في مدينة الجديدة حيث يختلط الموج بحبر التاريخ، تشكّل وعي سعيد عاهد ككاتب ومترجم وصحافي، لا بوصفه حاملا لكلمات الآخرين فقط، وإنما باعتباره مشيّدا لجسور بين الأزمنة واللغات، بين الذات وظلالها، بين الحرف وألم المعنى. رجل يكتب لأنه لا يستطيع أن يصمت، ويترجم لأنه يريد أن يُسمِع، ليس صوته بالضرورة، وإنما أصواتا كثيرة خافتة، مهمّشة، منسية أو غير مفهومة، تحتاج من يعيد تشكيلها لا ليحتكرها، بقدر ما يمنحها فرصة أخرى للعيش.
لم تكن الكتابة لدى سعيد عاهد وسيلة هروب ولا الترجمة فعلا عابرا من ضفة إلى أخرى. فقد كانت الأولى مقاومة لإكراهات اللغة المحايدة في الصحافة، والثانية بحثا في الذاكرة المنسية عن ملامح الذات المغربية، كما تراها وترويها أعين الآخر. وبين الصحافة والإبداع والترجمة، نسج مساره، متنقلا بينها من دون أن يتنكر لأي منها، فهو يلبس قميص الصحافي، حتى لا ينسى دفء القصيدة، وحين ينكب على ترجمات تاريخية أو أنثروبولوجية معقدة، لا يخفي ولعه بالمحو والتأويل وإعادة التملّك.
وهو في الوقت نفسه الكاتب الذي لا يدّعي إنتاج المعرفة، بقدر ما يتقاسمها. وهو المترجم الذي لا يختبئ وراء النص، وإنما يمنحه حياة جديدة في لسانه الأصل. وهو ذلك المناضل الثقافي الذي تشكل في زمن كان فيه الحرف أداة مقاومة، لا ترفا إبداعيا، وفي زمن كانت فيه الترجمة ليست فقط جسرا بين لغتين، وإنما بين سرديتين، بين تاريخ رسمي وذاكرة غائبة.
يكتب سعيد عاهد ليعيد ترتيب فوضى العالم، ويترجم ليمنح للمنسيين والمبعدين والمهجرين صوتا، ويعود إلى الشعر حين تضيق عليه اللغة الرسمية بما رحبت. وبين قصيدة تُشبه الاعتراف، ومقال يُشبه السيف، وترجمة تُشبه المرافعة، يتوزع عاهد، لا باحثا عن مجد شخصي، وإنما عن أثر، وعن معنى، وعن لحظة صفاء بين الذات ومرآتها.
وحين يُسأل إن كان سيعيد الطريق ذاتها إن عاد به الزمن، لا يتردد في الجواب: نعم. لأن الكتابة، بكل أوجاعها، كانت تستحق أن تُعاش، ولأن الترجمة، بكل تعقيداتها، كانت فعل حب لا خيانة. ولأن الصمت، ذلك الصمت الذي يشبه الحكمة أو الريح أو هدير البحر، هو رفيق دائم، لا بديل.
في هذا الحوار لا نكتشف فقط كاتبا ومترجما، بقدر ما نلتقي برجل يحمل مشروعا ثقافيا على كتفيه، ويؤمن بأن اللغة ليست فقط وسيلة للتواصل، فهي أداة للفهم والمقاومة والتحرر.
نص الحوار:
حين بدأت الكتابة، هل كنت تكتب هربا من العالم أم شوقا إليه؟ وهل الترجمة كانت فعل خيانة للنص أم إنقاذا للذات؟
في البدء، كانت الكتابة حرفتي ووظيفتي، أقصد كتابة المقال الصحافي في مختلف أجناسه، والترجمة جزء لا يتجزأ من العمل المهني هذا، من العربية إلى الفرنسية أولا، ولاحقا في الاتجاه الآخر. أما الإبداع، شعرا بلغة موليير ومحكيات بلغة الضاد، فشرعت في امتطاء صهوته كفعل مقاومة للغة الصحافة وإكراهاتها التي تستلزم الدقة في انتقاء الكلمات والحرص على ألا تتسم بلبس المعنى، والالتزام بحد أدنى من الموضوعية وكبح جماح المخيلة للاكتفاء برصد الحدث الواقع على أرض الواقع بدون زيادة. بينما لغة الإبداع تجيز للمبدع ما لا تجيزه لغة الصحافة للإعلامي، يسودها تعدد المعنى وتحضر ضمنها الذات المنعتقة.
الكتابة الصحفية ترسم العالم كما هو، أو على الأقل مثلما يتبدى، بينما الكتابة الإبداعية، في تجربتي، تعيد صياغته كما تشتاق وتتوق إليه، تهرب من حاضره لتلتمس آفاقه المستقبلية، مسعاها صياغة رؤية غده المحتمل حتى وهي تطرق أبواب الذاكرة. وعلى مستوى الترجمة، خاصة ترجمة المؤلفات التاريخية والأنثروبولوجية حول المغرب، فهي ترمي أساسا إلى تقريب قراء العربية من نظرة الآخر إليهم وإلى مجتمعهم ودولتهم وممارساتهم، وتعريفهم بهذه النظرة البرانية. ووفق هذا الهدف المبتغى، فهي إنقاذ للذات الجمعية من النسيان ومحو الذاكرة، بفعل تناولها مواضيع لفتها الكتابات بالعربية بصمت مريب. ومن جهتها، تراهن ترجمة الأعمال السردية لبعض الكتاب المغاربة فرنسيّي اللسان على إعادة نصوصهم إلى منبعها ولغتها الأصل، استعادة تملكها من قبل محيطها الطبيعي، أو لنقل المساهمة في عودة نص ضال لسانيا إلى آله وذويه.
بين أن تكون كاتبا يُنتج المعرفة، ومترجما يُعيد تشكيلها، أيّهما كنت أولا؟ وأيّهما الأكثر خيانة لك؟ وأيهما أكثر وفاء؟
لا أزعم إنتاج المعرفة إطلاقا، سواء كصحافي أو ككاتب. أحاول فقط، قدر إمكانياتي المتواضعة، التواطؤ في فعل ثقافي عام أفقه تحديث العقل المغربي وتحريره من ترسبات ماضي يتم تمجيده وتقديسه بشكل مبالغ فيه، من التكلس والعيش خارج العصر وقيمه الإنسانية الكونية. مساهماتي، ضئيلة العمق والكم والصدى، مجرد نقل لمعارف منتقاة أنتجها الآخرون، وتوصيفها بعملية نقل ينطبق عليها جميعها سواء وقعتها كصائغ إياها أو كمترجم لها. وفي الكتابة الشخصية كما في الترجمة، والأولى سابقة زمنيا على الثانية في حالتي، أظل وفيا لقيم ومبادئ شكّلت وعيي وأفقي منذ أصابني فيروس تسويد الصفحات لتقاسمها مع قراء مفترضين.
هل اخترت الترجمة لأنها تمنحك سلطة المواربة والاختباء خلف الآخرين أم لأنها تُعطيك صوتا أقوى مما تتيحه الكتابة الشخصية؟
لم أختر الترجمة قبلا مع سبق الإصرار، بل فرضتها علي مهنتي كصحافي. مارست الترجمة الصحفية في البداية كواجب مهني، لأنقل إلى اللغة الفرنسية مواقف الحزب (الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية) الذي أشتغل في الجريدة الناطقة باسمه الصادرة بالفرنسية (ليبراسيون) وتحليلاته، وكذلك بعض المقالات الفكرية والثقافية والإبداعات المغربية المنشورة بالعربية لتعزيز وتنويع مضمون الصفحات الثقافية للجريدة. وبعدها، عند التحاقي بجريدة “الاتحاد الاشتراكي”، أضيف لترجمة المقالات والمقاربات السياسية والفكرية إلى العربية، تمرين موسمي ضمن ملحقين يصدران مرتين في السنة، فسحة رمضان وفسحة الصيف، صرت أنشر ضمنهما ترجماتي لبعض الكتب ومواد أخرى. وشاءت الصدف أن أنشر، في هذا الإطار، مقتطفات طويلة من مؤلف لألبير ساسون، أول عميد لكلية العلوم بالرباط، موسوم بـ “خياطو السلطان: مسار عائلة يهودية مغربية”، ليتصل بي عقبها المؤلف وناشره ويطلبا مني إنجاز ترجمة كاملة للكتاب لنشرها. هكذا بدأت الحكاية ببساطة وبدون ترتيب مسبق لتشرع في وجهي أبواب ترجمة الكتب. إن ترجمة المؤلفات ذات البعد التاريخي تتيح لي، بكل صدق، إمكانية معالجة بعض القضايا الراهنة الشائكة ذات الجذور التاريخية، ولكن على لسان الآخرين. وأسوق، في هذا المقام، مؤلفين اثنين مع أسباب نزولهما: “الجريمة والعقاب في مغرب القرن 16″، وهو ليس ترجمة محضة بل معلَّق عليها من طرفي، الذي يتناول ظاهرة العنف الممارس من قبل الدولة وفي مواجهتها في تلك الحقبة التاريخية؛ وخلفية هذا العمل تكمن في استمرار الظاهرة نفسها، بتجليات مغايرة، في المغرب المعاصر. والمثال الثاني هو كتاب الدكتورة ليجي الصادر سنة 1926 الذي ترجمته تحت عنوان: “المعتقدات والطقوس الشعبية للمغاربة قبل مائة عام”، وهو يصف معتقدات وطقوسا، أغلبها خرافية، ما زالت تسكن فكر وسلوك كثير من المغاربة وتتحكم فيهما إلى حد الآن.
كيف تشكّل وعيك بتاريخ المغرب المعاصر؟ وما الذي دفعك لترجمة هذا النوع تحديدا؟ هل كنت تبحث عن الحقيقة أم تُحاول أن تُنقذ الذاكرة من النسيان؟
تشكل هذا الوعي مبكرا، بتزامن مع انخراطي في العمل الجمعوي والسياسي الشبابي في سلك الدراسة الثانوية. كانت معرفة جوانب تاريخ المغرب السياسية والاجتماعية ضرورة “نضالية” و”إيديولوجية” تندرج ضمن تكوين كل مناضل شاب في صفوف اليسار يحترم نفسه وانتماءه، ومعها إدراك طبيعة الدولة المغربية ومراحل تشكلها. ورغم أن تكويني المدرسي علمي محض، فقد صار التاريخ المغربي، وخاصة بياضاته والمسكوت عنه ضمنه، قارة يهوسني ويستهويني استكشافها. أما ترجمة بعض صفحاته كما رواها الآخر، فهي بالطبع محاولة متواضعة لحماية قسط يسير من الذاكرة من آفة النسيان كما أشرت إلى ذلك سابقا، ونفض غبار الصمت على بعض الصفحات التي تتناساها الرواية الرسمية أو تحكيها وفق وجهة نظر أحادية منحازة. أما الحقيقة في حقل التاريخ، فتظل نسبية إلى حد كبير، خاصة أن المنتصرين هم الذين يكتبونه! خذ مثلا كتاب “الفتان بوحمارة: محكيات من سيرة الروگي بوحمارة لصحفيين وكتاب غربيين معاصرين له”، فهو يحاول تقديم رؤية مختلفة عن الرؤية السائدة لدى مؤرخي تلك المرحلة المغاربة للرجل الذي طالب بالعرش في مطلع القرن العشرين، ومقاربة مغايرة لشخصيته وانتفاضته وتجربته، علما أنه لم يكن مجرد “روگي” (أي خارج عن طاعة السلطان ومنتفض ضد حكمه ومطالب بالعرش من دون شرعية ولا وجه حق) عابر، بل حكم مناطق شاسعة من البلاد طيلة حيز من الزمن، وأسس مخزنا مماثلا للمخزن العزيزي ببنيقاته (وزاراته) وجيشه، ومظاهر الأبهة الممارسة في طقوسه وظهائره، بما في ذلك فرقة نحاسية.
الصحافة، الترجمة، والكتابة: ثلاث جبهات، لكل منها سلاحها. كيف توزّعت بينها؟ وأين تُقاتل فعليا؟
الجيل الذي أنتمي إليه والذي انخرط في صفوف اليسار، إما تنظيميا أو فكريا، كان يتميز بتعدد الاهتمامات إلى حد كبير، الفرد منه يضع عدة قبعات ويمارس قناعاته في مجالات مختلفة قد تبدو متسمة بالتناقض فيما بينها للمراقب المتسرع. لكن قدر هذا الجيل تشكل على هذا المنهاج، وزمنه الحي دفعه إلى تعدد “الأنا”. كان العالم أيامها خشبة مسرح في حاجة إلى تغيير، حلبة صراع سياسي وفكري وإيديولوجي يجب الانتصار في مضمارها لقيم التنوير، ودمقرطة المجتمعات والدول، وتحقيق الكرامة المواطنة والمساواة، ومناهضة الإمبريالية والصهيونية والعنصرية والرأسمالية. وبناء على تعدد الذات هذا، فالصحافة والترجمة والكتابة ربطات عنق أضع الواحدة منها حسب السياق والمقام. أنتقل بينها مثل رحالة محترف، لا فرق لديه بين الإبحار برا أو بحرا أو جوا. ومع ذلك، فالشعر يظل أقرب إلى هواي وإلى ذائقتي. أتنفس من خلاله وبه وعبره، أتحرر حين اقترافه من أبشع السلط تسلطا في الكون، سلطة اللغة التي تتولد من رحمها أغلب السلط الأخرى. أوظفه سلاحا فتاكا لعتق الكلمة التي تقولني وتقول خيباتي وهشاشتي من أبوية سيبويه التحكمية، وطهرانية الأكاديمية الفرنسية المستبدة، وكليانية مجاميع الألسن الحية والمنقرضة. لنقل إنه زوجتي الشرعية وأم أطفالي، بينما الترجمة والمقالة الصحفية عبارة عن خليلتين أقضي وقتا ممتعا بين أحضانهما، وذلك رغم أن المدة الزمنية التي أخصصها لسرير الأخيرتين ومسامرتهما تفوق بكثير تلك التي أقضيها في معبد الشعر.
في مشاريعك، هل كنت تختار النصوص أم كانت هي التي تختارك؟ ما الذي يجذبك في كتاب ما لتقول: “هذا يجب أن أترجمه”؟
اختيار المؤلفات التي أقدم على ترجمتها يكون، على العموم، نتيجة تفاوض بيني وبين دار النشر، ليس على قيمة التعويض وبنود عقد الترجمة، بل على العنوان الذي إما يقترحه الناشر أو نناقش جدوى الاشتغال عليه مبادرة مني. ورغم اهتمامي أساسا بترجمة النصوص ذات المنحى التاريخي والأنثروبولوجي والسرود المغربية، فإنه حدث مرارا أن وافقت على محاورة متن لا علاقة له بهذين المجالين، وذلك نظرا إما لطرافة موضوعه أو لاعتقادي بأن توفيره لقراء اللغة العربية لا يخلو من فائدة تتجاوز مجرد لذة القراءة. اسمح لي بأن أسوق مثالين في هذا السياق. أولهما كتاب “رحلة ذهاب بدون إياب: الطرد التعسفي لمغاربة الجزائر سنة 1975” لمحمد الشرفاوي، وهو عبارة عن نص من جنس التخييل الذاتي يسترجع تلك المحنة التي هي، في الواقع، جريمة قائمة الأركان اقترفها النظام الجزائري مع سبق الإصرار والترصد. ثمة ثلاثة أسباب جوهرية بررت ترجمتي لهذا المؤلف: كوني عايشت وفود بعض هؤلاء المبعدين إلى مدينة الجديدة، مدينتي، وكون قضيتهم ليست معروفة بالقدر الكافي لدى مواطنيهم ولدى باقي الشعوب العربية، وكون مأساتهم تستلزم الاعتراف وجبر الضرر وإعادة ممتلكاتهم المسلوبة من قبل الدولة الجزائرية إليهم. كان عملي هذا مساهمة في الترافع على قضية أعتقد أن السلطات المغربية لم تخصص لها ما يكفي من الاهتمام والعناية والمصاحبة. أما المثال الثاني، فيتمثل في ثلاثة أعمال تيمتها جميعها الطائفة اليهودية المغربية، تاريخها وطقوسها وعاداتها وهجرة أغلبيتها (“خياطو السلطان” سالف الذكر، و”طعم المربيات: طفولة يهودية في المغرب” لبوب أوري أبيطبول، والمؤلف الجماعي “الذاكرة اليهودية في شرق المملكة المغربية”). وهذه الترجمات كانت تهدف إلى تسليط الضوء على أحد مكونات المغرب على امتداد تاريخه الموغل في القدم وأحد الروافد الأساسية لحضارته وثقافته وفنونه؛ مكون ورافد يجهل الكثير من الشباب إسهامه الغني وبصمته الفاعلة في ذاكرتنا الجمعية لأسباب معروفة. خلاصة القول، إن ترجمتي لنص ما تكون مشروطة أساسا بقدرته على نسج علاقة تحاب معي كقارئ أولا، وعلى منفعته المعرفية أو الأدبية ثانيا، وعلى احتمالي توليد لذة الإمتاع والمؤانسة لدى المتلقي ثالثا. أما إذا وجدت نفسي في موضع الاختيار بين نصين لا يسمح السقف الزمني المحدد بترجمة إلا واحد منهما فحسب، فإنني أعطي الأولوية للنص النسائي في حالة وجوده، انتصارا لمقاربة النوع ولأسباب جلية أخرى. هكذا، نقلت إلى العربية، ضمن منجز يصل إلى 21 عنوان تقريبا، خمسة مؤلفات تحمل توقيع نون النسوة (دراسة الدكتورة ليجي المذكورة سالفا، و”السماء تحت أقدامنا” لليلى باحساين، و”المغرب كما رأيته: فرنسية في مغرب 1908″ لماثيلد زييْس، و”عندما يتعثر الحمل” لكاتبتين كنديتين، علاوة على “الوجه الآخر للصيف”، رواية هاجر أزل التي هي قيد الطبع).
بعد كل هذا الطريق: لو عاد بك الزمن إلى بدايتك، هل كنت ستختار أن تكون مترجما وكاتبا في آن أم كنت ستختار الصمت؟
ثمة شريط سينمائي أمريكي شاهدته في بداية الثمانينيات وتاه عنوانه في شظايا الذاكرة، يقول بطله في نهاية الفيلم وهو يساق إلى غرفة تنفيذ حكم الإعدام في حقه: “الحياة كانت جديرة بأن تُعاش!” الكتابة والترجمة كما عشتهما ومارستهما كانتا تستحقان أن أعيشهما، وفق نفس الإدمان الراديكالي المُحبّ حد الضيوم الذي هو أسمى مراتب الحب وفق الثعالبي. كنت سأختار الصمت كذلك، ليس كبديل عن حرقتهما، بل كرفيق لدربي في مسار فضيحة اقترافهما واستنشاق عطرهما؛ أعني بالطبع الصمت الناطق بالمعنى مثل صمت الحكماء أو صمت البحر أو صمت الريح، أي ما يتبقى حين نكف عن توظيف اللسان وإصدار الأصوات للإنصات إلى هدير العالم الصامت وصمت الواقع الناطق بالمرارة. لو قدر لي الانبعاث طفلا وشابا يافعا، لسلكت السبيل ذاته، ترجمانا ومصفف كلمات زاده “الأفازيا” (الحُبسة) التي هي، وفق ميرولو-بونتي، “سجن يعتقلنا خلف قضبان الصمت”.
المصدر: وكالات
