مرت العلاقات المغربية الإسبانية بفترة حرجة ومرحلة أزمة عنوانها الرئيسي “الجمود الدبلوماسي” إثر استقبال مدريد زعيم الميليشيات التي تتخذ من تندوف الجزائرية مقرا لها، غير أن هذا الجمود سرعان ما كسر بعد تأييد الدولة الإسبانية مقترح الحكم الذاتي الذي طرحه المغرب لحل النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية في مارس من العام الماضي.
تأييد أسس لمرحلة جديدة في العلاقات بين البلدين الجارين، رغم محاولات بعض الأطراف فرملة هذه الدينامية الجديدة التي تعرفها العلاقات والشراكات وبين مدريد والرباط؛ التي توجت بتقديم البلدين إلى جانب البرتغال ملفا مشتركا لتنظيم نسخة كأس العالم لسنة 2030، وهو الملف الذي وافق عليه مجلس الاتحاد الدولي لكرة القدم بالإجماع.
من جهتهم يرى محللون أن هذه الديناميكية الإستراتيجية والنتائج البنيوية التي يحصدها التعاون بين المغرب وإسبانيا، سواء في بعده السياسي أو الاقتصادي أو الرياضي، تمثل دليلا على أن الأطروحة الانفصالية “فيروس سياسي” ينهش وحدة المنطقة ومصيرها المشترك، ويحول دون تطوير دول الفضاء المتوسطي والمغاربي علاقاتها الثنائية ومتعددة الأطراف، مسجلين أن هذا التحول التاريخي في العلاقات المغربية الإسبانية والمستوى الذي بلغه التعاون بين البلدين يجب أن يشكل إطارا مُلهما لجميع الدول التي مازالت متواطئة أو متماهية مع الطرح الانفصالي، من أجل مراجعة مواقفها وبالتالي التأسيس لمنصة تعاونية مع المغرب كدولة ذات سيادة، بما يخدم المصالح المشتركة للدول ويحقق تطلعات شعوبها.
ديناميكية إستراتيجية وأجندات خارجية
هشام معتضد، باحث في الشؤون الإستراتيجية، قال: “من دون شك أن الأطروحة الانفصالية للبوليساريو كانت العائق الأساسي والمركزي في تطور الديناميكية الإستراتيجية في علاقات بعض الفاعلين الدوليين مع المغرب بشكل خاص، والمنطقة المغاربية في شموليتها بشكل عام”، مسجلا أن “المنتظم الدولي بدأ يكتشف خبايا الأطروحة الوهمية لهذا النزاع المفتعل، حتى إن العديد من الدول التي كانت تدعم هذا الوهم السياسي، أو على الأقل تأخذ موقفا محايدًا من هذه الإشكالية المفبركة، بدأت تحمل مسؤوليتها الدولية وباتت تنادي بإنهاء التوجهات الخطيرة لهذا الكيان الذي يهدد أمن واستقرار المنطقة”.
وشدد معتضد على أن “كل الشراكات الإستراتيجية المتينة والتعاون السياسي القوي الذي يجمع المغرب مع العديد من الدول، والذي بُني على أساس صلب، لا مكان لتوجهات البوليساريو فوق أرضيته، وهو ما يشكل نموذجا اتبعته العديد من الدول، كإسبانيا أو غيرها، وأثمر نتائج جد إيجابية لجميع الأطراف وللمنطقة ككل، على غرار التنظيم المشترك لأكبر منافسة رياضية في العالم وتقوية الشراكات البينية”.
وأوضح المتحدث عينه أن “التحولات التي عرفتها علاقات المغرب الإستراتيجية مع الدول التي باتت لا تتبنى أو لا تدعم الطرح الانفصالي للجبهة شكلت ممرات استثمارية جديدة، وخلقت مساحات جديدة لفرص اقتصادية وتجارية ومالية بين الرباط وتلك الدول”.
وحول “الدور الفيروسي” للبوليساريو في فرملة مسار التنمية وتقوية العلاقات بين الدول بما يخدم مصالح الشعوب، أورد معتضد أن “دور أطروحة الانفصال معروف سياسيًا، ويهدف بالأساس إلى عرقلة التنمية المستدامة للمغرب، ورهن مستقبل دول منطقة شمال إفريقيا والساحل والصحراء لكي لا تستجيب لتطلعات شعوبها ومنافسة أقطاب جهوية لا ترى بعين الرضا خلق منطقة إقليمية قادرة على منافسة القوى الإقليمية الصاعدة”.
وأضاف المحلل ذاته أن “مثال التحول الذي عرفته العلاقات الثنائية بين الرباط ومدريد يجب أن يُأخذ بكثير من الحكمة والتبصر لدى الفاعلين الدوليين الراغبين في تطوير علاقاتهم الإستراتيجية مع المغرب”، مسجلا أن “نتائج هذا التعاون الجديد بنسخته المتجددة الرافضة لأطروحة الانفصال بدأت تعتبر مرجعية جيوسياسية في المنطقة، والأقرب إلى الواقعية لمستقبل أكثر أمانا واستقرارا”.
وزاد المتحدث: “البوليساريو ضيعت الكثير من الفرص على ديناميكية علاقات دول المنطقة مع بقية العالم، وليس وحده المغرب من أدى ثمن دعم هذه الأطروحة من طرف جهات خارجية معروفة؛ بل إن الشعوب المغاربية بدورها أدت ومازالت تؤدي ثمن سياسات أولئك الذين يسهرون على تنفيذ الأجندات الخارجية في شمال إفريقيا”.
وأشار المصرح لهسبريس إلى أن “هناك دولا لم تملك بعد الجرأة الكافية للانخراط في الواقعية السياسية والتوجه البراغماتي الدولي الذي بدأ يتخلص من هاته الأطروحة، التي تهدد أمن المنطقة برمتها، وتستمر في الاستثمار اللاإنساني وخلق نوع من اللاسلم بين مكونات الساحل والصحراء وشمال إفريقيا”، معتبرا أن “الضمير العالمي تطور وأصبح أكثر إدراكًا لألاعيب مروجي أطروحة البوليساريو، كما أن دعمه الطرح المغربي أفرز توجهات دولية باتت قادرة على تطوير خطها السياسي في طرد أكاذيب الجبهة من خطابها الرسمي، واتجهت مباشرة إلى التعاون مع الرباط بشكل مفتوح بعيدا عن العُقد الإيديولوجية التي سممت فضاءات العديد من العلاقات في المنطقة”.
نتائج بنيوية ودبلوماسية مرنة
عباس الوردي، أستاذ القانون الدولي بجامعة محمد الخامس بالرباط، قال: “إن العلاقات المغربية الإسبانية منذ إعادة مراجعة مدريد مواقفها تجاه قضية الصحراء المغربية عرفت وتعرف أوج فتراتها، في إطار التعاون والتدبير المشترك لمجموعة من الملفات. ونحن الآن نحصد مجموعة من النتائج البنيوية لهذا التعاون، الذي يمثل درسا في التعاون الثنائي بين دول الجوار”.
وأضاف الوردي أن “الشراكة الاقتصادية الثنائية بين المملكتين المغربية والإسبانية قائمة وكُرست مع موقف مدريد من النزاع المفتعل لتثمر هذا المستوى من التعاون”، مسجلا أن “توجه البلدين نحو التنظيم المشترك للتظاهرات الرياضية يحمل إشارة واضحة إلى تجاوز العراقيل التي تعتري العلاقات بينهما، سواء في بعدها الثنائي أو متعدد الأطراف”.
ولفت الأستاذ ذاته إلى أن “تنظيم كأس العالم من طرف كل من المغرب وإسبانيا إلى جانب دولة البرتغال يشكل درسا من الدروس المبنية على احترام الآخر، ومواصلة البناء المشترك، وترسيخ أسس جديدة من التعاون على أرض الواقع، في إطار الشراكة الثنائية ووحدة المصير المشترك بين هذه الدول”.
وأوضح المصرح لهسبريس أن “جبهة البوليساريو لم تعد تلعب أي دور في عرقلة علاقات المغرب بشركائه الذين أصبحوا واعين بأن الجبهة ما هي إلا كيان انفصالي وإرهابي”، مشيرا إلى أن “توجه فرملة تطوير الرباط علاقاتها مع عدد من الدول أضحى من جانب واحد، تمثله الجزائر التي انكشفت كل أوراقها في هذا الصدد، إذ تحدث الأمين العام للأمم المتحدة عن هذه الدولة كطرف أساسي في هذا النزاع حول الصحراء المغربية”.
وأوضح الأستاذ الجامعي في هذا الصدد أن “الجزائر حاولت عبر البوليساريو الحيلولة دون إقامة بعض الدول المغاربية، خاصة تونس وموريتانيا، علاقات أفضل مع المملكة المغربية”، مسجلا أن “هذه المحاولات تجهز في العمق على وحدة الصف المغاربي، غير أن المغرب ما فتئ يميط اللثام عن مجموعة من الحقائق المرتبطة بهذا الملف على أساس من الاحترام مع جميع الدول المغاربية، والدفاع عن المصير المشترك للمنطقة”.
وخلص الوردي إلى أن “المغرب نجح رغم كل المحاولات للتأثير في علاقاته مع باقي الدول في بناء جسر مع هذه الدول من خلال الدبلوماسية المرنة المبنية على الحقائق التاريخية والقانونية، التي مكنت الرباط من اقتحام مجموعة من الصروح التي كانت محسوبة على المعسكر الانفصالي، ونجحت في إقامة علاقات وشراكات متجذرة معها، في إطار الاحترام المتبادل وصيانة وحدة أراضي الدول وتحقيق تطلعات الشعوب”.
المصدر: وكالات