تفاعلا مع ما بات يُعرف بـ”قضية إسكوبار الصحراء”، تساءل محمد شقير، الباحث والأكاديمي المغربي، حول ما إذا كانت هناك إرادة سياسية في القطع مع الفساد السياسي الذي أصبح ينخر مكونات الجسد المغربي، أم أن هناك رغبةً فقط في تنقية مؤقتة لنظام سياسي شكل فيه الريع والرشوة واستغلال النفوذ سلوكا متجذرا داخل مكونات النخب السياسية.
وتناول محمد شقير، في مقال بعنوان “محاربة الفساد السياسي بالمغرب بين آليات التقعيد ومؤشرات التفعيل”، مجموعة من المحاور المرتبطة بالموضوع؛ من بينها “تقعيد آليات محاربة الفساد السياسي”، و”المؤشرات الملكية لمحاربة الفساد السياسي”، و”تفعيل آليات محاربة الفساد السياسي”.
نص المقال:
تحظى عملية اعتقال مجموعة من البرلمانيين فيما سمي بقضية إسكوبار المالي باهتمام الرأي العام وشبكات التواصل الاجتماعي، وكذا بجدل سياسي حول مدى اختراق تجارة المخدرات لمختلف مكونات المجتمع بما في ذلك المجال السياسي؛ مما طرح تساؤلات عريضة حول ما إذا كانت هناك إرادة سياسية في القطع مع الفساد السياسي الذي أصبح ينخر مكونات الجسد المغربي أم أن هناك رغبة فقط في تنقية مؤقتة لنظام سياسي شكل فيه الريع والرشوة واستغلال النفوذ سلوكا متجذرا داخل مكونات النخب السياسية بما فيها النخب الحزبية؟
1- تقعيد آليات محاربة الفساد السياسي
منذ تولي الملك محمد السادس، ظهرت أولى بوادر استراتيجية ملكية في محاربة طبيعة التعامل السياسي بين السلطة ونخبها السياسية الذي ساد طيلة حكم الملك الحسن الثاني والذي كان يقوم على الريع السياسي كآلية من آليات تدجينه للنخب السياسية وضمان ولائها السياسي؛ فالرغبة في تجديد النخب السياسية كانت تقتضي تنقية المشهد السياسي من ممارسات نخب تعودت على استغلال مناصبها، سواء داخل دواليب الحكومة أو الإدارة أو تحت قبة البرلمان للإثراء غير المشروع ومراكمة الثروة. وقد ظهر ذلك جليا سواء من خلال الخطب الملكية التي أكدت على ضرورة تخليق الحياة السياسية أو من خلال إنشاء مؤسسات لرصد والحد من ظاهرة الفساد السياسي:
خطب التخليق السياسي
أكد العاهل المغربي، منذ توليه العرش، على ضرورة احتواء تداعيات الفساد الذي ينخر دواليب الدولة من خلال خطب ملكية عديدة، حيث أكد في عيد العرش بتاريخ 30 يوليوز 2001 أن (ممارسة الشأن العام لا تقتصر على المنتخبين، بل تشمل الجھاز الإداري الذي یجب أن یكون في خدمة المواطن والتنمیة؛ فإننا نلح على ضرورة إجراء إصلاح إداري عمیق، وفق منھجیة متدرجة، متأنیة ومتواصلة، تتوخى تبسیط المساطر، وجعلھا شفافة، سریعة، مجدیة، ومحفزة على الاستثمار. وسعیا وراء الحفاظ على ثقافة المرفق العام وأخلاقیاتھا، من قبل نخبة إداریة متشبعة بقیم الكفایة والنزاھة والاستحقاق والتفاني في خدمة الشأن العام وفي مأمن من كل أشكال الضغوطات وشبكات المحسوبیة والمنسوبیة، والارتشاء واستغلال النفوذ؛ فلن نقبل استغلال أي مركز سیاسي أو موقع إداري من أجل الحصول على مصلحة شخصیة أو فئویة، منتظرین من السلطات العمومیة أن تكون صارمة في ھذا المجال، وأن تلجأ علاوة على ما تتوفر علیھا من وسائل للمراقبة الإداریة والقضائیة إلى اعتماد أدوات وأجھزة جدیدة لتقویم السیاسات العمومیة، فضلا عن إشراك القطاع الخاص والمجتمع المدني والمنتخبین في إعداد المشاریع وتنفیذھا).
كما حث، في خطابه بمناسبة افتتاح السنة التشريعية 1999-2000، نواب الأمة على ضرورة الإسراع في سن قوانين تسهل تنفيذ المشاريع الاستثمارية من خلال تبسيط المساطر الإدارية وإصلاح القضاء، حيث أشار بهذا الصدد إلى ما يلي: (…. نؤكد على وجوب تخليق الحياة العامة، بمحاربة كل أشكال الرشوة، ونهب ثروات البلاد والمال العام. وإننا لنعتبر أي استغلال للنفوذ والسلطة، إجراما في حق الوطن، لا يقل شناعة عن المس بحرماته. وفي هذا الشأن، نؤكد على الالتزام بروح المسؤولية والشفافية، والمراقبة والمحاسبة والتقويم، في ظل سيادة القانون، وسلطة القضاء، بما هو جدير به من استقلال ونزاهة وفعالية).
وقد واصل العاهل المغربي التأكيد على هذه المقتضى من خلال خطب ملكية أخرى تمثلت في خطاب عيد العرش لـ 30 يوليوز 2005 التي دعا فيه الحكومة إلى (الانكباب على بلورة مخطط مضبوط للإصلاح العميق للقضاء، ينبثق من حوار بناء وانفتاح واسع على جميع الفعاليات المؤهلة المعنية، مؤكدين، بصفتنا ضامنا لاستقلال القضاء، حرصنا على التفعيل الأمثل لهذا المخطط، من أجل بلوغ ما نتوخاه للقضاء من تحديث ونجاعة، في إطار من النزاهة والتجرد والمسؤولية).
ويشدد في خطابه لعيد العرش 30 يوليو 2008 (على ضرورة التطبيق الصارم لمقتضيات الفقرة الثانية، من الفصل الأول من الدستور التي تنص على ربط المسؤولية بالمحاسبة).
إنشاء مؤسسات التخليق السياسي
في استراتيجيته لتخليق الحياة السياسية، لم يكتف العاهل المغربي بالدعوة إلى ضرورة الإصلاح الإداري والقضائي؛ بل عمل على التسريع في تدعيم مجموعة من مؤسسات المراقبة أو إنشاء آليات جديدة لرصد ومحاربة مظاهر الرشوة واستغلال النفوذ. فبالإضافة إلى التنصيص على دسترة المجلس الأعلى للحسابات والمجالس الجهوية للحسابات الذي اعتبر نقلة نوعية، وتاريخية في إقرار الرقابة القضائية الحقيقية على التدبير المالي العمومي، أعلن الملك في خطابه بتاريخ 20 غشت 2008 عن إنشاء لجنة مركزية لمحاربة الرشوة عيّن على رأسها السيد عبد السلام أبو درار، المعروف بأنشطته في مجال محاربة هذه الآفة بعدما استفحلت هذه الظاهرة داخل الدواليب الإدارية للدولة؛ الشيء الذي انعكس من خلال تقارير عديدة لمنظمات دولية ووطنية حذرت من مغبة انتشار هذه الآفة. كما قام العاهل المغربي بتعيين إدريس الكراوي رئيسا لمجلس المنافسة، بعدما كثر اللغط عن غياب المجلس وترك المجتمع فريسة لاحتكار الشركات الكبرى.
2- المؤشرات الملكية لمحاربة الفساد السياسي
ظهرت مجموعة من الإشارات الملكية التي كانت تحث على الإسراع في عملية تخليق الحياة السياسية وتفعيل آليات محاربة الفساد السياسي. وقد انعكس ذلك على الخصوص من خلال التعيين الملكي في 22 مارس 2021 لكل من أحمد رحو رئيساً جديداً لمجلس المنافسة المعروف بتمرسه في المجال المصرفي والتدبير المالي، والسيدة زينب العدوي التي زاوجت بين تجربتي أسلاك القضاء وصرامة السلطة رئيسة للمجلس الأعلى للحسابات وزودها طبقا لبلاغ ملكي “بتوجيهاته السامية، قصد الحرص على قيام هذه المؤسسة بمهامها الدستورية، لاسيما في ممارسة المراقبة العليا على المالية العمومية، وفي مجال تدعيم وحماية مبادئ وقيم الحكامة الجيدة والشفافية والمحاسبة”.
وهناك إشارتان سياسيتان قويتان صدرتا عن القصر الملكي بتطوان بمناسبة الاحتفال بعيد العرش في نهاية يوليوز 2023 شددتا على ضرورة تقوية جهود مكافحة الرشوة وربط المسؤولية بالمحاسبة: تمثلت الأولى من خلال تقديم عبد اللطيف الجواهري، والي بنك المغرب، ملخص التقرير السنوي للبنك المركزي حول الوضعية الاقتصادية والنقدية والمالية في البلد برسم سنة 2022 أمام الملك، شدد فيه على “أن الرفع من نجاعة أداء الاقتصاد الوطني يتطلب اتخاذ إجراءات؛ منها محاربة الرشوة، مقرا بضعف النتائج المحققة على مستوى محاربة الرشوة. وفي مساء اليوم ذاته، شدد الملك محمد السادس، في الخطاب الذي ألقاه بمناسبة الذكرى الرابعة والعشرين لعيد العرش، على ضرورة تطبيق مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، بقوله: “إن الجدية كمنهج متكامل تقتضي ربط ممارسة المسؤولية بالمحاسبة، وإشاعة قيم الحكامة والعمل والاستحقاق وتكافؤ الفرص”.
3- تفعيل آليات محاربة الفساد السياسي
على الرغم من إطلاق المملكة للإستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد منذ سنة 2015 فإنها بقيت عاجزة عن تحقيق الأهداف المتوخاة منها، إذ كشف التقييم الذي قامت به الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة أن هذه الاستراتيجية “يشوبها قصور يحول دون تمكّنها من تحقيق الأثر المنتظر منها، وتغيير منحنى تطور الفساد بالمغرب”. وقد تجلى ذلك في الضعف الملحوظ في عدد قضايا الفساد المعروضة على القضاء؛ لكن يبدو أن هذا الأمر بدأ يتغير بشكل لافت في الثلاث سنوات الأخيرة، وبالأخص في سنة 2023، إذ تم تحريك متابعات قضائية أمام محاكم جرائم الأموال في حق عدد كبير من رؤساء الجماعات، من ضمنهم برلمانيون تم اعتقالهم من طرف الفرقة الوطنية للشرطة القضائية، بسبب خروقات أغلبها بقطاع التعمير، رصدتها تقارير المفتشية العامة للإدارة الترابية التابعة لوزارة الداخلية، والمجالس الجهوية للحسابات.
كما أحالت وزارة الداخلية ملفات مجموعة من رؤساء الجماعات على أنظار المجلس الأعلى للحسابات، بعدما رصدت المفتشية العامة للوزارة خروقات في تدبير الميزانية. لتنطلق بعد ذلك جلسات محاكمة رشيد الفايق، النائب البرلماني عن حزب التجمع الوطني للأحرار ورئيس جماعة أولاد الطيب بفاس، بغرفة الجنايات الابتدائية المكلفة بجرائم الأموال لدى محكمة الاستئناف بفاس، بتهم فساد لها علاقة بجرائم الأموال، رفقة 16 من المتهمين الآخرين، ضمنهم شقيقان له، أحدهما يشغل منصب رئيس مجلس عمالة فاس، بتهم تتعلق بتكوين “عصابة متخصصة في السطو على الأراضي السلالية، واختلاس أموال عمومية، والتزوير في محررات رسمية واستعمالها من طرف موظف عمومي، واستغلال النفوذ، والتزوير واستعماله في لوائح التعويضات على التنقلات”. في حين عرفت سنة 2023 تورط عدد من البرلمانيين في ملفات فساد؛ منهم من تم اعتقاله، ومنهم من تم تجريده من صفته البرلمانية. من هؤلاء البرلماني عبد القادر البوصيري من الاتحاد الاشتراكي، بعد اعتقاله بسبب اتهامات باختلالات مالية في جماعة فاس. وهناك أيضا محمد كريمن من الفريق الاستقلالي، باتهامه بسوء تسييره لجماعة بوزنيقة، والبرلماني ياسين الراضي من الاتحاد الدستوري المعتقل في ملف أخلاقي، بعدما تم عزله من رئاسة جماعة سيدي سليمان. وهناك البرلماني سعيد الزايدي من التقدم والاشتراكية الذي قضى عقوبة في السجن بسبب قضية رشوة، وصدور قرار عزله من رئاسة جماعة الشراط. في حين تم تجريد محمد الحيداوي، رئيس فريق أولمبيك آسفي، من عضويته بالبرلمان بعد تورطه في فضيحة بيع تذاكر المونديال، والنائب بابور الصغير من الاتحاد الدستوري، المعتقل في ملف نصب.
لكن يبدو أن إحالة البرلمانيين سعيد الناصيري، رئيس نادي الوداد البيضاوي، وعبد النبي بعيوي، رئيس مجلس جهة الشرق، رفقة 20 شخصا متابعين في قضية تاجر المخدرات المالي المعروف بـ”إسكوبار الصحراء” في حالة اعتقال، تنذر “بعملية أياد بيضاء” ممنهجة على الطريقة المغربية وتذكر بقضية العميد مصطفى ثابت التي أدت إلى تنقية المؤسسة الأمنية مما علق بها من تجاوزات في عهد وزيري الداخلية السابقين الجنرال محمد أوفقير والوزير إدريس البصري وتوظيفها في شد الانتباه العام إلى عملية إصلاح سياسي كان ينتهجها الملك الراحل الحسن الثاني آنذاك. في حين يرى بعض الحقوقيين أن ما يجري بخصوص إحالات مسؤولين ومنتخبين محليين أو برلمانيين على القضاء إنما هو مؤشر على أن هناك إرادة سياسية جديدة في التعامل مع ملفات الفساد السياسي؛ الشيء الذي اعتبرته جمعيات حماية المال العام خطوة إيجابية في تفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة.
المصدر: وكالات