كتبت هذه المقالة وقد طرحتْ أمريكا والغرب هذا السؤال: “لماذا يكرهوننا” بعد أحدث11 سبتمبر 2001. وعزمت، لـِمَا يحدث اليوم من مبايعات وقتل وتدمير ووو، أن أكتب مقالة أتساءل فيها نفس السؤال: “لماذا يكرهوننا”. ثم قلت لأراجع ما كتبته بحثاً في ثنايا السؤال قبل ان أكتب، ووجدت أن نفس المقالة ما زالت دالة وببلاغة على الحال، وتجيب عن السؤال من وجهتنا مع تغيير بسيط استوجبه مرور اثنين وعشرين سنة بين ذاك وهذا. فما الأمر؟
نقطة واحدة استطاعت أن تطوح بأمم، وأن تشعل حروباً خلال التاريخ البشري المنظور. نقطة ليس لها في حساب علم الهندسة إلا ما تشغله في امتداد الخط، ولكنها هي كل الخط، باعتبارها المكون الوحيد الذي ينبني عليه. وهي نقطة صار لها من القوة والسلطة والكثافة، ما حجب كثيرا من الجهود التي بناها الإنسان، عندما رفض عمر بن الخطاب رضي اله عنه، أن يصلي في الكنيسة وصلى في الأرض الفضاء، رافعاً بذلك بنيان أمجد قانون للحفاظ على حقوق البشر وعلى أديانهم ومعتقداتهم. نقطة واحدة تبعث جلجلة خيول الصليب، وما كان الصليب في معناه أو مغزاه، يدل على نصرة القهر أو الظلم، لأن حامله في بدء تاريخه، حمله وهو مظلوم مقهور، حمله وكان رمزا للمحبة والسلام. وغريب أن تَعْشَى عيون الأقوياء ممن رجَّتْهُم شدة الصعقة، فلا يرون في التاريخ ألا الـمُـعَنَّى منه، ذاك الذي لم يستق وقائعه من حقائق الأشياء، وإنما استنبطها من أحقاد الغفلة وانفعال سكرة الغلبة. عــرب وغـــرب: عين غُفْلٌ من النَّقْط وأخرى تُتَوِّجُها. وغياب النقط في اللفظ أوْسَعَ في التَّمْيِيز، فصار اللفظ الغفل يشمل كل مغضوب عليه، وفيهم مسيحيو الشرق ممن تحمل الأمانة وأدى الرسالة، وفيهم أيضاً من المهتدين برسالة موسى من هم فيها على حرف. نقطة على ضآلة جِرْمِها، فرقت بين أمم وشعوب، وصنعت كراهية لا أقول غير مسبوقة في التاريخ، ولكن أقول غير مسبوقة بما اتخذته من أدوات، لها من قوة الفعل ما يحول الحقائق إلى أضدادها.
“لماذا يكرهوننا؟”. هذه هي النتيجة في نهاية المطاف، جملة اتخذت لها الصدارة في محافل السياسة والقرار، وملأت أحاديث الناس في كل حَيِّز تذب فيه الحياة. “لماذا يكرهوننا؟” ترددت هذه الجملة صدىً هائلا في فضاء الولايات المتحدة ومن يدور في فلكها، لحظة اهتزاز ركائز هذه الولايات المتحدة، يوم 11 سبتمبر 2001، بما نزل من السماء، وهي حقا لحظة اهتزت فيها عواطفنا، نحن أيضأ، لأننا بحكم عقيدتنا، لا نتحمل آلام الإنسان، أي إنسان، ولا نريد له أن يمس في جسمه وروحه، وشاركنا هذه الولاية المتحدة أساها وحزنها.
أنا في هذه اللحظة لا أريد أن أعود لا إلى الحدث ولا إلى زمانه، فتلك قضية أخرى وإن كانت تتصل بما أنا فيه. أنا في هذه اللحظة مُعَنّىً معاناة أخرى، وأقاسي جرحاً ينزف في كياني، وألماً يهز روحي من الأعماق. أنا هذه اللحظة غريق الدموع التي لا تُرى، ويُعَذِّب كياني رَجُّ النواح الذي لا يسمع. أنا هذه اللحظة أعاني القيد الوهمي الذي يثقل الأرجل، وأعاني ثقل النَّيْر الذي يسحق الكاهل. أنا هذه اللحظة صوت بلغ مداه في الصياح، وبلغ مداه في بلاغة الخُرْس. أنا هذه اللحظة مدقوق حتى العظام، يدق رقبتي أبشع كابوس يمكن أن يجثم على مخلوق. أنا هذه اللحظة كيان بلا نقطة، يغيبني العجز في رقدة المشلول، ولم يبق لي من أمري إلا العَوْدُ إلى فكري، وإلى أن أعيد صياغة السؤال “لماذا يكرهوننا”؟ فالفعل هنا لا يأتي من الـمُـنَفِّذ صاحب السلاح، وإنما هو فعل المدافعين عن حق الإنسان، أستغفر الله، المدافعين عن حقوق الحيوان ممن يدخلون في اللفظ المنقوط. وفي هذه الحال أريده سؤالا لي أنا، لنا نحن الذين لا نملك تلك النقطة في لفظها الأوسع، في لفظها الحقيقي الذي لا يعرف وضع الحدود بين أهل الأديان، وبين الشرفاء من الناس، ممن هم أمام البحار وممن هم خلف البحار وممن هم فوق البحار. وأريد لهذا السؤال جواباً يستدعي مني يقظة في الفكر، وتغلباً على الألم، وصفاء في الضمير. وتعود بي الذاكرة إلى مجريات لقاء علمي أكاديمي دعت إليه منظمة من منظماتنا العتيدة، لينظر فيه ثلة من المفكرين، أمر العنف والتسامح وارتباط كل ذلك بالأديان. في ذاكم اللقاء، قدم أحد الباحثين الأمريكيين المدعوين، باقة من الصفات التي استقاها من الإعلام الأمريكي، وبالتالي من رأي الإنسان المتوسط الأمريكي ولنقل الغربي (صاحب الغين)، صفات خصوها بنا وأضفوها علينا بسخاء. وهذه هي: “نحن لا ديمقراطيون، نحن نستعبد المرأة ونستبعدها، نحن نقتل بلا شفقة، نحن يعمنا الفساد، قادتنا منخورون، إسلامنا دموي”. مع مراعاة أني هذبت بعض العبارات في سلسلة الأوصاف التي أخبرنا بها الباحث، “يْكَثَّرْ خِيرُو”. ويمكننا أن نضيف نحن شيئا آخر طالما رددته وسائل الإعلام بألف صورة وصورة، ذلك أنا “أصحاب بطون مليئة بالبترول”.
الناظر في هذه القائمة من الأوصاف، عندما يتأملها تأمل العاقل والمتزن والمتدبر، يجدها لا تخصنا نحن وحدنا، وتشترك فيها معنا أمم من أوروبا الشرقية والغربية وآسيا وأمريكا اللاتينية وبلاد العم سام أيضاً.
“الديمقراطية”؟ أي فرق بين حزب واحد متسلط أوحزبين فريدين يقبعان على أعناق الناس، وتصعد كفة الواحد منهما تبعاً لقدر المال الذي هيأه أنصاره. الديمقراطية؟ إنها عاشت مآسي في أمريكا اللاتينية المسيحية ولا تزال، ولم يبك على الديمقراطية الغرب ولم يحمها في بلداننا وفي العالم الآخر المصنف، عندما لم يجد فيها ما ينفع الناس من أهله وأحبائه. “نستعبد النساء ونستبعدهم”؟، من يتتبع هذه القضايا في محاكم الغرب وأمريكا اللاتينية وبلاد العم سام، لا يسعه إلا أن يستغفر ربه ويُحَوْقِلَ ويشفق على حال المرأة التي أصبحت لطخة في صور الإعلانات جادِّها وهازِلها في الغرب. “الفساد المالي والسياسي”؟ كثير من أبطال هذا الفساد، نار على علم في كل مستويات المجتمع الغربي، بدءاً من محطات بيع البترول في الجهة الشرقية من المحيط الأطلسي، إلى ناطحات سحاب الصناعة الإلكترونية، إلى رؤساء دول في غربه، فتلك روائح تزكم الأنوف وترهق قضاة البلدان “النقية”. “إسلامنا دموي”؟ دعونا من العود إلى “إيرلندا” المسيحية في مذهبيها الكبيرين، ومذاهب عقدية في آسيا البعيدة وأوروبا القريبة وغيرها. شيء واحد يجب أن أذكِّر به هنا، ذاك أن وسائل الإعلام عندهم وتبغبغنا بها- من الببغاء الذي يردد ما لا يعي- روضتنا على أن نستعمل مصطلحات لغوية فضفاضة تبعد كل رائحة دينية، عندما تَحْدُث أحداث مروعة من هذا القبيل هناك (في الغرب)، “والله يجعل الغفلة بين البائع والشاري”. إننا محسودون على ذهبنا الأسود”، والحق أنه لبعضنا؟. كثيرون من دول أمريكا اللاتينية وبلاد الثلوج وإفريقيا وبلاد العم سام، وجدت في فمها ملاعق بترولية أطول من معالقنا.
وكيفما كان الحال، فإن هذه الصفات، مما ذكره محاضرنا الأمريكي المحترم، ما دامت مشتركة بيننا جميعاً، وإن أخفوا إشاراتها الدالة عليهم في جهاتهم، فهي لا يمكن أن تكون بحال من الأحوال، هي أسباب “لماذا يكرهوننا” أو لماذا لا نُكَوِّن معادلة في دفتر تمارينهم تحتاج إلى نظر.
أسباب حال كمونهم هذه، يجيب عليها أحد مُسْتَجْوَبي أحد العلماء العرب، ممن شاركوا في هذا اللقاء. فقد حكى أنه سأل مرة أحد محاوريه الغربيين، لماذا تكره جمال عبد الناصر، فأجاب: “لا أعرف”. وهنا مربط الفرس. فلا أعرف هذه، هي كل السر الدفين الذي علينا أن نصل إليه. مهمتنا ونحن نعيش مأساة فريدة غريبة سيئة لا مثيل لها في التاريخ، أن نبحث عن أسباب هذه لا أعرف. “لا أعرف” جواب بليغ فصيح، لأنه اختصر في هذه الحروف القليلة كل السر الدفين. إن الكره هنا هو دفين في قلب الضمير. وأسمح لنفسي بأن أستعير مناهج الغرب لمحاولة الجواب.
اللاوعي خزان عميق، والإنسان لا يتلف ذكرياته نهائيا، ولكنه ينساها عندما لا تعجبه أو عندما تربطه بما يكرهه، أو عندما يرفضها لسبب من الأسباب. وذكريات الفرد هي ذكريات الجماعة، وهي التي تكون إرثها وتاريخها ووعيها ولا وعيها. هذه هي أساسية عالمهم النفساني فرود ذي الذكر الجميل، وقد أطمرتُها في ذاكرتي عندما كنت أقرأه قبل زمان. دعونا ننظر إلى الغرب في قضيتنا بناء على هذه النظرية. أو لنقل دعونا ننظر في تاريخنا عندما كان مشتركا مع الغرب، أو عندما كان يضع للغرب أثافي ثقافته، عندما كانت عربيتنا إنجليزية ما بين الأطباق الحمالة للمعارف والأخبار، وعندما كانت بغداد ودمشق وقرطبة ومراكش “سوربوناً” أو “كمبردجاَ” أو “هرﭬـرداً” في تاريخ الحضارات. ودعونا نذكِّر هنا بالمناسبة بمفهوم “صدام الحضارات”. فقضيتنا تبدأ مع هذا المفهوم الذي صاغوا له هم مصطلح “صدام”، ووصغنا له نحن معاني العطاء والتلاقح. والفرق بين ذاك وذا هو الفرق الذي بين “البنيان والعمران” و”الخراب والدمار”. يتلخص تاريخنا مع الغرب وتلاقحنا وتصادمهم في ثلاث وقائع لابد لها أن تكون منبع النور والمسلك الدال، عندما نسأل لماذا “يكرهوننا” أو على الأقل يهملون قضايانا؟
الواقعة الأولى: أسباب نظرهم في القرآن
بعد سقوط طليطلة حوالي 1080 م. استغل Pierre le Vénérable تربة طليطلة وما كان بها من معاهد علمية، استظل بظلها جُمَاعُ ساكنيها من مسلمين ونصارى ويهود، فوجه جهده لترجمة القرآن، وكان يضع في مشروعه أن يواجهه بالنقد، وأن يهيئ الأسباب لقيام الكنيسة عليه. ولم يخطر بباله أن ينظر في أسباب نهوض العلم العربي الإسلامي عندها. فمنذ ذاك اختار Pierre le Vénérable صياغة الصدام، ولم يفكر في أن يختار طريق التلاقح، لأنه لم يفكر في نشر العلم في أتباعه زمانها، خوفاً على ما يمكن أن يقع، لأن رجال الكهنوت، ولا أقول “المؤمنين بالمسيحية”، لم يكونوا ليهيئوا أسباب التقرب إلى عامة الناس، ولم يكن لهم أي مخرج إلا إثارة الجدل، بل تهيئ النفوس إلى حرب “صليبية” وسموها بميسم كان يدل في الأصل على كل شيء مناقض لما رمَوْا إليه. ونجحوا في تغيير الرموز وتبديل المعاني. ومنذ ذاك، فبدل أن يقام بناء التعارف والتأثير والتأثر، على أسس علمية أخوية، نهج من كانت لهم منفعة في ذلك، منهجاً بعيداً في التأويل والبحث عما يفرق، تناسيا لمبدأ الفطرة والتنزيل الذي هو: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}. (سورة الحجرات:13).
الواقعة الثانية: العلم الإسلامي واللاهوت
أمر البابا Grigorie IX بين السنوات 1224 و1234، بمراجعة مؤلفات أرسطو، لكي يحذف منها ما يمس العقيدة المسيحية. غير أن الإمبراطور فردريك الثاني بنابلي، وكان رجل فكر استهوته معارفنا، استطاع بواسطة ميخائيل سكوت، أجهضَ مشروع البابا هذا، حيث بعث الحياة من جديد في الأرسطية بفهم ابن رشد الذي اكتسح فيما بعد، عقول المتفتحين من أهل الغرب، فخاف رجال الكنيسة إذ ذاك من علم ربطوه هم أيامها بالإسلام. وعلى إثرها كفَّرت الكنيسة من يشتغل بالفلسفة، فتتابعت المراسيم لمنع كتب ابن رشد، فأصدر أسقف باريس Etienne Temper في 10 دجنبر سنة 1270، قائمة تضمنت ثلاث عشرة قضية رشدية محظورة. ثم تكتلت مجموعة من رجال اللاهوت لمحاربة هذا الفكر العربي اليوناني مما هو فكر خالص. كما ظهرت بعد ذلك ردة فعل شعبي سارت هذا المسار، وكرهت المفكر الشارح الذي وهب أوروبا تراثها من جديد وقَومَه، وعبرت عنن هذا لوحة فنية مشهورة لـ André Orcagna ، كانت بمدينة “بيزا” في إيطاليا، وتُـمَثل ثلاثة شخوص في الجحيم هم: النبي محمد (ص) والمسيح الدجال وابن رشد. وجاء “دانتي” في كوميدياه، ليكمل الصورة عندما وضع هو الآخر ابن رشد في جحيمه. إن تفاعل نقد هؤلاء الكبار في الفكر اللاتيني، هو الذي أدى إلى ردة الفعل القوي المتمثلة في عصر النهضة. ويجب أن لا ننسى هنا، أنها ردة كانت ضد الأرسطية والمنطق الصوري وما أثمر من ذلك الفكر العربي، الذي هو الواسطة الفعل، بين علوم الأقدمين وطلائع فكر النهضة. وبالتالي فتلك الحركة الجدلية الخصامية التي مثلت الأداة لنقل العلوم العربية الإسلامية بقصد أو بغير قصد، كانت هي بداية قطيعة بين ثورة العلم الإسلامي وثورة العلم الغربي، وكانت تستبطن منذ ذاك، أسباب الفرقة بين الــعـرب والــغــرب “ليكرهونا فيما بعد”.
الواقعة الثالثة: أثر العهد العتيق في فكر وعواطف أهل الغرب
منذ ظهور ترجمة العهد العتيق إلى اليونانية، المعروفة بالسبعينية، التي أمر بها بطلميوس الثاني (246-284 ق.م)، وعلى الرغم من اختلاف نص هذه الترجمة والنص العبري الأصلي، أو بسبب هذا الاختلاف، فقد أصبح كتاب العهد العتيق كتاباً مسيحيا شكلا ومضموناً، وأصبح رجال الدين المسيحيين بعد ذلك بزمان وإلى اليوم، يستعملون نصوص العهد العتيق في خطبهم ووعظهم في كنائسهم، استعمالا لعله أكثر من استعمال نصوص الأناجيل. فالعهد العتيق أصبح كتابهم بإطلاق، وأصبح اسمه الرسمي هو “الكتاب المقدس” Bible ولا غير. والناظر في طبعة العهد العتيق المعنونة بـــــ”التفسير التطبيقي للكتاب المقدس” والتي صدرت في ترجمتها العربية عن International Bible Society (طبعة 1997) بعناية جماعة من كبار العلماء واللغويين واللاهوتيين والفلاسفة والمفكرين الغربيين، سيلاحظ أن العهد العتيق، كل العهد العتيق، في هذا الإخراج، وفي أصله الإنجليزي أولا وأخيراً، لا يمثل إلا كتاباً مسيحياً في كل تفاصيله، فقد استُعملت كل النصوص التوراتية من أولها إلى آخرها في خدمة الكنيسة والمؤمنين. وليس هذا غريباً، فقد فهموا قولة السيد المسيح عليه السلام: “لا تظنوا أني جئت لألغي الشريعة أو الأنبياء، ما جئت لألغي، بل لأكمل” – (إنجيل متى، إصحاح 5 آ 17). (المقصود “بالأنبياء” القسم الثاني من العهد العتيق)- بالمقلوب. والغريب أن معاملة هؤلاء المسيحيين لليهود لم تكن رحيمة بهؤلاء، كما حكى ذلك تاريخ أوروبا.
نحن لا نتهم المؤمنين بهذه المبادئ في فعلهم هذا، فلا نشك في إيمانهم وإخلاصـهم لدينهم، ولكننا نحـن نفهم أنهم يُلْبِسون على التاريخ، حين يصنفون أنفسهم مع المتغيرات، فقد كانوا يعادون هؤلاء اليهود في حين كنا نفسح لهم المجال في العلم والسياسة والتدبير، ويبتدعون عندما اضطروا إلى ذلكـ، تعبير «Civilisation judéo-chrétienne » “الحضارة اليهودية المسيحية”، وفي هذا كثير من النفاق، فما كان من قبل شيء اسمه «Civilisation judéo-chrétienne». لأن الأناجيل الأربعة المعتمد عليها في المسيحية: إنجيل متى وإنجيل مرقس وإنجيل لوق وإنجيل يوحنا، كلها لا تظهر شراكة في حضارة. والنصوص المحذوفة من التلمود، تلك التي كانت تهاجم المسيحية بعنف، لا تدل على شراكة في حضارة، والمآسي التي تعرض لها اليهود في كل أوروبا، حتى الحرب العالمية الثانية، لا تدل على شراكة في حضارة.
والسؤال، أليس هذا العداء الذي كان بين اليهودية والمسيحية، هو الذي تحول اليوم ندماً عند المسيحيين على ما فعلوه لليهود لأسباب كثيرة لا دخل للدين فيها. وهو ندمٌ احتاج إلى ثوبــة. ومن طقوس الثوبة أن يضيفوا إلى كرههم القديم كرهاً لنا عبروا عنه في موقفهم اليوم من قضية فلسطين وغزة والعرب بلا نقطة، متناسين أن أسباب القضية لم تتمثل في 7 أكتوبر، ولكنها تتمثل في قضية احتلال.
بالموازاة لهذه الحرب الشرقية، حرب أخرى غربية: أكرانيا. كل الغرب وقف مع أكرانيا لأن بلداً قوياً أراد أن يحتلها. الغرب كله بما وراء البحار. أي وقف ضد جيش=روسيا الذي أراد احتلال وطن= أكرانيا، كما تصور الغرب ذلك، ومَكَّنَ هذا الغربُ أصحابَ هذا الوطن = أكرانيا، بما لا يتصور من كل شيء.
لننقل القضية إلى شرقنا: جيش = إسرائيل يحتل منذ 1948 وطناً= فلسطين. الغرب الغرب الغرب بنقطته على حرف العين يقف مع إسرائيل= روسيا المحتلة، التي أرادت (أرادت فقط) أن تحتل أكرانيا= فلسطين. (لقد تخبل لي الخيط ولم أعرف كيف أحله). على أي، إذا قلبنا المعادلة سنجد أن الغرب كله يقف مع روسيا التي أرادت أن تحتل فلسطين، وضد إسرائيل التي أرادت أن تحتل أكرانيا. (مُشْ هِيكْ)؟ كما يقول إخواننا المشارقة. وتصير المعادلة: جيش إسرائيل يحتل أكرانيا. وجيش روسيا يحتل فلسطين. فماذا يقول الغرب في هذه المعادلة؟ ” فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ” (سورة الحج 46).
التذكير بكل هذا هو الحفر عن الخبيئ في الضمير، وإليه نعود لنفهم جواب “لا أعرف” الذي ورد أعلاه. فالكره بلا سبب لا يدخل في طبائع البشر. غير أن هناك أمورا أخرى غير التي ذكرنا غريبة تلازم الأحداث الدامية التي نعيشها اليوم، وتفسر غياب الرأي الغربي عن المأساة، وكلها تزيد في عمق الهوة الواقعة بين العرب والغرب.
الأمر الأول من ذلك، أنه لم يعد للمسيحية متحدث يتحدث باسم الخلافة العيسوية، فمنذ ثورة لوثر، وقع الانشقاق الذي عزل عرش البابوية عن كثير من المسيحيين من البروتستانتيين، وهؤلاء هم عمار أمريكا، واليهودية والمسيحية عند هؤلاء شيء واحد، وقد عبر عن هذا المستشار الأمريكي السابق رتشارد مورفي، عندما سأله صحفي في قناة عربية، ذات مرة: “لماذا هذا التحيز الأمريكي لإسرائيل”، فأجابه بفصاحة أمريكية لا تشوبها لُكْنَة: “إننا نشترك في الكتاب”.
الأمر الثاني، أن عرش البابوية الكاثوليكي نفسه، لم يعد له في قضايا المؤمنين السياسية أي مفعول، فتصاريح البابا من قبل وفي صلاته وتوسلاته من أجل فك حصار كنيسة المهد الواقع ما بين 2 إلى 10 2002، لم يكن لها أدنى صدى لدى ذوي القرار في الغرب كله، ولم يكن لها أدنى صدى لدى المؤمنين ذوي القلوب المرهفة التي يهزها من أعماقها، قتل فأر بريء في أدغال إفريقيا. ولم يكن له أي صدى عندما قصف مستشفى المعمداني حيث يرقد الجرحى والمرضى واللاجئون وهم مسيحيون. العرش البابوي اليوم، زينة من زينة الحياة الدنيا وكفى. والأمر الأغرب من كل هذا، أن مسيحيي الشرق، وفيهم سَدَنَة بيت لحم، ليسوا هم في عيون مؤمني الغرب وحماة القوة الضاربة، إلا “مسلمين مسيحيين”، فمنطق الجهل ومنطق الصلف، لم يستطع فَهْمَ “عرب مسيحيين”، أو هذا ما يقوله هذا الصمت المطبق. وهؤلاء يدخلون في “العرب” العديمي النقطة، فدمهم دم واحد. وإنها لقضية مفزعة أن يصبح الدين عرقاً وفرساً يركبه سرﭬانتس العصر “نتنياهو”، فيستشهد بكتاب العهد العتيق حيث جاء: “هكَذَا يَقُولُ رَبُّ الْجُنُودِ: إِنِّي قَدِ افْتَقَدْتُ مَا عَمِلَ عَمَالِيقُ بِإِسْرَائِيلَ حِينَ وَقَفَ لَهُ فِي الطَّرِيقِ عِنْدَ صُعُودِهِ مِنْ مِصْرَ. (3) فَالآنَ اذْهَبْ وَاضْرِبْ عَمَالِيقَ، وَحَرِّمُوا كُلَّ مَا لَهُ وَلاَ تَعْفُ عَنْهُمْ بَلِ اقْتُلْ رَجُلاً وَامْرَأَةً، طِفْلاً وَرَضِيعًا، بَقَرًا وَغَنَمًا، جَمَلاً وَحِمَارًا” (العهد العتيق، سفر صموئل الأول، إ 15: 2).
من البلاهة استعمال “كتاب مقدس” ردَّ فعل شخصي لم يستطع صاحبه أن يقرأ ما ستؤول إليه الأمور. فالمصلحة الشخصية هي الأولى، “وعلي وعلى أعدائي”. وهي نفس العبارة التي قالها “شمشون” بطل التوراة أيضاً، حينما هدم بقوته الخارقة، المعبدَ الذي اجتمع فيه آلاف من الفلسطينيين رجالا ونساء وهو معهم، حيث قال قولته المشهورة: “علي وعلى أعدائي” (سفر القضاة من إ 13 إلى 16).
أحداث عظمى عميت عنها عيون غرب كله بعث رسله لمباركة القتل والتدمير، بسبب رد فعل آخر “قتل فيه أناس” من أجل كرامة امرأة يتقاذفها جُنْدٌ ككرة، ومن أجل حرمة بية مقدس، ومن أجل سبعين سنة من الإذلال والقهر، ومن أجل إقامة سجن متسع لا حق لنزلائه في الحياة ككل الناس. أنا، نحن، بصفتنا مسلمين، نأسف لقتل كل بريء، فلا فرق عندنا بين يهودي أو مسيحي أو مسلم، فنحن إخوة قبل كل شيء في الإنسانية، كما علمنا قرآننا حيث يقول: “أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا”. ومن غريب الصدف أو حكمة الله، أن خطاب هذه السورة كان موجهاً بالضبط لمن يقتل في غزة كل الناس ۚ “مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ …..وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ” (المائدة 36). هل من الإسراف أن يحث وزير في حكومة يدها ملطخة اليوم على ضرب غزة بقنبلة ذرية، بما في ذلك “الرهائن”؟ و”عليه وعلى أعدائه”؟
وفي العين بقية من دمع.
المصدر: وكالات