والمغرب يخلد الذكرى الثمانين لتقديم عريضة المطالبة بالاستقلال في 11 يناير 1944، وقبلها كان عيد المسيرة الخضراء وعيد الاستقلال، تحضر إلى الأذهان العديد من الذكريات الوطنية التي جسدت معاني التلاحم والدفاع عن الأرض والحرية والكرامة، ولعل الكثير من تلك الذكريات أصبح معلوما عند أغلب المثقفين والمهتمين بتاريخ المغرب، منذ توقيع عقد الحماية على الأقل في 30 مارس 1912 بفاس، إلا أنه مع ذلك تبقى هناك صفحات شبه مجهولة للكفاح الوطني، من الضروري إماطة اللثام عنها حتى تعرفها الأجيال الحالية ولتكتمل القناعة الراسخة بأن استقلال المغرب، رغم ما شابه من تعثرات وأخطاء، لم يكن هبة سهلة أو عطاء هينا، بل جسدته تضحيات العرش والشعب معا وكذا تضافر الظروف والشروط التي لازمت الكفاح الوطني منذ انطلاقته الأولى أواخر العشرينيات من القرن الماضي مرورا بالاحتجاج على الظهير البربري والقمع الشرس لسنة 1937 وعريضة 11 يناير 1944 وخطاب طنجة في 09 أبريل 1947 وانتفاضة الدار البيضاء 1952 وغيرها من المدن المغربية، وانتهاء بانطلاق جيش التحرير وإعلان استقلال الـبلاد.
من بين تلك الصفحات شبه المجهولة قضاء عدد من زعماء وأعضاء الحركة الوطنية ما يناهز شهرين بسجن تازة اعتبارا من غشت/شتنبر حتى أكتوبر 1930 على إثر المظاهرات التي تزعمها هؤلاء الشبان بفاس ضدا على السياسة البربرية للإقامة العامة، التي استغلت الحركة الوطنية خلالها المساجد وترديد اللطيف “اللهم يا لطيف نسألك اللطف فيما جرت به المقادر ولا تفرق بيننا وبين إخواننا البرابر”، وهو الدعاء الذي تردد صداه في مجمل مساجد المغرب، وخاصة في المدن الكبرى والمتوسطة وبعض البوادي، وفيما سمي تاريخيا بانتفاضة الظهير البربري الذي صدر في 16 ماي 1930، وعلى إثر تلك المظاهرات تم اعتقال عدد من زعمائها الشباب آنذاك، أبرزهم الزعيمان علال الفاسي ومحمد بلحسن الوزاني، وسرت الركبان بالتنكيل الذي سلطه باشا مدينة فاس بوشتى بالبغدادي على الوطنيين، وهو التنكيل المصحوب بكل أشكال التعذيب وهدر الكرامة البشرية، ثم قضت المحكمة الاستعمارية بسجن ستة من هؤلاء الزعماء لمدة ثلاثة أشهر بتازة.
زعماء ونشطاء الحركة الوطنية الذين تم نفيهم إلى سجن المشور بتازة هم: محمد بلحسن الوزاني – علال الفاسي – العربي البوراشدي – محمد البلغيثي – محمد الدرقاوي والعربي الدرقاوي، ولم تحتفظ سجلات التاريخ إلا بإسمي علال الفاسي ومحمد بلحسن الوزاني على اعتبار ارتباطهما بالحركة الوطنية إلى حدود 1937، وبعد انشقاق الحركة إلى الحزب الوطني لتحقيق المطالب ثم حزب الاستقلال بزعامة علال الفاسي من جهة، والحركة القومية ثم حزب الشورى والاستقلال بقيادة بلحسن الوزاني من جهة أخرى، أما باقي أسماء المعتقلين الآخرين فقد طوتهم الأيام إما بالوفاة أو بالانسحاب من الحياة السياسـية ككل.
وردت واقعة وأطوار اعتقال النشطاء الستة بتازة عند علال الفاسي بشكل مقتضب في كتابه “الحركات الاستقلالية في المغرب العربي” الطبعة السادسة، 2003، مؤسسة علال الفاسي ص167. فبعد أن استعرض ما جابهته مدينة فاس خلال هذه الفترة من قمع واعتقالات “احتل الجيش القرويين والمساجد الكبرى، وشوارع المدينة الفسيحة، وأعلنت حالة الطوارئ وألقي القبض على مئات السكان، وقد نفيت أنا وسبعة من أصدقائي إلى مدينة تازة، كما نفي الأخ محمد اليزيدي إلى قلعة السراغنة وابن عبد السلام الحلو إلى فجيج”، وهنا نسجل وقوع اختلاف في عدد معتقلي تازة؛ فالزعيم علال يفيد بأن عددهم سبعة، في حين يعددهم الزعيم الوزاني في ستة فقط، المهم يتابع الزعيم علال: “وبعد أن هدأت المظاهرات، أي بعد شهرين من اعتقالنا، قرر رئيس الجمهورية الفرنسية زيارة المغرب بدعوى تهدئة الخواطر، ولما وصل الرباط أطلق سراحنا الذين نحن بتازة”، كان الحكم بثلاثة أشهر سجنا نافذا قضى منها هؤلاء المعتقلون شهرين في سجن تازة، الذي نرجح أنه المارستان المريني السابق الواقع بزنقة سيدي علي الدرار (المشور) بتازة العتيقة، والذي تحول مع بداية الألفية الثالثة إلى متحف إقليمي يحتضن ذاكرة المقاومة وجيش التحرير بالمنطقة، وقد خلف الاعتقال إياه مع الأحداث التي سبقته أو صاحبته موجة من الاحتجاجات على السياسة الفرنسية بالمغرب شملت الاستنكارات والعرائض في بعض الدول الإسلامية.
إذا كانت إفادة الزعيم علال مقتضبة حول فترة سجنه بتازة صحبة رفاقه، فإننا نلحظ في المقابل أن الزعيم محمد بلحسن الوزاني أفاض واستفاض عبر سرد الظروف التي أحاطت باعتقالهم وسجنهم في المدينة نفسها، حيث يصف نوعية المكان ونمط العيش اليومي والتغذية وحالة الإقامة السجنية وقد ورد ذلك في كتابه “مذكرات حياة وجهاد”/التاريخ السياسي للحركة الوطنية التحررية المغربية – مرحلة الانطلاق والكفاح: 1930 – 1934 بدءا من الصفحة 107 يستهلها بقوله: “إن حياتنا بسجن تازة قصة من أغرب ما يروى، (فبعد أن أدخلوا إلى الزنزانة التي وصفها بأنها ضيقة ومظلمة) أتى القوم لهم بثلاث حصر (سجادات بالية ليجلسوا ويناموا عليها) وكنا نتوسد أحذيتنا ملفوفة في بعض الثياب، ولضيق المكان، كنا ننام غير ممددين”، وهنا يصف الوزاني حالة الطعام الذي أتي لهم به في الغداء، فهو غير صالح للأكل وكان الإناء من طين مملوء بماء أحمر، فلما حركوه ليعرفوا ماهيته اتضح لهم أنه ماء وسخ، مع قطع لحم كأنه الفحم واتضح للمساجين أنه لحم عنزي مطبوخ في ماء، مع شيء من الزيت وكثير من الفلفل الأحمر، فضلا عن أن اللحم كان نيئا عموما.
لم يتناول المساجين السياسيون إلا الخبز، الذي رافق تلك الوجبة، في حين تركوا الباقي على حاله وتكرر الأمر نفسه، مما أدى إلى إضراب ثان عن الطعام في وجبة العشاء، وتوافق أن زارهم القبطان المكلف بهم، بعد أن تناهى إلى علمه خبر امتناعهم عن الطعام بواسطة حارس السجن، فسألهم عن سبب إضرابهم ذاك ملاحظا في شبه حزم “ينبغي أن تفهموا أنكم في السجن وأن ليس لنا أن نطعمكم الدجاج والبسطيلة”، وهنا ثارت ثائرة السجناء، وخاصة محمد بلحسن الوزاني مستغربا إزاء ما يقوله القبطان ومعقبا: “ألست تعلم من نحن؟ أتجهل أننا أبناء عائلات كبيرة ومحترمة؟”، مؤكدا أنهم لم يتعودوا أكل ما لا يؤكل مثل الصنف “الغذائي” الذي قدم لهم وقتي الغداء والعشاء، ورد الوزاني على الاستفزاز ذاته بقوله: “أما الدجاج والبسطيلة فإن كانا عندك من الأطعمة الممتازة والنادرة، فلتعلم أنهما من الأطعمة المعتادة في بيوتنا”، مؤكدا أن القبطان نفسه يعرف كيف يعيش أمثال هؤلاء في منازلهم وأصناف الطعام التي يتناولونها عادة، كما ذكره بأنه يعرف أن الطبخ المغربي والفاسي منه خاصة طبخ ممتاز، طبقت شهرته العالم، “ولا شك أنك جربته وأعجبت به في كثير من المناسبات” كذلك ختم الوزاني هذا الرد المفحم الحاسم.
داهمت القبطان حيرة كاسحة، فأمر الحارس بإحضار الطعام المرفوض، ولما عاد إليهم تغيرت نبرته تماما، مقرا بأن الحق مع المساجين وأنه لم يعط الأوامر بذلك الطعام، واعترف بأن المسألة حصل فيها سوء فهم مع باشا المدينة (س) لأنه أمره في الواقع بتهيئة طعام من اللحم والخضر في الغداء وما يختاره السجناء في العشاء، لكن الباشا كلف أحد حماسي تازة بإطعامهم مما يبيع لعامة الناس، وكان هذا الأمر محل توبيخ من القبطان تجاه الباشا، ثم أكد لهم أنه كلف ناظر الأوقاف بتهيئة الطعام المناسب لهؤلاء السجناء، وقد حكى لهم الحارس أيضا أن القبطان لم يكتف بالتوبيخ بل صفعه على وجهه قائلا “أهكذا تنفذ الأوامر؟ ألا تعرف أن أولئك السجناء من عائلات معروفة وأنهم هنا بأمر من السلطات والمقيم العام”، وأضاف: “أننا نعرف الحمَّاس مثلك لو أردنا أن يتولى هو إطعامهم”، ويقر الوزاني بأنه منذ ذلك الوقت تحسن الأكل وارتقت جودة الوجبات الغذائية.
منذ تلك “الانتفاضة” ظل صاحب الناظر يسأل المساجين عبر حارس السجن عما يرغبون في تناوله خلال وجباتهم، فكانوا يأكلون طعاما جيدا، خاصة في الغداء، وتناهى إليهم أن الناظر استحضر طباخة لهذا الغرض، وفيما يخص أوضاع النوم، فكانت الزنزانة ضيقة وتسعهم بالكاد وظلوا يستضيئون بشمع صغير كان يعطى لهم، فيتآكل الشمع ويحترق بسرعة وحين يسود الظلام يصبحون فريسة للبق المعروف بلسعاته الحادة المؤلمة، وفكروا في الحلول الملائمة فلجؤوا إلى ضرورة إضاءة المكان طيلة الليل، مما يتطلب شمعا إضافيا، الشيء الذي تم رفضه من طرف إدارة السجن، لأن نظامه يفرض النوم بمجرد العشاء، لكنهم ظلوا يطلبون الشمع من أهلهم كلما زاره أحدهم، حتى توفر لهم منه الكثير وهكذا حلت مشكلة الإضاءة وشن المساجين بموازاة ذلك حملات مكثفة لقتل ذلك البق ولكن دون جدوى، إذ على العكس يؤدي ذلك إلى تكاثره، كما أن رائحته الكريهة تزكم الأنوف، حتى إن أحدهم روى أنه مسخ في المنام بقة تطير في الفضاء ويعلق الوزاني: “ولا غرابة في هذا بالنسبة لمن كان يقضي ليله في عراك مع البق مدة شهرين”.
سرعان ما طفا على السطح مشكل آخر واجهه المساجين، يتمثل في الحلاقة والاستحمام والتخلص من القاذورات، نتيجة مرور زمن لا يستهان به في هذا السجن، إذ طلب هؤلاء من القبطان إيفاد حلاق لهم فكان رده مرة أخرى: “بتذكيرنا بأننا في سجن سري، بحيث لا يسمح لأحد بالاتصال بنا ولا نخرج منه ولو ليلا تحت الحراسة”، وبعد أخذ ورد، أمر بإرسال أدوات الحلاقة ليتولى السجناء بأنفسهم العملية، فقاموا اضطرارا بدور الحلاق بعضهم لبعض رغم أن التجربة غريبة عنهم، أما الاستحمام فقد أمر القبطان حارس السجن بإحضار الحطب وإحماء الماء بهدف أن يغتسلوا وسط السجن بعد خروج المساجين للخدمة، فاضطروا إلى الاستحمام في المراحيض “حتى لا نتعرض في الساحة للبرد والريح”، ويلاحظ الزعيم الوزاني حول المكان: “ولكثرة الرياح في هذه الساحة من تازة العليا سميت باب الريح”، ومع أن حقيقة الرياح الشديدة بتازة، وخاصة بميدان باب الريح، لا غبار عليها، فإن التباسا ما يطرح حول موقع هذا السجن، إذ لا نعرف مكانا بهذه الصفة (السجن) في حيز باب الريح، وكل المعلومة التي تتداولها الروايات الشفوية وتعززها بعض الوثائق القليلة أن السجن الذي وضع فيه هؤلاء الناشطون هو ما كان قائما بحي المشور في تازة العليا، وهناك بالفعل ساحة مجاورة له هي ساحة المشور وفرضية كثافة الرياح بهذا الموضع تبقى صحيحة أيضا.
يؤكد الزعيم بلحسن الوزاني أنهم منذ وضعوا في تلك الزنزانة الوسخة المليئة بالرطوبة وهم يتساءلون عن مصير رفاقهم الذين فرق بينهم، ويقع التباس مكاني لدى الزعيم الوزاني مرة أخرى، وإن كان ألطف من سابقه، يتمثل في تحديده لتلك الزنزانة أنها تحت المنزل الذي سكن فيه الفتان بوحمارة، والحقيقة أن مقر الفتان الرسمي كان بعيدا عن مكان سجنهم ببضعة أمتار إلى الجنوب، وهو المسمى إلى حد الآن “دار المخزن”، سرعان ما حورها السكان إلى “دوار المخزن”، ويرجح أن النعت قديم يعود إلى عهد المولى الرشيد المؤسس الفعلي للدولة العلوية، الذي اتخذ تازة عاصمة له، قبل سيطرته على فاس بحوالي ثلاث سنوات. وعود على بدء، لما اعتاد سجناء الحركة الوطنية أن يقرؤوا القرآن الكريم بعد صلاة المغرب، تناهت إليهم أصوات خافتة تردد بدورها آيات من القرآن، وحين تواصل إنصاتهم، تمكنوا من التعرف على أحد رفاقهم وهو محمد البلغيثي واستخلصوا أن هؤلاء الرفاق وضعوا قريبا منهم.
تطور الاتصال بين الطرفين إلى الكلام عبر الحيطان، فكان كل واحد يجرب حظه في المناداة على البلغيثي آنف الذكر، وذلك بأن ينادي المعني بالأمر من تحت الجدار بينما يغطي آخران رأس المتكلم بالجلباب حتى يتجمع صوته كله أثناء النداء أولا وحتى لا يسمعه الحارس ثانيا، ولم تكن ثلة الوزاني تعرف شيئا عن أحوال السجناء الآخرين، كيف يأكلون ويتعاملون في يومهم الطويل، وعلاقتهم بالحارس، وسرعان ما وجدوا وسيلة مناسبة في التخاطب، تتمثل في نظم الكلام المراد تبليغه وإدماجه في أناشيد وأذكار دينية معروفة، تتم تلاوتها بأعلى الأصوات كي تتناهى إلى من وراء الجدار. ويذكر الوزاني في هذا المجال التواصل في مسألة الاستحمام، فيورد هذين البيتين الشعريين:
ولتطلبوا الحمام يا سادتي .. فإننا في غد سنطـلبه
وإن أتاكم طعام ليس يعجبكم .. فلترفضوه فإنا كذلك نرفضه
ومع أن الوزاني ورفاقه لم يتوصلوا بأي جواب، فقد ظلوا يرسلون النداءات نفسها دون جدوى، وذات النتيجة واجهتهم حين حاولوا الحصول على مجلات أو جرائد، إذ كانوا يعاملون كمجرمين ببساطة، إلى أن فوجئوا ذات صباح بطفل يطل عليهم من السطح في وقت الفسحة بساحة السجن التي لا تتجاوز ربع ساعة في الصباح ومثلها في العشي، فوجئوا بذلك الطفل وهو يلقي لهم جريدة فرنسية “صدى وهران”، ولما تكرر الأمر طلبوا منه أن يمد لهم حبلا ليربطوا به كيسا مليئة بالحلويات الواردة عليهم من فاس، كرد على جميله، وقد اتفقوا مع حارس السجن أن يبقيهم في الفسحة مدة أطول، وبواسطة تلك الجريدة ظلوا يطلعون على أخبار العالم، وكان الوزاني يدسها تحت الحصير حتى لا يعثر عليها وكان يترجم محتوياتها للرفيقين اللذين كانا لا يعرفان سوى العربية.
كانت النازية في حالة صعود بألمانيا تحت قيادة أدولف هتلر، وغير هذا مما كان مهما في العالم خلال تلك الفترة، فكان الوزاني يشرح لرفيقيه كل ما استجد على الساحتين العربية والدولية، وبفضل تلك الجريدة تم فك عزلتهم عن العالم الخارجي، ووقع خرق حجب السرية عن هؤلاء، وأمكن لهم بذلك أن يشغلوا وقتهم ويخففوا من أعباء السجن الرهيبة، أما الأعداد المقروءة “فكنا نعدمها بالنار في المرحاض ونصب عليها الماء حتى لا يبقى منها أي أثر” كذلك ختم الوزاني محطة القراءة والتثقيف بسجن تازة.
ومما كان يؤنس المساجين عزف رقيق على قيثارة في الساحة التي كان يوجد بها السجن، وأحيانا أخرى على آلة مندولينة من طرف فنان شاب كان مجهولا بالنسبة لهم، ولكنهم تعرفوا عليه بعد الإفراج عنهم، فإذا هو الوطني ابراهيم بن عبد الله الوزاني التازي (1910 – 1956)، وعلق محمد بلحسن الوزاني على الأمر قائلا: “وكان لا يزال مقيما إذاك بتازة كطالب علم، كما كان يتزعم حركة الشباب فيها قبل التحاقه بالقرويين، وبالحركة الوطنية”، والمعروف أن ابراهيم الوزاني ارتبط بالعمل السياسي الوطني في بلده تازة اعتبارا من هذا التاريخ، أي أواخر سنة 1930، وقد أسس سنة 1932 المدرسة القرآنية التي كانت تلقن المبادئ الوطنية على غرار ما قررته الحركة الوطنية المغربية خلال هذه الفترة، ثم تزعم المظاهرة الوطنية لماي 1934 التي انطلقت من المسجد الأعظم بتازة وأعقبتها اعتقالات كان هو نفسه من ضمنها مع إغلاق المدرسة، وقد واصل نشاطه الوطني بتطوان إلى أن تم اختطافه صحبة عبد السلام الطود من مقهى كونتيننتال في 13 يونيو 1956 فاختفى أثرهما وقيل وكتب إنهما عذبا بدار بريشة قبل أن تتم تصفيتهما، ويرجع عديدون ذلك إلى الحسابات السياسية التي طفت على السطح بعيد استقلال المغرب.
ومن صفحات ذاكرة الزعيم الوزاني في تازة العلاقة الودية التي باتت تربطهم بحارس السجن، وكان من مريدي الطريقة الوزانية بقبيلة تسول، فظل يعاملهم بكل احترام وتقدير ويمدهم بالمساعدة في حدود إمكاناته وطاقته، ومما حكى لهم الرجل هجوم مجاهدي الريف بقيادة الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي في ربيع 1925، أي قبل خمس سنوات، على مدينة تازة التي هددوها وكادوا يستولون عليها لولا استعمال الفرنسيين (الإسبان؟) الغازات السامة التي فتكت بالمجاهدين في خنادقهم المحيطة بتازة، وبعد الإفراج وعودتهم إلى فاس زارهم مع عائلته فشكروه وأكرموا وفادته. يشار إلى أن مجاهدي الريف تمكنوا في يوليوز من السنة نفسها من قطع الخط السككي في محور جرسيف/تازة وبقيت لهم خمسة وعشرون كيلومترا من فاس قبل أن تجدد القوى الاستعمارية الفرنسية والإسبانية قياداتها وتشن هجوما شرسا على الريف ما لبث أن استسلم إثره الأمير الخطابي في ماي 1926.
ونعود إلى سجناء تازة، فقد أعطى الوزاني تفاصيل كثيرة حول بعض تلك المعاناة والمواقف المثيرة التي تعرضوا لها، ويفسر الوزاني الأمر بأنهم كانوا معتقلين سريين وخطيرين (واعرين) ويستغرب وضعهم ضمن تلك الفئة، لأنهم في نهاية المطاف لم يكونوا مجرمين بل معتقلين سياسيين، ومن بين الأناشيد التي كانوا يرددونها واحد مشهور نظمه الزعيم السوري عبد الرحمان الشهبندر يقول في مطلـعه:
يا ظلام السجن خيم .. إننا نهوى الظلاما
ليس بعد الليل إلا .. فجر مجد يتسامى
كل ذلك والمظاهرات والوفود والعرائض والاحتجاجات تستمر من طرف الجماهير، سواء على صعيد فاس أو باقي أنحاء المغرب، كما تواصلت الاعتقالات في صفوف الوطنيين. وأمام هذا الوضع حاولت سلطات الحماية المناورة حول سياستها البربرية، فأفاد أوربان بلان، نائب المقيم العام الفرنسي، في منشور وزع على الإدارات بأن بعض السلطات المحلية فسرت الظهير البربري بكيفية غير صحيحة، وانكشفت هذه المناورة لمجرد علم بعض القبائل بذلك المنشور وإرسالها وفودا إلى الرباط سرعان ما تم اعتقالها هي الأخرى، فكان أن فقدت تلك القبائل الثقة في وعود السلطات الاستعمارية ومنشوراتها.
وللخروج من المأزق، فكر دهاقنة الحماية في استقدام رئيس الجمهورية الفرنسية “دوميرك” في أكتوبر 1930، وانتهى الأمر بإطلاق سراح معتقلي الحركة الوطنية حين تم إقحام السلطان في المسألة. وحقيقة الأمر أن جميع وسائل الحل والعقد كانت بيد سلطات الحماية، وعلى هذا النحو أطلق سجناء تازة وعادوا إلى مسقط رؤوسهم بفاس لتبدأ صفحة أخرى من الكفاح الوطني، انتهت أواخر سنة 1937 بالبطشة الكبرى للجنرال نوغيس ونفي علال الفاسي إلى الغابون ومحمد بلحسن الوزاني إلى الصحراء.
المصدر: وكالات