كيف حال فيتنام بعد أن حررت نفسها من أمريكا؟
حال مجهول. لقد اختفى البلد الثوري طويلا من على الشاشات منذ فيلمي “القيامة الآن” 1979 لفرانسيس فورد كوبولا ثم “فول ميتال جاكيت” Full Metal Jacket 1987 لستانلي كوبريك.
لذلك اشتقت إلى فيتنام على الشاشة، وها هي “نتفليكس” تعيد البلد إلى الشاشة العالمية من خلال فيلم لبنت البلد، وهكذا لن تبقى النظرة الإخراجية الأمريكية للبلد مسيطرة.
قدمت المخرجة فيرونيكا نغو “Veronica Ngo” فيلم Furies” 2023″ عن شابة فيتنامية من تسعينيات القرن الماضي فقيرة بلا تعليم، مثل أغلبية الشعب، تقتحم أرضا مجهولة… هاربة من نار ودم إلى المدينة الكبيرة: سايغون المجد الثوري والبؤس الاقتصادي… في الاستقبال سُئلت الشابة:
– أنتِ، بم يناديك الناس؟
– ساقطة.
لقد قبلت الصفة التي ألصِقت بها. امتصتها وتعايشت معها. شابة رأسمالها جسدها الذي انتهك مرات، لم يعد لها ما تخسره… تتمرن على العيش في عالم يحكمه قانون الغاب. صار الرجال ينظمون الدعارة، هكذا لم يعد بإمكان الأنوثة أن تحتمي بالرجولة في المدينة الكبيرة…
تعتبر النساء المسنات هذا العنف بأنه “قضاء وقدر” وهكذا يخففن عن أنفسهن، بينما تعتبر الشابات ما جرى ويجري لهن جريمة تستحق العقاب… تتناوب المعارك الشرسة ولحظات المكاشفة الهادئة المؤلمة عن قلة الخيارات أمام الفتيات الفقيرات غير المتعلمات. وتلك المكاشفة هي تفسير وتبرير لكل العنف الذي يجري.
كانت تلك فتاة في عالم يحكمه قانون الغاب، تتمرن على التعامل مع العنف اليومي، تلتقي شبيبتها لمقاومة قسوة لا محدودة في قصة حتمية بيولوجية… مقدمات عنيفة تفرز تطورات أعنف… ترتبت عنها حتمية الأدوار الاجتماعية… عنف وسرقة.. وتشرد وهبوط مستمر نحو الجحيم.
لقد جلبت المخرجة واقعا جديدا… من مجتمع عاش حروبا متصلة… يسحقُ العنف المزمن الفرد والمجتمع، من الصعب أن تبني ما سحقته… هذه صورة مريعة عن بلد ما بعد الثورة، في غياب دولة الحق والقانون لا جواب على العنف إلا العنف.
هذا النقد هو تفاعل حي مع فيلم أقل من متوسط. مشكوك أن يكون النظام الديكتاتوري في فيتنام قد سمح بالتصوير في مدينة سايغون.. وهذا المنع والخوف من الصورة الحرة من سمات بلدان الثورة المزمنة التي تعرف انتشار وعي هوياتي حاد بسبب طول فترات الاستعمار. وعي سيتطلب تعديله فترة طويلة.
شابة عزلاء ضحية عنف منفلت، لكنه مبرر نظرا لما تعرضت له بنات تقل أعمارهن عن العشرين، فبالنسبة للزبناء هذه هو عمر السلعة الجيدة. لفهم قانون العرض والطلب في هذا المجال ينبغي البقاء في شاطئ الدار البيضاء حتى بعد منتصف الليل لفهم ما يجري… هناك حيث تبقى الجميلات بلا حماية وتصير تجارة البشر فعلا بالتراضي… والتواطؤ.
إن الزحام سبب رئيسي للنزاعات… من هنا تخرج الضحية من موقعها… تهاجم… تبني الضحية قصة هوية جديدة، صارت الضحية جلادا عادلا… هكذا يؤسس الفيلم لصورة جديدة للمرأة في بلد يعاني من التجارة بالبشر، ومن تجارة البشر بنفسه ليعيش في مناطق تعرف سياحة جنسية كثيفة.
لقد تحسن اقتصاد فيتنام في 2020، لكن المخرجة اختارت ما جرى في 1990 لتكشف وضع بلدها. هكذا فبالموازاة مع نتاجات هوليود تقدم “نيتفليكس” جغرافيا سينما العالم… فما بعد “القيامة الآن” للأمريكي كوبولا جاء دور الجحيم الأرضي في فيتنام…. في جغرافية مزدحمة بالبشر والجوع والعنف… هناك جحيم النساء في مجتمعات الزحام التي سلط عليها ظهور فيروس كوفيد 19 الضوء. منذ ذلك الحين صار ما يجري في أقصى شرق آسيا مقلقا لباقي العالم.
في “كازينوهات” البؤساء… عنف آسيوي، متعة إذلال النساء، استباحة تجعل الإحساس بالأمان مستحيلا… حصلت القضية النسوية على زخم كبير في القرن الواحد والعشرين… وهي قضية تملك شرعية أكبر في مجتمعات يسود فيها عنف رهيب تجاه النساء… فبما أن الدولة غائبة أو متواطئة فيجب على كل فرد أن يقاتل ليحصل على حقه بيديه، وهذا ما أفرز “غونغستيرات” فيتناميات عادلات… وهذا من “كليشيهات” أفلام هونغ كونغ عن اليتامى الذين يساعدهم الحظ للعثور على عائلات تحتضنهن فتتغير حياتهن.
فنيا، هذا عالم مافيوزي مصور بطريقة الهواة، غلب تصوير المعارك على المقاربة السوسيولوجية النضالية، لأسباب تجارية هناك إيقاع سريع وموسيقى تصويرية ميكانيكية… مع ضعف في الأداء. ففي الفيلم تصوير وتمثيل فيه الكثير من نقط الضعف… هناك مبالغات في المعارك، هناك بحث مكشوف عن الإثارة… تعبير عن الغضب مما يجري… يفتقر الفيلم إلى جماليات سينمائية كثيرة، ستحتاج المخرجة والممثلة فيرونيكا نغو وقتا طويلا لصقل أسلوبها… لا تكفي عدالة القضية لصناعة فيلم سينمائي جيد.
المصدر: وكالات