ردا على تعليقات المتفاعلين مع ما ورد في مادة بعنوان “شحلان: دراسة العبرية في الجامعة المغربية تخدم الحضارة العربية الإسلامية“، قال الأكاديمي أحمد شحلان، في مقال له، إن الفضول دفعه إلى قراءة التعليقات التي تُكتب عادة بعد المقالات، وهاله سوء فهم بعض المعلقين”، مبرزا أن “اللغة العربية ليست لغة العرب، وإنما هي لغة أمم متعددة”.
هذا نص المقال:
العربية عريقة ولا تخص قلة من الناس هم العرب.. واللغات القديمة من آرامية وسريانية وعبرية هي من خوادم المعرفة ولا غير.
ليس من طبيعتي أن أرد على من انتقد كتاباتي إلا إذا كان في ذلك ما يمس عمق الموضوع ويجر القارئ إلى دروب الشك والتشويش المعرفي، ففي هذه الحالة أقول:
سبحان الله، عندما تكون العيون أعشى، لا يبصر الرائي إلا ما ينسجه له خياله، لكن ما يرسمه، لا يعبر عن الحقيقة التي هي ثمرة العقل.
احتفت كلية الآداب بأحد أساتذتها، في فرع من فروع المعرفة، كان بالإمكان أن يكون “التاريخ” أو “الأدب العربي” أو “الإنجليزية” أو أو أو.. وكان عليَّ واجب المشاركة في تكريم زميل لي، كان من قبل لي طالباً، لأني أشاركه التخصص. وكان علي أن أشارك بمساهمة أكاديمية علمية تتمثل في كتابة بحث. وهذا ما عولت عليه وفعلته. غير أن السيد عميد كلية الآداب واللجنة المنظمة، أبوْا- جزاهم الله خيراً- إلا أن أكون بجانبهم في منصة الافتتاح، وكان علي أن أقول كلمة غير التي هيأتها بحثاً. ولأن الأستاذ أستاذ اللغة العبرية، فقد ارتجلت كلمة شفوية تحدثت فيها باخْتصار عن المحتفى به وعن حال تدريس العبرية في الجامعة المغربية، بالنص الذي نقلته جريدتكم الإلكترونية الموقرة (يوم 30/12/2022).
قرأتُ النص المنشور، ودفعني الفضول إلى قراءة التعليقات التي تُكتب عادة بعد المقالات، وهالني سوء فهم بعض المعلقين، والكثير منهم بحسن نية، وحبهم للغة العربية، ودعوتهم إلى العناية باللغات الأخرى كالفرنسية والإنجليزية، جزاهم الله خيراً، فكلامهم حق.
وبعضهم عبر عن كراهية للعربية لأنها لغة العرب وبحقد منبنٍ عن جهل، إذ يجب عليهم أن يعرفوا أن اللغة العربية ليست لغة العرب، وإنما هي لغة أمم متعددة لا يكوِّن العرب إلا فصيلا منهم.
ومنهم من يتهمنا في معارفنا إذ يقول: “غريب وعجيب، أكاديمي يقول أن [إن] اللغة العبرية هي فرع من اللغة العربية” وجهَّلنا بل وضع كل جهودنا المتواضعة، وقد أخذت من عمرنا ثلثيه في هباء، إذ أضاف: “حقاً الإيديولوجيا تخرب العقول، لدرجة تجعل الإنسان يعتقد أن اللغة العربية هي أصل اللغات“. وأقول لهذا الفاضل: سيدي، مبلَغُ منتهى الجهل، الحديثُ في علم عميق بدون معرفة. فاعلم سيدي، رعاك الله، أَن الذين أخرجوا يوسفَ مصرَ من “الجُبِّ”- والجب رعاك الله هو البئر- هم أعراب كانت لغتهم عربية ومدينتهم “مَدْيَن” عربية، وكانت تقع في الشمال الغربي من الجزيرة العربية-(موقعها اليوم قريب من مدينة البدع من توابع تبوك)- وكان أهلها يتحركون في مصر وكانوا هنا يتكلمون عربيتهم التي كان يفهمها منهم بعض المصريين. ولا تُشَكَّكَنْ في وجود يوسف، كما فعل الكثيرون، فالدراسات الجادة الأكاديمية المبنية على الأركيولوجيا والنصوص الفرعونية، أرخت لهذا الرجل بما بين 1780 و1700 قبل الميلاد. ففي هذا العهد إذاً، كانت اللغة العربية في صورة من صورها، لغةَ تواصل وإبداع. ولم يكن في هذه الفترة أي وجود للغة العبرية، كما هو مثبت عند علماء التاريخ واللغات.
واعلم رعاك الله أن موسى عليه السلام، وقد ولد بعد أربعمائة سنة (440) من وفاة يوسف، عندما فر من مصر إلى “مَدْيَن”، فإنما فر إلى هذه المدينة العربية المتاخمة لصحراء سيناء، لمعرفته بالعلاقات التجارية والسياسية التي كانت تجمع بين الجزيرة العربية ومصر بل وفلسطين. وكانت اللغة العربية لغة “مدين” في أشُدِّها وقوتها، وعاش موسى في “مَدْيَنَ” أربعين سنة بين أعراب: الرعاة الذين سقى بينهم أعراب، بنات شيخ القبيلة الأعرابي أعرابيات، ومنهن اتخذ زوجه أعرابيةً، وابناه أعرابيان. فإذا فهمت أعزك الله هذا، ورجعت إلى التاريخ في مصادره العلمية، ولا أنصحك بالمصادر الدينية وحدها، ستعرف ما هي اللغة التي تكلم بها موسى مدة أربعين سنة، وهي مدة مقامه في “مَدْيَنَ”، في وقت لم تكن العبرية فيه موجودة، بقول العلماء لا بقولي، كما أبانت عن ذلك آخر الأبحاث (2008) حيث بينت أن أقدم حجر منقوش عبري يعود تاريخه إلى ما بين 1050 و970 ق. م. وأنا لا أقول: “الأغرب والأعجب أن لا تعرف هذه الأشياء، لأنك لست من أهل الاختصاص…“، ولكن أقول: رجاءً من لا يعرف شيئاً فليصمت، وهذه قمة العلم. صمت الجاهل عن شيء لا يعرفه، هي قمةُ العلم (عَافَكُمْ).
وبعضهم يعتبر تعلم اللغة العربية والحضارة الإسلامية- (هذا مضمن قوله وما أحببت أن أنقل جملته كما أوردها)- تخريباً لـ”حضارة الغرب” لصالح ناس معينين. حاولت فهم ما يقول هذا الفاضل وما فهمت شيئاً. وما فهمت كيف كانت العربية والحضارة الإسلامية مؤامرة لتخريب “حضارة غرب” لم يكن موجوداً أصلا إبان نزول الرسالة!!!!!.
ومنهم من أوحى بأنّا ندعو إلى تعليم العبرية، وينبهنا إلى أنّا لم نقم بعد بتعليم الضروري من اللغات، وهي عندهم “الإنقليزية” والفرنسية والأمازيغية”. سيدي، نحن من أوائل من دعا إلى العناية بكل اللغات، وبذلنا في ذلك جهداً عندما تحملنا مسئولية مكتب تنسيق التعريب. ونحن من كتب وقال إن اللغة الأمازيغية أحرى بأن تدرس في الجامعة ويكون لها فيها ما تستحق في ميادين الدراسة والبحث والمعرفة، لغة وأدباً، نثراً وشعراً. وعندما تعلق الأمر بعاطفة، قلت إنها لغة أبي. ودعْونا وندعو دوماً إلى العناية باللغات الأجنبية السائرة، بوصفها أدوات علم لا بوصفها أداة تدريس. وهذه هي الطريق السليمة للمعرفة.
ومنهم من اتهمنا، تصريحاً وتلميحاً، في إيماننا بما هو أهدى لقضايا وطننا وقضايا أمتنا، وهذه كانت دوماً، منذ قُدر لنا أن ننشغل بهذا الحقل من المعرفة، شغلنَا الشاغل. وما أدري أقرأ هذا الفاضل وأمثاله كتابنا “التوراة والشرعية الفلسطينية” وهل سمع به؟ وهل قرأ ما أوردناه في كتبنا المختلفة وهل سمع بها؟. لو كان له علم بهذا لكان قد أراح نفسه من سيء الظنون.
أعزائي لسنا نحن، أساتذة الجامعة، من يقول: “ستصبح العبرية لغة رسمية في الدستور القادم ووو…“. إنكم أنتم الواهمون، هذا ليس شغلنا، ولم تفرقوا بين المعرفة وما تعتقدونه “سياسة”، لأن عيونكم عَشِيتْ (أظن أنكم تفهمون جيداً هذا الفعل “عشيت” لأنكم أصحاب اللغة العربية)، ولا تَبــِينون الأمور كما يجب. فنحن رجال معرفة، كما كان المستشرق Louis-Massignons ماسنيون، رجل المسيحية، يقرأ العربية وينشغل بالتصوف، وما وَسَمَه قومه بما تَسِمُونَنَا به نحن. (الله يَهْديكُمْ). والدعوة إلى معرفة شيء، لا يجب أن يكون سبباً في سوء الظن بالناس، لأن هذا قد يصبح حالة مرضية قد تكون عسيرة الشفاء. وما أخلاق الحوار تكون بهذا وما هي من أخلاق الإسلام الذي باسمه نصدر حكماً.
أساءني من هؤلاء المنتقدين أنهم لم يقرأوا جيداً ما هو منشور في “هسبريس”، ومبدأُنا فيه واضح، وموقفُنا فيه بارز، وتعليقهم عليه بالطريقة التي فعلوا، يدل على أنهم لا يفهمون العربية جيداً أو أنهم “يهذرون” عبثاً.
وأساءني منهم أنهم يحكمون علي وعلى من يشاركني هذا الحقل من المعرفة، بما يتصورونه عن وَهْمٍ. إنهم لم يقرأوا ولا علم لهم بالموسوعة العلمية التي أصدرها أساتذة الجامعة المختصون في هذا الحقل، وهم لا يرتبطون بأي كان، ومهما كان. وما أصدره هؤلاء الباحثون هو موسوعة في عشرة كتب، نشرتها كلية الآداب بالرباط، وما خرجت هذه عن خط المعرفة أو مالت ميلا سياسياً أو خدمت ظرفاً من الظروف.
وأساءني من هؤلاء الناس أنهم لا علم لهم بالرسائل والأطاريح والبحوث والتحقيقات والترجمات التي نشرها أساتذة هذا التخصص، في كتب ومجلات وموسوعات، وكلها مبنية على علم ومعرفة، وأنها لم تُعْنَ باللغة العبرية وحدها، فما هذه إلا بعض أداة. بل اعتنت بكل اللغات القديمة: آرامية وسريانية وإغريقية ولاتينية وعبرية، واعتنت بكتب العقائد والأديان كلها. وفعل هؤلاء الباحثين هو كفعل علماء أكبر الجامعات الغربية بعد أن استيقظ أهلها من سباتهم، منذ القرن السابع عشر، بل وقبل ذلك في طليطلة، عندما اتخذوا من هذه اللغات، وفي مقدمتها العربية، أداةً لكتابة التاريخ والبحث في الأديان والحضارات.
وحماة هذه الجامعات قلدوا فعل كبار علمائنا، من مثل ابن حزم الأندلسي، والشهرستاني، وابن خلدون، بل أمثال المسعودي والطبري والزمخشري، فكل هؤلاء العلماء المسلمين كانوا يعرفون معنى أن تنظر في دين غيرك وتتأمله وتتعلم لغته. وما كان هؤلاء يعملون لصالح فلان أو علان. كانوا يخدمون المعرفة والحضارة والإنسانية. عنايتُنا بهذه اللغات القديمة هي أداة من الأدوات التي بها ننظر في أعمال الجامعات المشار إليها. وبعضٌ من أعلامها ومن كبار مستشرقيها هم من وضع الإسلام بل قرآننا في حيز من الشك، باعتبار أنه نقول عن التوراة وعن اللغة السريانية وووو. ومن أبرز الكتب التي خاضت في هذا الموضوع الكتاب Geschite Des Qorans “تاريخ القرآن” للمستشرق الألماني Theodr Nöldeke (تيودور نولدكه)، البروسي الجنسية (1836-1930)، والذي بواسطته حصل على جائزة أكاديمية الفنون الجميلة الفرنسية l’Académie des inscriptions et belles-lettres en France سنة 1859. ونشر الكتاب سنة 1860. ولعله نال هذا التقدير لأنه “شكك في القرآن لغة ومضامين”. دراسة اللغة السريانية والآرامية والعبرية والإغريقية واللاتينية هي الأدوات القادرة على الرد على ما في هذا الكتاب وأمثاله. فهنا لا تنفعك الإنقليزية- كما سميتها- ولا الفرنسية ولا الألمانية وكل لغات الدنيا. لا تنفعك هنا إلا اللغات التي بها احتج المحتج وادعى بأن القرآن استقاها واستقى منها. وهي في الكتاب المذكور، اللآرامية والسريانية والعبرية. أفهمت سيدي لماذا نعلم في الجامعة اللغة العبرية وندعو إلى تعليم الآرامية والسريانية؟
البحوث الكثيرة التي أنجزها المختصون في هذا الحقل من المعارف هي القادرة على إنصاف حضارتنا. وبأمثالها يكون طلبتنا في جامعاتنا هم أصحاب القول الفصل في هذا الحقل وبهذه اللغات وبهذه المعارف. هذه البحوث في أقسام جامعاتنا المختصة في العلوم الإنسانية هي القادرة، مع كل بحث رصين، على أن تجعل جامعاتنا نداً مقدَّراً لدى جامعات الغرب التي بقينا لها تَـبَعاً خُنَّعاً وكنا نستجديها مما نظنه علماً مجرداً من الأهواء والخلفيات. طلبتنا هم الأجدر بأن يدرسوا ما في البوذية والتوراة والتلمود والأناجيل وغيرها من المذاهب والمعتقدات، وبهذه اللغات وبهذه المناهج ننجز علماً أصيلا عن وعي، من صنعنا المعرفي المنصف الصادق المنافح عن ديننا وحضارتنا.
وطلبتنا هم الأولى بأن يعيدوا النظر فيما كتبه الغرب عن حضارته، وقبلناه “حُلواً” دون تمحيص، وفيه كثير مما يدعو إلى التصحيح والإصلاح والتنبيه. وطلبتنا هم القادرون على إعادة تاريخ ثمانية قرون من عطاء الإسلام العلمي النافع للعقول والأبدان، من علم اللغة إلى علم الأفلاك والتشريح وصناعة السلاح. قرون من أزهى الحضارات ضرب الغرب عنها صفحاً في كتبه ومناهجه، وعلَّمَ أطفاله أننا رعاة جمال وأغنام، وحتى هذه، فهي فن وعلم. لكنه لم يقدمها هكذا، وسكت عن الأصول الإسلامية التي بنى عليها حضارته.
أعزائي الكرام الذين قرأوا ما نشرته “هسبريس” بسرعة أو بقلة فهم أو أو أو.. هذا هو المسلك الذي يسلكه أساتذة هذا الحقل من المعرفة، وهم خدام جامعاتهم ووطنهم وأمتهم وحضارتهم، بل وحضارة الإنسانية جمعاء. وبهذا المنهج نضع جامعاتنا في مصاف الجامعات الكبرى، وبهذا يحترمنا الآخر.
كان علي بدءاً أن أذكِّر من قال ما قال بدافع ديني منه- جزاه الله خيراً- بما هو من الإسلام ومن مبادئه، ليعلم أنّا عندما انشَغلنا بما اعتبره هو، تلميحاً، بُعْداً عن عقيدة، أنّا لم نفعل شيئاً غير مرغوب فيه، ولو كان هذا الفاضل ومن يماثله من ذوي الاطلاع والمعرفة بتاريخ وبسنن دينهم، لعلم أنّا اتبعنا سنن نبينا صلى الله عليه وسلم: “قال الترمذي في جامعه (باب تعليم السريانية)
ثم روى بسنده إلى زيد بن ثابت قال: فقد “أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتعلم كلمات من كتاب يهود وقال إني والله ما آمن يهود على كتابي، قال فما مر بي نصف شهر حتى تعلمته له، قال فلما تعلمته كان إذا كتب إلى يهود كتبت إليهم وإذا كتبوا إليه قرأت له كتابهم”.
هذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم وما خرجنا عنها. وختام قولي: العلم حكمة، قال تعالى: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَاب” (البقرة: 269).
“وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ” (هود: 88).
المصدر: وكالات