بدا لافتا في الخطاب الملكي بمناسبة ذكرى عيد العرش تجديد الملك محمد السادس التأكيد على مسألة ربط المسؤولية بالمحاسبة؛ الأمر الذي يمثل إشارة دالة من أعلى سلطة في البلاد على أن ورش محاربة الفساد سيمضي إلى أبعد الحدود.
أفرد الملك محمد السادس حيزا مهما من الخطاب للحديث عن الجدية في الحياة السياسية والإدارية والقضائية، من خلال “خدمة المواطن، واختيار الكفاءات المؤهلة، وتغليب المصالح العليا للوطن والمواطنين، والترفع عن المزايدات والحسابات الضيقة”.
وأضاف الخطاب، الذي يشكل توجيها للسياسات العمومية بالمملكة، أن الجدية التي يريدها الملك تعني أيضا “الفاعلين الاقتصاديين، وقطاع الاستثمار والإنتاج والأعمال”، مشددا على أن الجدية كمنهج متكامل تقتضي “ربط ممارسة المسؤولية بالمحاسبة، وإشاعة قيم الحكامة والعمل والاستحقاق وتكافؤ الفرص”.
ويبدو أن هذه الإشارات الواضحة في خطاب العرش ستزيد من تعميق المخاوف داخل الأوساط الإدارية والسياسية والاقتصادية التي تحوم حولها الشكوك وشبهات التورط في الفساد الإداري والمالي، والتي دخلت في حالة من الترقب منذ فتح مسلسل المتابعات في حق عدد من السياسيين وعزل رؤساء جماعات بسبب اختلالات مالية وتدبيرية.
حرص ملكي
سجل المحلل السياسي عبد الحفيظ اليونسي أن الخطاب الملكي يمثل استمرارا لـ”نسق الخطب الملكية السابقة، حيث التأكيد على منهج اشتغال الملكية من منطلق موقعها الدستوري والسياسي كفاعل استراتيجي في تدبير شؤون الدولة”.
وأضاف اليونسي، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن مسألة ربط المسؤولية بالمحاسبة “من الأسس الأربعة لنظامنا السياسي وفق الفصل الأول من دستور 2011؛ وبالتالي وجب الانخراط الجدي من قبل كل المؤسسات المنتخبة أو المستقلة أو المعينة للاضطلاع بأدوارها الرقابية”.
وتابع المحلل السياسي ذاته مبينا أنه “لا يمكن للمتتبع للشأن العام بالمغرب إلا أن يلاحظ أن ثمة تحريكا لمساطر المتابعة في مستويات مختلفة من القرار العمومي، سواء منه التنفيذي أو النيابي أو القضائي”، معتبرا أن الحرص الملكي على تفعيل هذا المبدأ يستوجب “عدم انتقائية تحريك المتابعات والمساطر”.
وأشار المتحدث عينه إلى ضرورة “تفعيل المؤسسات الدستورية ذات الصلة، حتى لا يظهر أن هناك من هم فوق المساءلة”، لافتا إلى مجلس المنافسة وواقعته مع “شركات المحروقات أو هيئة النزاهة والشفافية ومحاربة الفساد التي لم تفعل إلى حدود اللحظة وظيفة التحري وتختبئ خلف وضع يد القضاء على الملفات، وكذا مجلس المحاسبة وعائق المادة 111 من قانون المحاكم وغيرها”، حسب تعبيره.
وشدد اليونسي على أهمية تعديل وتعزيز المنظومة القانونية التي تحد من “المساءلة؛ من قبيل محاربة تنازع المصالح، واستغلال النفوذ، والإثراء غير المشروع، والتصريح بالممتلكات”، مؤكدا على أهمية شفافية التعامل مع المواطنين في هذا النوع من الملفات لخلق الثقة في المؤسسات.
مرحلة سياسية جديدة
اعتبر المحلل السياسي محمد شقير أن خطاب عيد العرش تفرد بالتأكيد على إحدى القيم الرئيسية؛ وهي الجدية التي تعكس إلى أي حد ما هاجس لدى العاهل المغربي و”ضرورة الانتقال من مرحلة سياسية معينة إلى مرحلة سياسية أخرى تتبنى الجدية، ليس فقط كأخلاقيات، وإنما كطريقة للتفاعل والبت في قضايا الشأن العام”.
وأضاف شقير، في حديث مع هسبريس، أن الخطاب الملكي الأخير مليء بمجموعة من القيم السياسية، حيث اعتبر العاهل المغربي أن الانتقال إلى المسار التنموي الذي وصل إلى مرحلة النضج وبالنظر إلى التحولات التي يعرفها النظام العالمي والمتميزة بالكثير من الاضطرابات تفرض بالضرورة تبني “أسلوبا في العمل سواء كان حكوميا أو إداريا أو سياسيا”.
وسجل المحلل السياسي ذاته أنه في هذا السياق تأتي الإشارة إلى ربط المسؤولية بالمحاسبة، على أساس أن تشكل “أحد مكونات الجدية التي تحدث عنها العاهل المغربي”، معتبرا أن هذه الإشارة ستؤدي إلى “الحث على تسريع ربط المسؤولية بالمحاسبة”.
وأفاد شقير بأن مؤشرات عديدة تدل على أن هناك “رغبة أكيدة من طرف مربع القرار على تبني هذا السلوك وعلى العمل على تنزيله في الواقع السياسي”، مشيرا إلى أنه قبل الخطاب “كان هناك استقبال لوالي بنك المغرب والذي أشار في كلمته إلى أن المغرب ما زال متأخرا بشكل كبير فيما يتعلق بمحاربة الرشوة، وهذه المسألة تؤثر بشكل كبير على مناخ الأعمال ومناخ الاقتصادي ككل”.
إرادة سياسية للمحاسبة
يزد شقير مبينا أن كلام الجواهري أمام الملك “إشارة سياسية كبيرة تدل على أن هناك رغبة أكيدة في السير في هذا الإطار، وهناك مجموعة من القضايا التي تعرض أمام المحاكم؛ فبالإضافة إلى محمد مبدع وعزل بعض رؤساء الجماعات وتقديم اثنين من المتورطين في الملف المتعلق بملف “تذاكر المونديال” يعتبر إشارة في هذا الإطار”.
وأشار المحلل السياسي ذاته إلى أنه في الاستقبال الذي قام به العاهل المغربي لمكونات النخبة السياسية في حفل عيد العرش، والحديث الذي راج بين الملك ورئيسة المجلس الأعلى للحسابات زينب العدوي، “كانت إشارة في هذا الاتجاه”، ويتضح أن المغرب وصل إلى مرحلة على الصعيد الداخلي تفرض بالأساس “التركيز على هذا المبدأ وتفعيله بكل الصرامة اللازمة”.
واعتبر المتحدث أن العاهل المغربي يمتلك “كل الوسائل للقيام بهذه العملية، خصوصا أن كل الآليات موجودة، من مؤسسات وقوانين؛ مثل مجلس المنافسة والمجلس الأعلى للحسابات، وإذا تم تفعيلها ستشكل إحدى الآليات لتخليق الحياة السياسية”.
كما شدد شقير على أن من بين المؤشرات الدالة على المضي قدما في محاربة الفساد “تقديم مجموعة من القضاة والمحامين للمحاكمة؛ وهو حدث يدل على أن هناك رغبة أكيدة للسير في هذا النهج، كما يبين أن المحاكم بدورها تعاني من مجموعة من المفاسد والاختلالات”.
المصدر: وكالات