يعشق المخرجون السينمائيون تصوير الحرب وهي حسب كلاوزفيتز “استكشاف فن العنف في تدمير أعدائنا”، في هذا السياق قدم كريستوفر نولان فيلمين عن الحرب العالمية الثانية في ست سنوات. دانكيرك في 2017 وأوبنهايمر في 2023. تجري وقائع الأول في شواطئ أوروبا بينما تجري وقائع الثاني في عمق صحراء أمريكا.
صُوّر الأول بكاميرا محمولة بسلم لقطات جد متنوع وحوارات قليلة في كادرات تجمع بين الشخصيات والفضاء، بينما صُوّر الفيلم الجديد -عن سيرة الدكتور النووي روبرت أوبنهايمر- بكاميرا ثابتة تلتقط حوارات طويلة مملة ورؤوسا تتكلم وكادر ثابت يقتصر على الأكتاف والرؤوس.
عرض فيلم دانكيرك علاقة الجنود الشبان بالموت ويعرض الفيلم الثاني عباقرة ألمانيا ويهود نيويورك المتفوقين في الجامعات الأمريكية. يمجدهم في حوارات طويلة عن محنة يهود ألمانيا اليساريين حفدة ماركس الذين تكرههم نيويورك. وهنا يخصص المخرج وقتا ميتا كثيرا لإدانة المكارثية… كل ذلك لإظهار الفيزيائي مفيدا قبل الحرب عدو بعدها وهذا يُسبّب الندم. لا يلتقي منطق الباحث المثالي مع منطق القوة لدى الجنرالات.
فيلمان متناقضان أسلوبيا ولكن متكاملان دلاليا.
على صعيد المنظور الأخلاقي قدم كريستوف نولان مرافعة لغوية من أجل البراءة الاخلاقية لرجل صنع قنبلة مدمرة خرجت من يده لتعمل ضد جنون النازية وضد النزعة الانتحارية للساموراي الياباني.
لقد صار الأمر بيد السياسيين لهندسة شكل المستقبل، لذلك شعَر الباحث بالندم والتهميش بينما أكمل التاريخ مسيرته التقدمية: لقد حققت القنبلة نصرا حربيا لأمريكا أثمر أرباحا سياسية ترجمتها واشنطن إلى مكاسب اقتصادية انتهت بإسقاط المعسكر الشرقي الذي سرق وملك القنبلة أيضا ولم يملك أبدا اقتصادا متينا.
بمجرد تحقق هدف الحكومة الأمريكية تعرض الباحث النووي للإهمال. باحث مِحوري ملتزم لديه ضمير قلق على مصير البشرية. صار البطل المثالي متهما بالخيانة في زمن المكارثية وخضع للتحقيق لضبط الخائنين للوطن الأمريكي في المجال الأكاديمي النبيل.
يقدم نولان الدكتور النبيل الانساني أوبنهايمر كمفخرة وطنية قدم ستانلي كوبريك (DOCTOR STRANGELOVE 1964) الدكتور النووي مغروا ومجنونا بقوة القنبلة وهو يمارس الروديو على صاروخ كامتداد لسلوك رعاة البقر.
لقد صور نولان رؤوسا تتكلم في فيلم عن الحرب بشكل ممل لأن ندم أوبنهايمر يجري في جمجمته التي لا تلتقط الكاميرا ما في داخلها من حزن نبيل، بينما صور كوبريك إدانة للدكتور النووي وحماقته بحيث يستحيل التعاطف معه.
بالمقارنة بين الفيلمين على صعيد المنظور الأخلاقي كان فيلم كوبريك مشبعا بالسخرية وخاصة لقطات النقاش النووي حول طاولة الاجتماع الدائرية العملاقة التي توحي بجنون العظمة. يعتقد كوبريك بأن “دروب المجد” (فيلم كوبريك 1957) مصيرها القبر لذلك قدم تناولا كوميديا للموضوع. كوميديا سوداء لكشف طبيعة الإنسان الشريرة.
لقد طبق كوبريك الدرس الفني من شكسبير “الحياة قصة رواها أحمق”. لذلك لا جدوى من أن يتعقل من يرويها. بينما عمل نولان على تصوير تعقل ونبل الدكتور أوبنهايمر النادم.
إن تصوير الصوابية الأخلاقية أقل متعة في الأدب والسينما.
هذه أفلام مصورة بأساليب مختلفة يجمعها مبدأ مناهضة الحرب وهي رحى عمياء تطحن الشعوب.
هاتين مقاربتين مختلفتين لموضوع الحرب، وهي أبرز أشكال العنف المنظم. تمّ في فيلميْ كوبريك ونولان تحويل النظرية الفيزيائية الخام إلى منجز عسكري. كانت لنظرية أينشتاين حدودها على الورق لذلك وجب نقلها للميدان وهو ما فعله الدكتور أوبنهايمر. لقد كان البراكسيس -بمفهوم ماركس- أكثر كثافة من التنظير. فكل ما تراكم خلال ثلاثة قرون من تاريخ الفيزياء بعد نيوتن على الورق أثمر قنبلة جلبت نصرا ميدانيا مدويا.
على صعيد مقارنة المنظور الفني يتشابه فيلما كوبريك ونولان في مشاهد الأبيض والأسود وفي نحت موضوع كبير متنوع وخطر في حوارات في فضاء مغلق. الضحايا خارج الكادر، لا مكان لضحايا القنبلة من اليابانيين في الفيلم. التاريخ يكتبه المنتصرون.
يتحدث أندري بازان عن استعصاء المادة على الفكرة، على الأسلوب. لذلك لجأ المخرجان إلى النحت وهو أسلوب يمكن من إخضاع المادة الخام وصقلها تبعا لوجهة نظر كل مخرج.
فبدل تصوير مسار القنبلة والحرب تم نحت كل القصة في ملامح الدكتورين ومحيطهما لكي لا يرهقا انتباه المشاهدين بالتفاصيل الزائدة. لجأ المخرجان إلى النحت الفني كوسيلة للتخلص من التشتت المُتعب. النحت هو تكثيف المتعدّد في الواحد. ترهق الاستطرادات انتباه المتلقي.
لقد أنشد بوالو ديبريو في 1674م في كتابه “فن الشعر”:
“إذا غاب عني معنى أبياتكم
شرَدَ ذهني في الحال
فهو سريع التقلب أمام الكلام الغامض”.
ختاما، يبقى ستانلي كوبريك مخرجا بأثر مدو، لكن نولان ينحت هويته الإبداعية ويحفر مكانته بعزيمة وموهبة لا تفتر. تقدم أفلامه عملا فنيا متكاملا يجعل عشاق المخرج ينتظرون جديده لكي يبحثوا عن الصلة بين الفيلم الجديد والأفلام السابقة. نولان مخرج مؤلف في حضن شركة إنتاج عملاقة “إينفرسال”. وقد حقق فيلمه “أوبنهاير” منجزين. نهج سينما المؤلف الذي يقدره السينيفيليون النخبويون زائد كونه صمد جماهيريا في القاعات السينمائية، ثم سيصمد في منصات المشاهدة المدفوعة.
إن صناعة الفن عامة مُكلفة ويجب أن تغطي تكاليفها وتوفر ربحا للمواهب السينمائية العظيمة. ومع نجاح أفلام نولان تسري أخبار أنه سيتعاقد مع شركة “مترو غولدوين ماير” ليقوم بإخراج الطبعة القادمة من فيلم “جيمس بوند 007″، وسيضطر حينها لتقليل حوارات الندم ليصور مطاردات أكثر.
المصدر: وكالات