نصوص بيعات مقدّمة للسلاطين المغاربة عبر القرون من مختلف المناطق المغربية، بما فيها الأقاليم الجنوبية للمملكة، عرضتها بهيجة سيمو، مديرة الوثائق الملكية، في محاضرة نظمتها جمعية رباط الفتح للتنمية المستديمة بالعاصمة، إضافة إلى ظهائر تعيين الباشوات والقضاة وإدماج العناصر الصحراوية بالحرْكات (الحملات) السلطانية والجند والركب السلطانيين، ووثائق حول الأجهزة الخاصة للتواصل بين الحكم المركزي وجهة الصحراء، والطابَع المغربي الذي يعدّ بدوره من رموز السيادة.
كما قدمت مديرة الوثائق الملكية تاريخ “حركة العمران” من إقامة القلاع والمدارس والزوايا بالأقاليم الجنوبية، وترميم المراسي، ومنها مرسى الداخلة، وتدخل السلاطين والملوك، عبر القرون، في فض النزاعات بين القبائل، واستئصال شأفة المستعمرين، قبل أن تعلق بالقول: “أليس هذا كله بسيادة؟ لم تكن تختلف المنطقة الصحراوية في معالجة القضايا مثل باقي المناطق المغربية الأخرى”.
واعتمدت المتدخلة مادة وثائقية نشر جزء منها في كتاب “الصحراء المغربية من خلال الوثائق الملكية”، لمتطلبات ذكرت أن على رأسها “الحاجة الماسة إلى المعرفة التاريخية التي باتت الشعوب تدعو إليها”، ثم “تقريب الوثيقة من الباحث والدبلوماسي والسياسي، والانخراط في دمقرطة المعرفة وتقريب الوثيقة من المواطن، والانخراط في التفكير السليم حول القضايا التي تهم البلاد”.
ومن بين ما كشفته المحاضرة “محاولة الاستعمار النيل بخطة مرسومة من الوحدة الترابية المغربية في الواجهتين الصحراويتَين المغربية والشرقية”.
وحول الصحراء المغربية، ذكرت المتحدثة أن “من يستعرض الوثائق المتعلقة بالدولة المغربية ككيان سياسي عبر المحطات التاريخية يستشف حضور الصحراء الدائم في منظومة الحكم بالمغرب ودورها في تاريخه، وأول استنتاج أن معظم الدول التي تعاقبت على حكم المغرب كانت من الجنوب أو من الواحات الصحراوية، فمن العهد الإدريسي إلى دولة الشرفاء العلويين تعاقبت على حكم المغرب ثمان دول، تنتمي أغلبها للجنوب المغربي أو حواشيه، وكان لها دور حاسم في بناء الكيان السياسي المغربي كدولة لها حدودها وهويتها وتقاليدها منذ الفتح الإسلامي إلى اليوم”.
وتابعت سيمو: “عبور الصحراء تصديرا واستيرادا عبر القوافل التجارية كان يتطلب تنظيمات دقيقة جدا لضمان الأمن والاستقرار، في ظل مواجهة طول المسافات وقطع الفيافي، وهو ما لعب فيه المغرب دور الوسيط التجاري مع جنوب الصحراء الإفريقية؛ وفي هذا تفاعلت الصحراء المغربية مع واقع المغرب في جميع محطاته وقضاياه”، وواصلت: “لم تكن مكانة المغرب السياسية فقط بقوته الاقتصادية والعسكرية، بل أيضا بحمل السلع والأفكار، فالمرابطون عملوا على نشر المذهب المالكي، وخير دليل على ذلك إقامة رباط عبد الله بن ياسين في حوض السنغال، وفق ابن خلدون، والسيادة التي وصلت إلى أقصى الجنوب المغربي؛ علما أنه ليست للرباط أدوار دينية وتربوية فقط، بل أدوار دفاعية أيضا، رباطا للخيل ومقرا للمجاهدين المرابطين دفاعا عن الوحدة الترابية؛ وهو ما حافظت عليه الدول التالية، من موحدين ومرينيين ووطاسيين. غير أنه بموجب الكشوفات الجغرافية وانتقال الثقل الاقتصادي إلى المنطقة الشمالية من البحر الأبيض المتوسط أضاع المغرب دور الوساطة التجارية”.
في زمن الضعف الإسلامي هذا “أصبح هناك مد عسكري عكسي، من الشمال إلى الجنوب، عكس ماض من الجنوب إلى الشمال، كما في الحضور بالأندلس لقرون. واحتلّ الإيبيريون الشواطئ والسواحل المغربية، ولم تنج الصحراء بوصفها جزءا لا يتجزأ من التراب المغربي، فاحتل البرتغاليون بوجدور والرأس الأبيض، لكن بحلول القرن السادس عشر وبوصول الدولة السعديّة إلى الحكم استرجعت السيادة الشاملة على أرض الصحراء وطردت الإيبيريين، ووسعّت الحدود إلى نهر السنغال في الجنوب والنيجر في منطقة أخرى بموجب موقِعة تونديبي سنة 1591″، وفق المحاضرة ذاتها.
وزادت المتحدثة: “باستقرار الدولة العلوية الشريفة في القرن 17 الميلادي احتلت الصحراء مكانة هامة ومتميزة في منظومة الحكم. والوثائق المتوفرة لدينا تبين بجلاء تشبث الأقاليم الصحراوية بالولاء للعرش العلوي، وبروابط بيعة شرعية للملوك والسلاطين العلويين، معززة بالتمثيل المخزني الدائم في مختلف الأقاليم الصحراوية، من طرف السلطان مولاي إسماعيل (…) بمناسبة حركته الشهيرة إلى منطقة سوس الأقصى (التي تشمل الصحراء المغربية) والأدنى، حيث تزوج خلال الحملة السيدة الفاضلة خناتة بنت بكار المغافرية. ولا يخفى ما لتلك المصاهرة من روابط دموية بين الدولة العلوية والصحراء”، ثم أردفت: “السلطان مولاي إسماعيل مارس السيادة المباشرة بتوات، وقورارة، وواد الساورة من الصحراء الشرقية، وبالمنطقة الممتدة ما وراء درعة من الساقية الحمراء إلى بلاد شنقيط، وعين ابنين له خليفتين، أحدهما على الصحراء الشرقية، والمامون خليفة على الأقاليم الصحراوية الغربية”، قبل أن تذكّر بأن رسائل السلطان المولى إسماعيل موجودة إلى اليوم، وتبيّن الفضاءات الصحراوية التابعة للسيادة المغربية، والتوجيهات السلطانية في الحكم.
كما ذكرت الأكاديمية سيمو أن مرحلة “ما بعد السلطان مولاي إسماعيل غنية بالشواهد، من خلال مجموعة من الاتفاقيات والمعاهدات التي تحفظ سيادة المغرب على الصحراء الشرقية والغربية؛ واتفاقية سنترا سنة 1508 ولو أنها بين إسبانيا والبرتغال فإنها تعترف بمجال السيادة الجنوبية للمغرب ما وراء الرأس الأبيض”، مستطردة: “تنص المادة 22 من الاتفاقية بين المغرب وإسبانيا سنة 1799 على أن السيادة المغربية تمتد إلى ما وراء وادي النون، بمعنى الفضاءات الواسعة وراءه، والاتفاقية المغربية سنة 1786 مع الولايات المتحدة الأمريكية تثبت مرة أخرى السيادة المغربية، والالتزام بحماية السفن الأمريكية الجانحة بالسواحل المغربية. كما تبين الوثائق الملكية أنه في سياق التنافس الاستعماري في القرن التاسع عشر أثارت الصحراء المغربية تنافس وتسابق التجار، والرحالة والبعثات الاستطلاعية، غير أن المخزن المغربي مع القبائل الصحراوية تصدى لهذا بكل استماتة”.
ثم ذكرت المحاضرة أن “المغرب والجزائر جزءان لا يتجزءان من دار الإسلام، غير أن الفرق كان واضحا بينهما، فالجزائر كانت إيالة تابعة للخلافة العثمانية، والمغرب كان يمارس سيادته في استقلال”، متابعة: “لا يمكن فهم مشكلة الحدود دون العودة إلى مرحلة الإيالة العثمانية الجزائرية، لأن القوافل التجارية لم تكن تعترضها أي مشاكل ولا مواكب الحجيج المارة من وجدة، نظرا للتقارب الدموي بين الجزائر والمغرب، وروح الإسلام والتقاليد والأعراف جد المتقاربة، غير أن الفاصل في الحدود غير المادية وغير الملموسة هو فاصل البيعة، التي حددت السكان والبقاع التابعة للمغرب. وتلمسان التي هي جزء لا يتجزأ من الجزائر تقدمت ببيعتها للسلطان السعدي محمد الشيخ، وتقدمت ببيعة للسلطان مولاي سليمان وردها، وبايعت المولى عبد الرحمان بعد ذلك سنة 1830 عقب استعمار الجزائر من قبل فرنسا فلم يكن هناك تصور مادي للحدود، بل التزامات داخلة في سياق المفاهيم الشرعية الإسلامية الرابطة لجميع المناطق الإسلامية”.
وزادت سيمو: “كانت هناك اتفاقية بين السلطان مولاي امحمد والدولة العثمانية سنة 1647، وأُكدت باتفاق مبرم مع مولاي إسماعيل سنة 1791، وتقول إن تافنا هي حدود المغرب والإيالة الجزائرية. غير أن الأمر تغير في القرن التاسع عشر بعد احتلال الجزائر من طرف فرنسا، وهو حد فاصل للأمة العربية الإسلامية والمغاربة بشكل خاص، نظرا للخطر من المنطقة الشرقية؛ ونتج عنه مد المغرب الجزائريين بالمال والسلاح والعتاد، واستقبال اللاجئين وتوفير النقل والسكن. وأحيانا كان يعطي مولاي عبد الرحمان من ماله الخاص لكي لا يشعر الجزائري بأي نقص في المغرب. ومن أراد الاطلاع على كناش محفوظ بالخزانة الوطنية بباريس رقمه 24 بقسم المخطوطات العربية، كان يراقب فيه الفرنسيون هذه المساعدات بتفاصيلها”.
واسترسلت مديرة الوثائق الملكية مستعرضة نتائج هذا الدعم، واستقبال عبد القادر الجزائري في الأراضي المغربية، من تهديدات فرنسية، ثم اقتحام الحدود المغربية، فمعركة إسلي سنة 1844، والهزيمة النكراء للمغرب، التي “أسدلت الماضي المجيد للانتصارات المغربية”، ما نتجت عنه اتفاقيتان؛ الأولى سنة 1844 بطنجة، أما الثانية فدفعت الفرنسيين إلى التفكير في رسم خريطة للحدود، وأردفت موضحة: “ثاني الاتفاقيتين هي لالة مغنية الخطيرة جدا، سنة 1845، التي وضعت المغرب أمام معضلة كيفية رسم الحدود المادية، بعد الاعتماد على شرعية البيعة، بينما كانت الدول الأوروبية قطعت أشواطا وتجاوزت المجتمع القبلي وكانت ترسم حدود الدولة الوطنية بمصطلحات أخرى”.
ومع تقديمها دلائل إرشاء مفاوضين مغاربة وقولها إن “التاريخ لا يرحم”، ذكرت سيمو ما حدث من تخلّ عن أراض مغربية شاسعة، وجعل غموض في رسم خريطة المغرب بجهة فكيك للتلاعب بها مستقبلا، رغم أن السلطان المولى عبد الرحمان “ثارت ثائرته وكتب لجميع عماله بالعرائش وأصيلة المقربتين من التمركز الدبلوماسي بطنجة، وقدم وثائق تثبت مغربية المناطق دون أن يجد أذنا صاغية”.
ومن بين ما استعرضته المحاضرة المقاومة المغربية في نهاية القرن التاسع عشر للتغول الاستعماري والأطماع الاستعمارية الأوروبية المغلفة بالتجارة، والخسارات المغربية، بتطوان مثلا، التي نتجت عنها اتفاقيات أجبرت فيها البلاد على التنازل عن مناطق مغربية، مع مقاومات توثقها الوثائق الملكية، من بينها الحملة السلطانية التي طردت مشروع ماكينزي البريطاني الذي أراد إقامة مركز تجاري بين وادي نون وبوجدور، ومعاهدة مراكش سنة 1895 التي استرجع بها المغرب طرفاية والأراضي الموجودة جنوبها، مع ذكرها أن بيعة السلطان المولى عبد الحفيظ سنة 1907 كانت من جملتها بيعات أقاليم توات وتيديكلت وكورارة.
كما ذكرت المحاضرة ما حدث في 14 يناير من سنة 1912، قبل شهرين من عقد الحماية، من تبني فرنسا بطريقة أحادية خطا إداريا، تتوزع بمقتضاه الاختصاصات الإدارية بالمغرب والجزائر، وسحب العديد من الأقاليم المغربية. وجاء الخط الثاني، الذي توقف عند تندوف؛ وهكذا “امتد التوسع الفرنسي في الأراضي المغربية، وبقيت الحدود قائمة إلى حدود سنة 1934، إذ اعتبرت فرنسا أن لها حق احتلال المنطقة”.
“لكن رغم ذلك ظل المغرب يدافع عن حدوده الشرقية، التي ظلت له إلى حدود مجيء الفرنسيين، وطالب بمجرد استقلاله باسترجاع وضعيته الترابية واستكمال استقلاله، وفي سنة 1958 استرجع طرفاية. وحاولت فرنسا التفاوض بعد الاستقلال على الحدود الشرقية، وجددت الطلب سنة 1957 لمقابلة الحكومة المغربية مع مقترح على مشكلة الحدود، ومن جملة القضايا تندوف، لكن أجاب الملك محمد الخامس بأن: ‘مطالب وحقوق المغرب ستعتبر طعنة في ظهر أصدقائنا الجزائريين الذين يحاربون، وأفضل انتظار استقلال الجزائر، لأضع أمام إخواني الجزائريين مسألة الحدود’”، تورد سيمو.
وعلقت المؤرخة على هذا بقولها: “كان موقفا إنسانيا لم يراع التقلبات الدبلوماسية والسياسية (…) وكان جوابه منبثا من مثله العليا وأخلاقه النبيلة المقدرة لحسن الجوار وأخوة الإسلام والروابط الدموية التي تجمع بين الروابط المغربية والجزائرية، وتجربته المريرة في مواجهة الاستعمار لأنه عاش النفي، فكان جوابه يتماشى مع فلسفته التضامنية مع الثورة الجزائرية، إذ أهدت الحكومة المغربية دون حساب المجال المغربي كقاعدة لوجيستيكية للثورة الجزائرية سككا ووسائل الدعاية وثكنات عسكرية وموانئ، رهن إشارة الجزائر المحاربة، فضلا عن المواقف الدبلوماسية والمساعدة بالمال والسلاح والرجال”.
ومن بين ما عرضته سيمو قصاصة من جريدة “المجاهد” الجزائرية، صدرت يوم 15 مارس من سنة 1958، وتتحدث عن تصريحات السلطان حول “المشكل الجزائري” ومطالبته بـ”الاعتراف للشعب الجزائري بالحرية والسيادة”، ثم علقت بقول: “لا حول ولا قوة إلا بالله”.
وتطرقت المحاضِرة أيضا إلى الدعم المغربي سلطانا وحكومة وأحزابا لاستقلال الجزائر، والالتزامات بين المغرب، الذي مثله الأمير الحسن آنذاك، والحكومة المؤقتة الجزائرية، بـ”المفاوضات” على “الحدود التي أقرتها فرنسا بصفة جائرة”، قبل “التخلي عن الالتزامات بمجرد الاستقلال”.
وعادت المؤرخة إلى ما قبل المسيرة الخضراء سنة 1975، من إثبات محكمة لاهاي “روابط البيعة القانونية للقبائل الصحراوية”؛ إذ كان جوهرها “مستمدا من تاريخ عريق وهوية مغربية أصيلة، فكانت مسيرة أمة”.
وفي تقديم المحاضرة قالت المؤرخة لطيفة الكندوز إن لبهيجة سيمو مسارا أكاديميا غنيا، “بشهادتي دكتوراه، الأولى من جامعة السوربون بباريس الفرنسية، في موضوع الإصلاحات العسكرية في المغرب من 1844 إلى 1912، والثانية من جامعة محمد الخامس بالرباط حول العلاقات المغربية والإيطالية”، كما أنها “أول امرأة عربية ومسلمة اختيرت عضوا في أكاديمية العلوم لما وراء البحار بباريس، ومن أعضاء المجلس العلمي لمؤسسة التحالف الدولي لحماية التراث في مناطق النزاع.”
وذكرت الكندوز أن “مغربية الصحراء شيء ثابت، لكن التأكيد والتوضيح ضروريان في هذه القضية، وقارئ تاريخ المغرب يدرك جيدا الحدود الجغرافية للمغرب، في العصور المرابطية والموحدية والسعدية التي وصلت حدود مالي، بل وصلت حدود ليبيا، كما تثبت ذلك رسائل السلاطين، والوثائق الأصيلة. وأستاذنا جرمان عياش كان ينصحنا بالابتعاد عن الكتابات الكولونيالية، والاعتماد على الوثائق الأصلية، التي تعين المؤرخ وعليه الاستناد ‘ليها، وهذا ما استندت إليه بهيجة سيمو”.
عبد الكريم بناني، رئيسة جمعية رباط الفتح للتنمية المستديمة، ذكر من جهته أن هذا “لقاء أول، في إطار سلسلة جديدة من اللقاءات حول قضايا المرافق الجنوبية المغربية، ستنظم تباعا”، ومفتتحها لقاء “الأستاذة الجامعية والباحثة في التاريخ المغربي، وخاصة التاريخ العسكري، وتاريخ العلاقات المغربية الأوروبية، ومديرة مديرية الوثائق الملكية، بهيجة سيمو التي لها اهتمام كبير بالوثائق الملكية، وعملت على أن تصبح هذه الوثائق والمديرية منبعا لتاريخ المغرب من أصوله، ابتداء من الدولة الإدريسية إلى يومنا هذا، بعمل جاد وعلمي وتفتح على المجتمع المدني”.
المصدر: وكالات