في أقل من يومين، تسارع خُفوت صدى تمرد مجموعة “فاغنر” المسلحة، بينما كانت تتجه نحو موسكو؛ إلا أن ذلك لم يمنع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف من تأكيد أن العمل الذي تؤديه فوق بعض أراضي القارة الإفريقية “متواصل”.
تأكيدات وزير الخارجية الروسي لم تتأخر كثيرا عن زمن واقعة “عصيان بريغوجين”، ذاكرا أن مجموعة فاغنر ستواصل عملياتها في مالي وجمهورية إفريقيا الوسطى، رغم تمرد قائدها يفغيني بريغوجين الذي أُنهيَ متم الأسبوع المنقضي.
وكان لافروف أورد ضمن مقابلة أجرتها معه قناة “آر تي” الروسية أن “أفراد فاغنر يعملون هناك بصفة مُدرِّبين”، وزاد: “بالطبع سيتواصل هذا العمل”، مشددا على عدم تأثير ما حصل في واقعة التمرد على علاقات روسيا مع “شركائها وأصدقائها”، وفق تعبيره.
ويطرح استمرار دور ميليشيات فاغنر وأنشطتها الأمنية والعسكرية في مجالات إفريقية شاسعة سؤال جدوى الجهود الدولية والإقليمية الرامية منذ مدة إلى استتباب الأمن وعدم زعزعة الاستقرار في منطقة الساحل والصحراء على الخصوص، إذ لم يعد سراً تمركز قوات من فاغنر في أراضي جنوب ليبيا، وكذا مالي، فضلا عن دول إفريقية عديدة تخترقها هذه الميليشيا.
أثر من القرن الإفريقي إلى مالي
الموساوي العجلاوي، خبير مغربي في شؤون منطقة الصحراء والساحل، قال إن “قوات فاغنر أصبحت ظاهرة خطيرة على الاستقرار”، مستدلا على ذلك بكونها “قهَرت القوات الروسية في روستوف، ووضع العالم يده على قلبه من اندلاع حرب أهلية روسية قد تأتي على الأخضر واليابس”.
الأستاذ بمعهد الدراسات الإفريقية–جامعة محمد الخامس بالرباط لم يُغفل لفت الانتباه، في تصريحه لهسبريس، إلى أن “قوات فاغنر شُكلت خارج المؤسسات العسكرية، فكان طبيعياً أن ينقلب السحر على الساحر”.
ورصد العجلاوي “تساؤلات الإعلام الغربي عامة، والفرنسي خاصة، عن عواقب ما حصل في جنوب روسيا على حضور فاغنر في إفريقيا”، موردا أن “جُل التعاليق الغربية حملت شماتة في الدول الإفريقية التي اختارت فاغنر لحل مشاكلها الأمنية”، وزاد: “بيد أن ما حدث في روسيا سيكون له أثر على وجود قوات فاغنر في جل البلدان الممتدة من القرن الإفريقي إلى مالي”.
“ساحة صراعات مكشوفة”
“بوتين سيحاول تحويل الصورة المخدوشة لنظامه إلى ربح إستراتيجي عسكري، بعد تعديل شكلي في قيادات هذه المجموعة”، يؤكد العجلاوي في إفادات تحليلية خص بها هسبريس، معددا أنه، أولا، “سيمنح الحرية والسلاح لقوات فاغنر في أوكرانيا لتحقيق مكاسب ميدانية، وتحويلها إلى رأس رمح الحرب الروسية هناك”.
أما المعطى الثاني، حسب العجلاوي، فهو أن “ساكن الكرملين سيقوّي دور فاغنر في القارة الإفريقية لخدمة أجندات السياسة الخارجية الروسية”، وزاد مفسرا: “بدا واضحا هذا المنحى في تصريح لافروف حول الموضوع. ما هو مؤكد أن إفريقيا ستتحول إلى ساحة صراعات عسكرية مكشوفة بين روسيا والغرب”.
وخلص المتحدث إلى أن “دول الغرب ستوظف كل الأوراق لإفشال الخطط الروسية في القارة الإفريقية، معتمدة في ذلك على شركائها الإستراتيجيين في القارة رغم قلّتهم، وعلى إبراز نقاط الضعف في السلاح الروسي موازاة مع ما يحققه الجيش الأوكراني ضد القوات الروسية”.
تهافت على إفريقيا
من جهته، نسج الدكتور إدريس لكريني، أستاذ القانون الدولي ومدير مختبر تحليل الأزمات والسياسات بجامعة القاضي عياض بمراكش، على المنوال نفسه، مسجلا أن “إفريقيا أصبحت تحظى باهتمام دولي وإقليمي كبير، بل أضحت تتعرض لتهافت كبير على هذا المستوى، بالنظر إلى الإمكانيات الطبيعية والثروات التي تزخر بها على شتى الواجهات”.
وتابع لكريني شارحا لهسبريس بأن “التحولات الدولية الراهنة في ارتباطها بالتموقعات أو التحالفات في خضم البحث عن نظام دولي تعدُّدي تلعب فيه كل من الصين وروسيا مكانة وازنة، ما جعل من إفريقيا فضاءً لتنافس عسكري واقتصادي دولي متزايد”.
وأكد أستاذ العلاقات الدولية وتدبير الأزمات أن “قوات فاغنر هي في الأصل شبه عسكرية اعتُبرت في أحيان كثيرة بمثابة الذراع العسكري للتمدد الروسي في إفريقيا؛ هذا الأخير لا يمكن إلا نَربطه بالطموحات الروسية المتزايدة للعب أدوار طلائعية متزايدة في الساحة الدولية، خصوصا التموقع في هذه المنطقة الحيوية الغنية”.
“دول إفريقية كثيرة في منطقة الساحل تعيش على إيقاع جملةِ إكراهات ومشاكل سياسية وأمنية واجتماعية واقتصادية، وحظيت باهتمام أممي كبير، فضلا عن الاهتمام الإقليمي؛ إلا أن الملاحَظ أن هذه الجهود لم توَفق في إرساء حلول مستدامة تدعم استقرار هذه البلدان وتعزز التنمية بها، ما جعلها عرضة للمشاكل في علاقة بتمركز عدد من الجماعات المسلحة وانتشار تهريب البشر والسلاح والسلع”، يورد المتحدث ذاته.
من هنا يؤكد لكريني أن “ما جرى مؤخرا ببروز العلاقة المتوترة بين الرئيس بوتين وقائد فاغنر ستكون له تبعات في المستقبل رغم محاولات تطويق الأزمة ومحاصرة تمددها”.
الخبير في العلاقات الدولية رصَد هذه التبعات في مدى وجود هذه القوات بإفريقيا، وشرعية ذلك، متسائلا: “هل هي مرتبطة بعمل مقاولاتي أو مصالح اقتصادية تحركها بعض الجماعات أو القوى الضاغطة لفائدتها؟”.
الرهان على فاغنر “خاسر”
“المراهنة على هذه القوات في استتباب الاستقرار في إفريقيا لا يمكن اعتباره خيارا إستراتيجياً مادام الهاجس ماليا بالأساس، ومادامت في جزء كبير من محدداتها غير مسؤولة وغير رسمية”، يخلص الأكاديمي ذاته، باسطاً “اعتبارات القانون الدولي الذي يحدد التزامات الدول، وضوابط ومسؤوليات دولية تؤطر العلاقات ما بينها، في حين أن نشاط فاغنر يطرح أكثر من سؤال حول الضوابط القانونية المؤطرة لأنشطتها بشكل يطرح مشاكل لإفريقيا”.
ودعا لكريني “الأمم المتحدة” إلى أن “تلعب أدوارها لأنها مطالبة بذلك، والأمر نفسه بالنسبة للمنظمات الإقليمية، كالاتحاد الإفريقي الذي عليه أن يملأ هذه الفراغات؛ حتى لا يُزجّ بالأفارقة في متاهة صراعات تذكر بفترات دامية وصفحات قاتمة من تاريخ القارة”، وأجمل ملخصا: “ما يحدث الآن من محاولات إرساء نظام دولي تعددي جديد يسائل الأفارقة أنفسهم من حيث جعل إفريقيا بعيدة عن هذا التنافس أو بروز التضامن الإفريقي في مواجهة هذه التدخلات متعددة الأبعاد”.
المصدر: وكالات