أوضح الدكتور إبراهيم شليح، باحث في القانون العام والعلوم السياسية، أن القانون الإسباني يشترط الحصول على أغلبية مطلقة بـ 176 مقعدا برلمانيا من أصل 350 لتشكيل الحكومة، مشددا على كون النتائج المعلنة قد تكون عائقا أمام تشكيلها، ما يطرح علامات استفهام حول الحلول الممكنة.
وأضاف الباحث ذاته، ضمن مقال توصلت به هسبريس، معنون بـ “صيف إسبانيا الحارق: الائتلافات الحكومية الإسبانية بين اليمين واليسار”، أن الأكثر ترجيحا على ضوء هذه النتائج هو اقتراع آخر بحلول نهاية العام الجاري، قد يعطي أغلبية مريحة لطرفي الصراع السياسي الإسباني، لتشكيل حكومة صيف 2023 الحارق على إسبانيا خاصة وأوروبا عامة.
هذا نص المقال:
يتأثر إجراء الانتخابات الحرة والنزيهة بعدد من العوامل، منها النظام السياسي السائد، والبنى الاجتماعية في الدولة، ومدى تمتع المواطنين بحقوق المواطنة الأساسية، وتجذر الحريات العامة وممارستها، فضلا عن سيادة القانون، والفصل بين السلطات، ووجود رأي عام، ومؤسسة قضائية مستقلة.
كل هذا توفر لإنجاح التجربة الانتخابية التشريعية الإسبانية، التي حاز فيها الحزب الشعبي اليميني بزعامة “ألبرتو نونييس فيخو” الكتلة الأكبر في الانتخابات النيابية التي شهدتها إسبانيا يوم الأحد 24 يوليوز 2023، متفوقا على الاشتراكيين بزعامة رئيس الوزراء السارية ولايته “بيدرو سانشيز”، لكنه لم يحز غالبية تمكنه من تشكيل الحكومة.
وجاءت النتائج حسب المعلن بالأرقام، حيث حصلت الكتل اليمينية مجتمعة على 169 مقعدا، مقابل 153 للكتل اليسارية، فيما حاز “حزب فوكس اليميني” المركز الثالث بـ 33 مقعدا، يليه في المركز الرابع “تحالف أحزاب اليسار سومار” بـ 31 مقعدا؛ بينما تحصل “الحزب الجمهوري اليساري لكاتالونيا” على 7 مقاعد، و”حزب بيلدو” و”حزب الباسك القومي” على ستة مقاعد لكل منهما، مع مقعد واحد لكل من “اتحاد الشعب في نافاري” و”ائتلاف الكناري” و”الكتلة القومية في غاليسيا”.
ويشترط القانون الإسباني الحصول على أغلبية مطلقة بـ 176 مقعدا برلمانيا من أصل 350 لتشكيل الحكومة، لكن هذه النتائج المعلنة قد تكون عائقا أمام تشكيلها، ما يطرح علامات استفهام حول الحلول الممكنة، وسط ترجيحات قوية للجوء البلاد إلى انتخابات جديدة. فقد بات من المؤكد أن تواجه إسبانيا أسابيع من المفاوضات الائتلافية العسيرة، التي قد تؤدي إلى مأزق سياسي وعدم استقرار في الحقل السياسي، يضطر معه الناخبون إلى العودة لصناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم مرة ثانية، كما حدث بعد انتخابات 2015 و2019.
لكن سيناريو تمكن حزب الشعب المتصدر لنتائج الانتخابات وحزب فوكس المنشق عنه سابقا من الدخول في ائتلاف من أجل تشكيل الحكومة يمكن أن يكون قريبا من التحقق، وسيحتاجان إلى سبعة مقاعد ليكونا أغلبية مطلقة في البرلمان. بيد أن هذا التحالف سيصعب عليه الحصول على دعم الأحزاب الأخرى، بالنظر إلى التخوف الحاصل لدى غالبية النخب السياسية والمواطنين الإسبان من عودة اليمين المتطرف إلى السلطة بعد غياب دام أكثر من خمسين عاما مع نهاية “ديكتاتورية فرانسيسكو فرانكو”؛ الأمر الذي لم يخفه ألبرتو فيجو، الزعيم المفترض لهذا التحالف وقائده، حين ناشد الناخبين في الحملة الانتخابية أن يمنحوه أصواتا كافية وأغلبية قوية لكي لا يحتاج إلى الاعتماد على المتطرفين، ويمضي قدما في وعوده المتعلقة بمعارضة الانفصال في إقليمي الباسك وكتالونيا، والحركة النسوية، وتبني سياسات مناهضة للهجرة، والتراجع عن سلسلة الإصلاحات التي أدخلتها الحكومة اليسارية.
ومع اقتراب انتخابات البرلمان الأوروبي المقررة عام 2024 سيشكل فوز اليمين واليمين المتطرف الإسباني، وربما مشاركته في الحكم بعد كل من السويد وفنلندا وإيطاليا، وهما اللذان يشككان في سيادة القانون ومبادئ الاتحاد الأوروبي، ضربة قاسية لأحزاب اليسار الأوروبية. وهذه المرة برمزية كبيرة، في ظل تولي إسبانيا حاليا الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي، حيث ينبغي أن تعرض برنامجها لرئاسة مجلس الاتحاد ومناقشته في البرلمان، وربما سيقوم بذلك رئيس وزراء آخر غير سانشيز، وما ينذر به مثل هذا التحول بالنسبة لسياسات الهجرة والمناخ في الاتحاد الأوروبي.
يبدو هنا أنه سيتم الإبقاء على الائتلاف اليساري المتشكل عام 2020 بين الحزب الاشتراكي واليسار الراديكالي، بقيادة رئيس الوزراء المكلف بيدرو سانشيز، ودعمه مواصلة الإصلاحات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، حيث نجحت إدارته في اجتياز تداعيات جائحة كورونا، وعبور كارثة ثوران بركان لابالما، والتقليل من آثار الحرب في أوكرانيا على الاقتصاد الإسباني، وحققت انخفاضا مطردا في معدلات البطالة وتقدما ملحوظا في النمو الاقتصادي الإسباني كأحد أسرع الاقتصاديات نموا في أوروبا. يبدو أمرا بالغ الأهمية والصعوبة في الآن نفسه، كون هذا الائتلاف سيضطر لطلب الدعم البرلماني من الحزب الجمهوري اليساري لكاتالونيا وحزب بيلدو وحزب الباسك القومي، وبذلك سيواجهون مطالب أحزاب كاتالونيا التي تصر على استفتاء تقرير المصير والاستقلال، والعفو الرئاسي عن زعيم الحزب اللاجئ ببلجيكا، كأولويات تفاوضية للدخول في تحالف حكومي محتمل، ما سيؤدي إلى زعزعة الاستقرار وعودة الفوضى السياسية كما حدث سابقا عام 2017.
وبالتالي فإن النتيجة الأكثر ترجيحا على ضوء هذه النتائج هي اقتراع آخر بحلول نهاية العام الجاري وحكم صناديق الاقتراع بعد هاته التي سبقت أوانها، التي قد تعطي أغلبية مريحة لطرفي الصراع السياسي الإسباني، لتشكيل حكومة صيف 2023 الحارق على إسبانيا خاصة وأوروبا عامة.
الخلاصة إذن أن قيمة الانتخابات تتحدد بعائدها الديمقراطي، الذي يشمل بقاءها مجالا مفتوحا للتنافس الإيجابي بين القوى والنخب والمصالح والأفكار المتباينة بغرض بلوغ الأفضل لعموم المجتمع، مع الإقرار المجتمعي بأنها وسيلة رئيسة للرقابة الشعبية على أداء السلطة السياسية، ثم لمحاسبة القائمين عليها، بما يضمن التصحيح الدوري للاختيار العام وفق الإرادة الحرة للمواطنين باعتبارهم أصحاب الحق الأصيل في ذلك.
المصدر: وكالات