تطرق الباحث المغربي المصطفى حميمو، في مقال له بعنوان “طبيب إنگليزي كشاهد عيان من قلب حريم السلطان”، لمرحلة قدوم الطبيب الإنجليزي العسكري ويليام لامبريير إلى المغرب عام 1789، إبان بدايات الثورة الفرنسية، بطلب من سلطان المغرب سيدي محمد بن عبد الله، وما عاشه وشاهده حين كان حبيس مراكش تحت رحمة السلطان، قبل أن يتلقى منه أمرا لدخول حريمه، من أجل علاج إحدى نسائه”.
هذا نص المقال:
نحن مرة أخرى مع نفس الطبيب الإنجليزي العسكري ويليام لامبريير William Lemprière (1751ـ1834) الذي جاء إلى المغرب عام 1789، إبان بدايات الثورة الفرنسية، بطلب من سلطان المغرب سيدي محمد بن عبد الله، لعلاج ابنه الأمير عبد السلام من مرض في العينين. في الحلقة الثانية من هذه السلسلة عشنا معه فرصة دخوله إلى حريم هذا الأمير بتارودانت لعلاج بعض نسائه بأمر منه. وفي هذه الحلقة لما كان حبيس مراكش تحت رحمة السلطان تلقى منه أمرا لدخول حريمه هو كذلك من أجل علاج إحدى نسائه. فرصة أخرى لا تقدر بثمن، عاشها ورأى وسمع فيها العجائب فدوّنها في كتابه الذي عرف بفضلها في إنجلترا رواجا منقطع النظير فتطلب خمس طبعات طيلة عشرين سنة منذ طبعته الأولى. فماذا يا ترى شاهد وسمع وعاش هذا الطبيب هذه المرة في حريم السلطان؟ دوّن كل ذلك في كتابه بقوله:
“شهر من بعد مغادرة مريضي مولاي عبد السلام مراكش للحج بمكة، تلقيت باندهاش كبير وسرور عارم أمرًا من الإمبراطور بالذهاب فورًا إلى القصر. فتم إحياء كل آمالي بهذا الخبر السار. كنت أظن أن المقابلة التي استدعيت إليها ستكون فرصة خلاصي من الخدمة التي ستمكنني أخيرًا من رؤية جدران جبل طارق من جديد. فطرت إلى القصر. لكن مع الأسف! عند وصولي إلى البوابة الأولى وجدت عبدًا مكلفا بإعطائي أوامر سيّده. لم يفكر السلطان قط في كسر قيْدي. لقد تذكّرني فقط لاستخدام مواهبي المتواضعة من أجل علاج واحدة من السلطانات كانت مريضة. الأوامر تقضي بأن أراها على الفور وأن أقوم بزيارتها ثانية خلال اليوم نفسه لأمدها بالأدوية الضرورية لعلاج حالتها، وأن أعود بعد ذلك إلى القصر لإبلاغه بحال وضعها الصحي.
تسبب لي هذا الأمر الاستثنائي في حزن كبير وفي دهشة أكبر. لم أستطع أن أتخيّل كيف ألهمتُ فجأة الثقة في نفس هذا الشيخ العجوز الذي لم يُظهر لي شيئًا سوى الاستخفاف بطريقتي في مداواة المرضى بالعلاجات الباطنية. كنت أعرف علاوة على ذلك أنه كان يبغضُني كرجل إنجليزي. فماذا يمكن أن يكون هدفه من إدخالي إلى حريم نسائه الذي لم يسبق قط لأي رجل أوروبي أن دخله؟
وبعد أن أعطى مرافقي أمر الإمبراطور لـ”القايْد”، قادني أحد خصيان الحرس مع مترجمي إلى الحريم الحريز. دخلت الباحة الأولى حيث رأيت حظيات السلطان وزنجيات يمارسن أنشطة مختلفة. وبما أنه لا يمكن لأحد أن يتخيّل بأي معجزة كنت بداخل الحريم، فقد خاف العديد منهن وهربن مني. الأكثر شجاعة من بينهن اقتربن وهن يرجفن من العبد الخصي الذي كان يقودني ليسألنه عمن أكون. وحالما أخبرهن أنني طبيب وأنني قادم لرؤية السلطانة للا زهرة، ركضن لإخبار من هربن. وفي لحظة وجيزة امتلأ الفناء بالنساء والفتيات وهن يرددن مطمئنات: “طبيب نصراني!… طبيب نصراني!”. بعد بضع دقائق، أحاط بي، بأعداد كبيرة، كل هؤلاء المحتجبات الجميلات اللائي كن يخشينني. كنّ جميعهن حريصات جدًا على استشارتي. إذا لم يعرفن الضرر الذي يشتكين منه كن يمددن أيديهن لفحص نبضهن على أمل أن أتمكن من إخبارهن بشيء عن حال صحتهن. وبعد أن بذلت قصارى جهدي لتزكية الرأي السامي الذي تصورنه في البداية عن مواهبي، بقيت مع كل ذلك في أذهانهن مجرد جاهل منتحل للصفة.
ثم حان الوقت لمغادرة هذا الفناء الأول. كانت شقة للا زهرة في الجزء الخلفي من الفناء الثاني. وبما أن هذه المريضة الجميلة كانت في انتظار قدومي فُتح بابها أمامي على الفور. والذي أدهشني هو أنني لم أجد زوجات الإمبراطور محجبات، بالخصوص لما تذكرت كل الاحتياطات التي تم اتخاذها لإخفاء زوجة الأمير مولاي عبد السلام التي لم أتمكن من رؤية وجهها قطّ. كان من السهل الحكم على أن السلطانة كانت جميلة جدًا قبل الحادث القاسي الذي أضرّ بصحتها إلى الأبد. وأتصور أنه لما كان جمالها في عز روعته كانت بلا شك هي مفضلة الإمبراطور. وما كان بالإمكان في تقديري أن تتمتع بتلك الحظوة والمقام من دون إثارة الغيرة لدى العديد من المنافسات اللائي كنّ يجدن أنفسهن مُهانات بسبب ذلك التفضيل الممنوح لإحدى رفيقاتهن، وهن لا يعتقدن أن سحرها كان أكثر جاذبية من سحرهن. أولئك اللائي سبقن أن حظين بالاستحواذ على قلب الإمبراطور، ثم وجدن أنفسهن مهملات من أجل للا زهرة، فأقسمن على السعي لهلاكها. ولم يعُدن يفكرن في أي شيء سوى البحث عن وسائل لتحقيق مشروعهن. فبدا لهن السم هو الأكثر فعالية والأكثر سرعة.
ونتيجة لذلك، قمن سرا بشراء الزرنيخ وخلطوه مع طعام السلطانة. وتم تنفيذ هذه الجريمة بمهارة كبيرة لدرجة أنها كانت تنتج بالفعل آثارها الخطيرة عندما تم اكتشافها. كانت للا زهرة التعيسة تعاني من القيء والتشنجات. كانت ستموت على الفور لو لم تكن لديها بُنية جسمانية قوية. بعد صراعها مع الموت لعدة ساعات، بدأت قوة السم في الانحسار. فلم تعد تشعر سوى بتهيج شديد في المعدة حتى صار ذلك بالنسبة لها حالة اعتيادية. ولم يستطع كل الطب الشرقي علاجه. جمالها، ذلك السبب في تعاستها، قد اختفى تمامًا. وهكذا، فإن عدوّاتها القاسيات قلوبهن، على الرغم من أنهن لم ينجحن في هلاكها، استمتعن جزئيًا بنتيجة جنايتهن، لما رأين ذبول جمالها الذي كان سببا في تعاستهن والذي انمحى إلى الأبد.
كانت للا زهرة حينها فقط في الثلاثين من عمرها. ولم تمنعها حالتها التي ساءت بالتدرج، من إنجاب طفلين. كان أصغرهما لا يزال رضيعا. ويمكن أن يبلغ أكبرهما عامين ونصف. أعترف أنني فوجئت إلى حد كبير بجمال وقوة طفلين مولودين من أم متعبة صحيا. هذان الصغيران خفّفا من سوء مصير من أنجبتهما وحالا دون طلاقها. لقد نسيّ الإمبراطور السلطانة البائسة وأرسلني إليها فقط لأنها سمعت عن وصولي وتوسلت إليه للسماح لي بالحضور لرؤيتها وتشخيص مرضها وعلاجه. وصفت لها بعض الأدوية مع حمية غذائية معتدلة ثم غادرت شقتها.
لكن لم أكد أخطُ عشر خطوات حتى أوقفتني جارية السلطانة للا فطّوم. وهي السلطانة الأولى بسبب أولوية زواجها. جاءت لتطلب مني الدخول عند سيّدتها. وبما أنني قد جئت إلى الحريم فقط لرؤية للا زهرة لاحظت أن مرافقي كان يراقبني بعيون قلقة. فكنت أخشى أن يكون هناك خطر بالنسبة لي بسبب تجاوز أوامر الإمبراطور. ومع ذلك غلب عندي الفضول على الحيْطة والحذر. فسمحت لنفسي بالانتقال إلى شقة للا فطوم من دون القلق بشأن العواقب التي قد تترتب على هذا التصرف الطائش. أبلّغني المترجم شكر السلطانة على اللطف الذي أظهرتُه لها بالمجيء إلى شقتها. وسرعان ما أخبرني نبضها أن الفضول وحده جعلها ترسل في طلبي. ما كانت بها سوى نزلة برد خفيفة. فشعرت بفرح شديد لما تيقنت من الاستغناء عن تقديم أي علاجات لها.
سلطانة الإمبراطور المفضلة، التي لم تكن أقل فضولًا، بعدما علمت بزيارتي لِللا فطّوم، أرسلت بدورها وعلى الفور إحدى جواريها لتطلب مني الحضور لرؤيتها. وسرعان ما جعلني لقب السلطانة المفضلة أقرر الامتثال لدعوتها. كنت سعيدًا لأنني تمكنت من الحكم بنفسي على ما إذا كانت تستحق حقًا أن يتم تفضيلها على منافساتها. وكان اسم هذه السلطانة هو للا الضوْ. عند دخولي إلى شقتها أدهشني جمالها لدرجة أنها لاحظت الاضطراب الذي تسببت فيه رؤيتي لها. أول رد فعل لي مع ذلك الجمال الباهر جعلني أرتكب حماقة كان بالإمكان أن تكلفني غاليا. لقد أظهرت لها دهشتي من تواجد مثل هذا السحر عند امرأة من القارة الإفريقية. وما أن قمت بهذه المجاملة غير اللائقة، حتى شعرتُ بكل الخطر، خاصة أمام الخصي المرافق الذي لم تغفل عينه عني أبدًا.
لكنها لم تبدُ قلقة بشأن هذا الأمر وأظهرت لي أنني لم أكن مخطئًا لما وجدت عندها الملامح الخاصة بامرأة أوروبية. فأخبرتني أنها وُلدت في مدينة جنوّه (مدينة ساحلية بشمال غرب إيطاليا). تقول إنها كانت في سنّ الثامنة لما أخذتها معها والدتها على متن سفينة لنقلها إلى صقلية. حينها تقرر مصيرها لما غرقت السفينة ورماها البحر مع أمها إلى شاطئ ساحل شمال إفريقيا. لسوء الحظ ألقت بها العاصفة على هذه الأرض الموحشة وغير المضيافة. وتم تقديمها إلى الإمبراطور. فتم واحتجازها في حريم نسائه من بعد فصلها عن والدتها. وجمالها الذي بلغ ذروته في غضون سنوات قليلة وحدّة فكرها ورفعة مواهبها، جعلتها ترتقي وتحتل المقام الأول في قلب السلطان. وكانت تعرف جيدًا كيف تحتفظ به، لدرجة أنه لا مرور الزمن ولا ألفة المتعة بها كانا قادرين على النقص من أفضليتها. أما النساء الأخريات في الحريم، اللواتي كن يكرهنها بسبب كونها منافسة من المستحيل عليهن مضاهاتها في النعومة واللطف، لم يستطعن مقاومة الإعجاب بقدرتها على القراءة والكتابة باللغة العربية. ولا واحدة منهن كانت متعلمة تستطيع قراءة مجرد كلمة واحدة.
تم احتجاز للا الضوْ في سن صغيرة، لدرجة أنها بالكاد تتذكر لغة بلدها. ولا تتذكر وصولها إلى الحريم سوى بشكل غامض. واعتقادا منها بأنني آسف على تخلّيها عن تعاليم الدين التي تلقتها من والديها وباندثارها في قلبها، قالت لي بلطف لا متناه: “لا تهم معتقداتنا. ألسنا كلنا إخوة وأخوات؟ وسأكون آسفة جدًا إذا كان لديك رأي سيئ عني لأنني تخليت عن الإيمان المسيحي”. ثم أضافت بأنها لن تكون سعيدة للغاية إذا لم تلق عندي أي اهتمام، وهي بحاجة لطبيب جيد لصحتها. وفي الواقع، تعرضت للا الضو لداء السكوربيت (وهو النقص الحاد في فيتامين سين) الذي صار يهدد بعض أسنانها الجميلة. فكانت تخشى، لسبب وجيه، أنه إذا أصبح هذا الداء أكثر جدية، فسوف يُضعف من مشاعر ودّ الإمبراطور تجاهها. وكان علاج هذا المرض قد بدأ للتو يبدو لها سهلا بالنسبة لي. وبما أن سعادة حياتها كانت تعتمد عليه، فقد أظهرت لي تنبيهات قوية جدًا بشأن حالتها. فسارعتُ إلى طمأنتها. والوعد الذي قطعته لها بعلاج مرضها جذريًا في غضون أسبوعين هزّها من الفرح.
لكن من خلال هذا الالتزام، نسيت أنني دخلت الحريم فقط لرؤية وفحص السلطانة للا زهرة. الجرأة التي اضطرتني للذهاب إلى السلطانة المفضلة من دون إذن الإمبراطور قد تجلب لي أقسى العقوبات. لكن هل نستشير الحذر وهل ننتبه للخطر عندما تطلب منا امرأة جميلة مساعدتها؟ للا الضوْ التي لم تخل من القلق بشأن زياراتي، أمرت جواريها بعدم الحديث عنها. لقد احتفظن بالسر جيدًا. الأمر الذي طمأنها كثيرا على المستقبل. وكانت تأمرهن بالحراسة كلما جئت لرؤيتها. وأخيرًا توصلت السلطانة الودود إلى اكتساب ثقة وإخلاص الخصي الذي كان يرافقني لما غمرته بالهدايا. لفترة طويلة كانت لدي حرية قضاء ساعات كاملة معها كل يوم. كنت أحكي لها عن العادات الأوروبية التي كانت تسألني عنها ألف سؤال. وكل ما قلته لها عن ذلك كان مسليا لها كثيرا. لم أر زوجة الإمبراطور الرابعة. كانت في فاس من أجل صحتها أثناء إقامتي في مراكش. وعلمت أنها كانت ابنة مرتد إنجليزي (المرتد عنده هو المسيحي المتحول إلى الإسلام). وهي أم مولاي اليزيد الذي اعتلى العرش بعد وفاة أبيه سيدي محمد.
بعد أن أمضيت في الحريم وقتًا أطول بكثير مما كنت أتوقعه بشكل معقول، غادرته لإبلاغ الإمبراطور عن حالة للا زهرة التي عاينتها أول الأمر. فاستقبلني في فناء مغلق. لم يكن لديه سوى بضع من العبيد يقودون كرسيا صغيرا متحركا بأربع عجلات. كان يدفعها بيُسر كبير أربعة من الأطفال المرتدين من أصل إسباني. مع اقترابي من هذا السلطان المهيب، أعترفُ أنني كنت أخشى من أن أجد فيه قاضٍيّا صارما سينتقم مني لخطأ بسيط جدًا في حد ذاته، لكن بالإمكان أن يرى فيه إهانة خطيرة للغاية في حقه. لم أبق طويلا في هذا القلق القاسي لما رأيت من خلال النبرة الودودة التي سألني بها عن أخبار للا زهرة، أنه لم يكن على علم بأي شيء. ثم بعد أن زال عني الخوف الأول، أخبرته من خلال مترجمي بحالة المريضة التي أمرني بالذهاب لفحصها. أراد أن يعرف ما هي الأدوية التي سأستخدمها لعلاجها. وبعد أن أحضرت له بعض العقاقير التي سميتها، أجبرني على تذوقها أمامه، وكأنه كان يخشى أن أعطي سمّا للسلطانة بسبب جهلي أو سوء نيتي. وبعد أن سألني أسئلة كثيرة حول كيفية علاج الأمراض المختلفة في أوروبا، عاد ليحدثني عن حالة للا زهرة. سألني كم سأستغرق من الوقت لاستعادة صحتها. فأجبت أنه من المستحيل تحديد مدة علاجها وأن أوجاعها لن تتوقف إلا بالاستخدام الطويل للأدوية التي وصفت لها.
عندما أدليت بهذا البيان، اعتقدت أنه يجب عليّ الاستفادة منه لالتماس إذنه لي مرة أخرى بالعودة إلى جبل طارق. في مقابل ذلك عرضت عليه أن أعتني بالسلطانة لمدة أسبوعين، ثم أترك لها نظامًا غذائيًا يمكنها اتباعه بنجاح كبير من بعد مغادرتي كما لو كنت حاضرًا. وأكدت له على ضرورة انصياعي لأوامر رؤسائي بجبل طارق الذين اتصلوا بي مرة أخرى كي ألتحق بمقر وظيفتي. بدا الإمبراطور راضيا بحماسي لإراحة امرأة مازالت تثير شفقته. وكي يبين لي أنه راضٍ عن ذلك وعد بإطلاق سراحي بعد الأسبوعين الأولين من العلاج الذي وصفته للسلطانة وشرعت هي في أخذه. ترافقت كلمات المواساة هذه مع لفتة من الكرم، جعلت الإمبراطور يقول إنني سأحصل على حصان جميل للعودة إلى بلدي. وأُمر وزيره بفتح الحريم لي كلما أردت الدخول إليه.
يتألف حريم سيدي محمد من مائة وستين امرأة. وذلك من دون احتساب كل الجواري اللائي يخدمن السلطانات. لا ينبغي الاعتقاد بأن الإمبراطور لم يتزوج إلا من النساء الأربع اللائي تحدثت عنهن. كان قد طلق العديد ممن لم يرزقن بأبناء، وماتت أخريات من الأمراض. لذلك سيكون من الصعب معرفة عدد المرات التي تزوج فيها بالضبط خلال فترة حكم طويلة. بشكل عام، الحظيات هن زنجيات أو جوار أوروبيات. ومع ذلك، فقد رأيت من بينهن من كن من عائلات مغربية محترمة، قد تم إهداؤهن بخسّة لحريم الإمبراطور من طرف آباء منحطين أعماهم الطموح الجارف. كما لاحظت من قبل، الحريم هو جزء من القصر. تعود إدارته للسلطانة الأولى. وهي مسؤولة فقط عن النظام العام. ويمنحها هذا المقام الحق في اختيار أفضل جناح للإقامة فيه. امتياز كانت تستمتع به كل من للا فطوم وللا الضو السلطانة المفضلة لما دخلتا الحريم. هما لوحدهما اللائي كان لكل منهما جناح مسبوق بغرفة أخرى.
كرم الإمبراطور لزوجاته كان إلى حد ما وفيرا. وذلك بحسب المشاعر التي كن يعرفن كيف يلهمنها فيه. لكن ما يمنحه لهن لم يكن رائعا دائمًا. وكان يتوخى منه أن يلبي جميع احتياجاتهن. المعاش الذي كان يدفعه لمعظمهن كان متواضعا جدا لدرجة أنه لم يكن كافيا حتى لإطعامهن وإعالتهن. صحيح أنه كان يعطيهن جواهر وأحيانًا إكراميات نقدية. وعلى الرغم من كل هذه الهدايا، لم يكنّ في سعة من أمرهن، لولا الهدايا التي كان يقدمها لهن الأوروبيون والمغاربة حتى يهتموا بشؤونهم. لم يكن الإمبراطور يجهل أن زوجاته يتاجرن بتدخلاتهن لديه لصالح الأجانب الذين كانوا يطلبون مساعدتهن. لكنه كان يغض الطرف عن تلك التجارة لأنه كان يفضل التسامح معها على أن يفتح لهن خزينته.
السفراء والقناصل والتجار الذين كانوا يعرفون ذلك النشاط استغلوه وصبّوا الكثير من المال في الحريم. كنت أعرف يهوديًا لم يتمكن من الحصول على إجابة من الإمبراطور بشأن مسألة مهمة. فقرر إرسال اللؤلؤ إلى السلطانات، متوسلا لهن بالتحدث معه لصالحه. وسرعان ما أعطت هذه الوساطة الجميلة لليهودي ما كان يطلبه منذ فترة طويلة. نساء الحريم هن من يدفعن أجور العبيد الذين يخدمونهن. ويفعلن ما يحلو لهن بما تبقى لهن من أموالهن. ولسن ملزمات بتقديم أي حساب عنها. وبشكل عام، يتمتع نساء السلطان بقدر لا بأس به من الحرية في حريمهن. لكنهن لا يستطعن الخروج منه أبدًا، اللهم عندما يسافرن معه لما يتنقل من قصر إلى آخر. وهذا السفر هو أمر عظيم. في اليوم الذي سيحدث فيه، يجب ألا يكون أحد في الطريق الذي ستمر منه زوجات الإمبراطور. ومن أجل إبعاد المتهورين الذين قد يجذبهم الفضول إلى هناك، تسبق فرقة من الجنود موكب النساء، فلا يغادرن الحريم إلا عندما يكون الحرس على يقين من أنهن لن يتعرضن لنظر البشر. ويرافقهن خصيان سود سيئو المزاج”.
أكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة من سلسلة مغامرات هذا الطبيب الإنجليزي بمغرب سيدي محمد بن عبد الله. وذلك على أمل اللقاء إن شاء الله في الحلقة المقبلة التي سنرى فيها كيف احتال على السلطان للفكاك من احتجازه التعسفي والطويل بالمغرب واللحاق أخيرا بوطنه وأهله.
المصدر: وكالات