف بها في أوساط الجامعة وفي إنتاجه الأكاديمي الغزير وحضوره المتميز في وسائل الإعلام المختلفة.
وإذا كنت أشاطر أصحاب هذه الاستنتاجات فيما ذهبوا إليه، فإن قراءتي لكتاب الدكتور لكريني كانت مفيدة وماتعة جدا، لأنها أعادتني إلى ذكريات طفولة مشابهة قضيتها في أحد الأحياء الشعبية الهامشية في العاصمة الرباط خلال الستينات والسبعينات من القرن الماضي. كما أن هذه القراءة المتفاعلة جعلتني أخلص إلى الملاحظات التالية:
عنوان الكتاب مثير جدا، فالطفولة ترتبط عادة بالحنان وبالرعاية وبالأمن والبراءة والسعادة، ولذلك قد نقبل سماع “طفولة بلا مأوى”، “طفولة بلا حنان”، “طفولة مشردة”…. أما عنوان “طفولة بلا مطر”، فقد يبدو للوهلة الأولى عنوانا غريبا حين يتساءل القارئ: وما علاقة الطفل بالمطر؟ خاصة والأطفال عادة يكرهون المطر لأنه يمنعهم من اللعب خارج البيت. لكن الغوص في فصول الكتاب يبين أن علاقة الطفل إدريس لكريني بالمطر والماء كانت علاقة وجودية، لأنه يعيش في وسط قروي يعتمد في نشاطه الاقتصادي، من فلاحة وتربية الماشية، على الأمطار وما تجود به العيون والآبار من مياه. وقد توقف الكاتب كثيرا في وصف حالات الخصب النادرة وحالات الجفاف الكثيرة المترتبة عن كمية سقوط الأمطار في قريته. كما أبرز المعاناة التي عاشها سنوات طفولته في جلب الماء من أماكن بعيدة إلى بيت أسرته، نهارا وليلا. كما كان من بين هوايته المفضلة حفر آبار صغيرة. وبالتالي، فإن العنوان “طفولة بلا مطر” قد يحيل إلى عناوين مرادفة من قبيل: “طفولة بدون خصب”، أو “طفولة بدون رخاء”. وقد يوحي بعناوين مناقضة من قبيل: “طفولة شقية”، أو “طفولة عناء”، أو “طفولة كفاح”…
افتتح الكاتب سيرته الذاتية بفصل اختار له عنوانا جامعا مانعا هو “موعد مع الحياة”، وكأن حياته لم تقترن فعليا سوى بحدث له كثير من الدلالة والتأثير في حياته لاحقا، هو الذهاب إلى الجامع (المسيد) ليتعلم القراءة والكتابة ويحفظ آيات قرآنية. واختتم سيرته الذاتية بفصل “أحلام على مشارف المدينة” وكأنه إعلان عن تحقيق أحلامه خارج القرية عندما التحق بالمدينة، مدينة فاس ليدرس في الجامعة. هنا لم يعد إدريس لكريني طفلا، بل انتقل إلى مرحلة بداية تشكل شخصيته الأكاديمية بولوج التعليم العالي، وتعميق مداركه، وتعلم مناهج البحث، ومن ثمة انطلاق مسيرة الصعود في سلم البحث العلمي والأستاذية.
تحرر الدكتور إدريس لكريني في إصداره الجديد “طفولة بلا مطر” من الصرامة الأكاديمية المعروف بها في أوساط الجامعة وفي إنتاجه الأكاديمي الغزير. لكنه في رأيي أتاح لنا التعرف على جوانب من حياته في طفولته ساهمت في جعله شخصية صارمة وجدية في رجولته. وإذا كانت المقولة الشهيرة لعالم النفس المشهور سيغموند فرويد تقول إن “الطفل أب الرجل”، فإن صرامة الكاتب تعود إلى القسوة وشظف العيش والمعاناة التي واجهها وتحملها بكثير من الصبر والتحمل في مراحل مختلفة من طفولته، سواء في قريته أو حين هاجر لمتابعة دراسته في بلدة مولاي إدريس زرهون ومدينة فاس، بعيدا عن أمه وأخيه وأصحابه ومعارفه. وتلك عوامل جعلت منه “رجلا قبل الوقت” كما يقال بالتعبير الدارج المغربي، فقد عاش مع أمه وكان بمثابة رجل البيت لأن والده كان عاملا مهاجرا في فرنسا يغيب زهاء ثمانية أشهر في السنة. وتابع دراسته في المرحلة الإعدادية والثانوية بعيدا عن أهله، مقيما في السكن الطلابي بالداخليات أو عند بعض الأقارب، وأحيانا مكتريا لسكن وضيع في أحياء شعبية فقيرة. لذلك نشأ إدريس طفلا عصاميا مكافحا، لم يتعلم في المدارس الحكومية فقط، بل في مدرسة الحياة.
كان الطفل إدريس تلميذا مجدا ونجيبا ومواظبا في الفصل الدراسي، وشغوفا بالمطالعة والقراءة في المكتبات العمومية. وفي فصل “في رحاب دار الشباب” يصف الكاتب زياراته المتعددة لمكتبة دار الشباب بعد أن انخرط فيها واطلع بشغف على ما تحتوي عليه من روايات وقصص وكتب تاريخية وسياسية مختلفة، قائلا: “إنها مدرسة حقيقية في الثقافة والإبداع”. هذا الميل للثقافة والمكتبات يعد أمرا غير عادي بالنسبة لطفل في سنه يفضل اللعب مع أقرانه، بل ساعده ذلك على تدوين خواطره وذكرياته في دفتر صغير كما ذكر ذلك في الصفحة 107.
وتواصل هذا الفضول المعرفي والثقافي لدى الطفل إدريس وهو تلميذ في الثانوية، إذ انشغل بمستجدات وأحداث الجامعة والتخصصات العلمية، قبل أن يحصل على الباكالوريا. لذلك زار ساحة جامعة محمد بن عبد الله في منطقة ظهر المهراز بفاس رفقة بعض أصدقائه لمشاهدة عرض فني ساخر للفنانين بزيز وباز. وقد أعجب التلميذ إدريس كثيرا بأجواء الجامعة وعبر عن ذلك قائلا في الصفحة 127: “تمنيت لو كنت طالبا لأستمتع باستمرار بهذه الأجواء المختلفة وبهذا الفضاء الفسيح الذي يوحي بقدر من النضج، زرنا كليتي الحقوق والآداب…”، ويستطرد واصفا مشاعره وتأثره البالغ بالفضاء الجامعي الطلابي، فيقول في الصفحة 128: “كانت زيارتي للحرم الجامعي مفيدة للغاية، فقد وقفت على نضج الطلبة وشعرت بقدر كبير من الحرية والمسؤولية داخل هذا الفضاء الرائع والفسيح، وأصبحت متشوقا أكثر للحصول على شهادة الباكالوريا حتى ألج إحدى كلياته، بل وشعرت أنها كانت حافزا للاجتهاد أكثر”.
ومما لا شك فيه أن هذه اللحظة كانت فارقة في الحياة الأكاديمية للطفل إدريس، إذ اختار مساره الدراسي قبل أن يلج الجامعة، ولم يكن في حاجة إلى موجه تربوي يغرقه بالوثائق والشروحات بدون طائل كما هو الحال اليوم في نظامنا التعليمي، بل كانت كافية له زيارة ميدانية إلى الفضاء الجامعي، مع الإصرار على التثقيف الذاتي من خلال تحصيل المعلومات بالمواظبة على المكتبات والإدمان على قراءة الكتب ومطالعة المجلات ومتابعة البرامج الإخبارية في التلفزيون والإذاعة لفترات طويلة.
كانت للطفل إدريس علاقة خاصة بوسائل الإعلام الجماهيرية. لم يكن يتوفر على إنترنت أو هاتف خلوي في ذلك الوقت، كما هو حال أطفالنا اليوم. يذكر في الصفحة 22 في فصل “سمرا في موسم الحصاد” أن منزلهم أصبح يتوفر على تلفاز اقتناه أبوه ووضعه عاليا فوق مرفع خشبي، وأصبحت أمه تحظى بمعاملة خاصة من لدن جاراتها اللائي يزرن بيتهم بعد الفطور في شهر رمضان لمتابعة مسلسل ديني. وجود التلفاز في البيت مكن الطفل إدريس من متابعة البرامج والأخبار، كما كان يستمع عبر راديو كاسيت لأغاني كبار المطربين، منهم المطربة أم كلثوم (تربى على الذوق الفني الرفيع منذ صغره). وفي مرحلة لاحقة تلقى من أبيه عبر البريد مذياعا صغيرا مزودا بساعة منبه. ويصف الكاتب في الصفحة 106 علاقته بالمذياع قائلا: “أصبح المذياع أنيسا دائما لي خارج أسوار الإعدادية، في زمن لا وجود فيه للإنترنت أو الحواسيب أو الهواتف المحمولة، فهناك برامج كثيرة أدمنت الاستماع إليها حينذاك، كـ(علبة الأسطوانات) والبرنامج الثقافي (شكري يتحدث) و(سمير الليل)، ومسلسلات إذاعية، وتغطيات حماسية لمباريات كرة القدم، وسهرات لكبار الفنانين، وأصبحت مع مرور الوقت مستمتعا بهذه البرامج، أشعر كأن الصحافيين من مقدمي الأخبار ومنشطي البرامج أصدقائي”.
ويبدو أن الطفل إدريس، في علاقاته الخاصة بوسائل الإعلام الجماهيرية وشغفه بمتابعة ما تنتجه من برامج وتقديره لمهنة الصحافة، كان مؤهلا لمتابعة الدراسة في أحد معاهد تكوين الصحافيين والتخرج والعمل في الإذاعة أو التلفزيون. ولذلك، قد نفهم سبب الحضور الإعلامي المتميز للدكتور إدريس لكريني في مختلف وسائل الإعلام، وتعامله الاحترافي مع الكاميرا والميكروفون في تصريحاته وتحليلاته حيث يتحدث بطلاقة وبإيجاز مفيد، بدون ارتباك أو استعانة بورقة، مما جعله مطلوبا من الإعلاميين داخل المغرب وخارجه، في مختلف المناسبات ذات الصلة بتخصصه الأكاديمي.
لكن الدراسات القانونية جذبته أكثر لاعتبارات لم يفصح عنها في سيرته الذاتية، ولكن قد يكون من بين أسبابها متابعته المتواصلة لمجريات الأحداث المحلية (الإضراب العام في المغرب يوم 14 دجنبر 1990) والأحداث الدولية (حرب الخليج الأولى عام 1991).
يختتم الكاتب سيرته الذاتية قائلا: “ينتابني شعور بالمسؤولية، وإحساس بأنني كبرت، وأنا على أبواب خوض تجربة جديدة، داخل الجامعة التي أصبحت تغريني بفضائها المنفتح، وتجذبني بعوالمها الفكرية الفسيحة، حتما ستكون محطة مفيدة، لكنها تتطلب مزيدا من الصبر والمثابرة”. ومن دون شك، فإن الدكتور إدريس لكريني بذل في مساره الجامعي جهدا كبيرا، وعايش أحداثا مهمة، وواكب متغيرات كثيرة داخل المغرب وخارجه تستحق أن يدونها في كتاب آخر. كما تستحق “طفولة بلا مطر” أن تدرج ضمن المقررات الدراسية لوزارة التربية الوطنية ليتعرف التلاميذ المغاربة في الوسط القروي والحضري على تجربة طفل قروي فقير استطاع أن يشق طريقه نحو النجاح بصبر وكفاح، ويصير أستاذا جامعيا وباحثا أكاديميا مرموقا داخل المغرب وخارجه. وعلى المستوى الفني، تمثل السيرة الذاتية مادة غنية ومشوقة لمسلسل تلفزي أو فيلم سينمائي، لعلها تحظى باهتمام المنتجين وصناع الفرجة السمعية البصرية في بلادنا.
*عضو الشبكة الدولية للصحافيين العرب والأفارقة
المصدر: وكالات