تبدو جليا أن المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي أصبح منزعجا من التعامل الحكومي مع الرؤية الاستراتيجية 2015-2030 والقانون الإطار 51.17 إلى درجة الإفصاح عن ذلك صراحة في آرائه الأربعة الصادرة يوم 4 يوليوز 2023، تجاوبا مع طلبات الرأي المحالة عليه من طرف الحكومة. وهكذا نقرأ في الرأي المتعلق بمشروع قانون التعليم المدرسي أن “المجلس يرى أن الوضع الراهن لم يعد قابلا للاستمرار وأن الأزمة الدائمة لنظامنا المدرسي، والتي يبرزها جلالة الملك محمد السادس باستمرار، تتطلب الجرأة في الإصلاح”. يجد هذا التذمر مبررا له في تأخر الحكومة، بعد أربع سنوات من صدور القانون الإطار، في اتخاذ التدابيـــر التشــريعية والتنظيميــة الخاصــة بتطبيقــه، وحتى عندما طلبت رأي المجلس في نص تشريعي وثلاثة نصوص تنظيمية فعلت ذلك بعد سنة ونصف من تنصيبها. ولم تنل، على ما يبدو من قراءة مضامين آراء المجلس حولها، ما يكفي من الاهتمام من طرف القطاعات التي صاغتها، الشيء الذي أدى إلى اختلالات كثيرة شابت جودتها وتناسقها. ولعل الضعف الأكبر الذي سجله المجلس يعود أساسا إلى منهج إعداد هذه النصوص الذي افتقد أساسا إلى الرؤية النسقية والتصور المندمج لمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، وغلب عليه منطق تقنوي محض يعتبر وضع القوانين حرفة تناط بمن يتقنها، وليس ترجمة بلغة معينة لتصور واضح المعالم لما نريد تحقيقه. وبذلك تضيع الغايات الكبرى في خضم البحث عمن يتقن الوسائل، فتصبح هذه هي الغاية التي يعمل من أجلها الجميع. هذا ما حدث لمشروع القانون 59.21 الذي كانت الغاية من وجوده هي تقنين كل ما يمت بصلة إلى التعليم المدرسي في الرؤية الاستراتيجية، فأصبح مجرد وسيلة لتجميع ثلاثة نصوص تشريعية، مع بعض الإضافات المستقاة حرفيا من القانون الإطار. هذا التوجه أفرز تشريعا قديما لتصور جديد للمدرسة المغربية، جاء مبدئيا لكي يحدث قطيعة مع التصور القديم، فإذا بهذا الأخير يعود تحت حماية قانونية تظهر التحديث وتبطن التقليد. كما أن عدم الالتزام بوضع مخطط تشريعي وتنظيمي لترجمة القانون الإطار أدى إلى عشوائية في الهندسة القانونية تجلت أساسا فيما سجله المجلس من ضعف التناسق والاتساق وغيابهما أحيانا ما بين النص القانوني والنصوص التنظيمية المطبقة له، وهو ما لاحظه المجلس عند دراسته لمشروع قانون التعليم المدرسي ولمرسومي الهندسة اللغوية والتوجيه. إضافة إلى ما سجله من ضعف في التنسيق بين القطاعات الوزارية المعنية بهذين الموضوعين ذوي الطبيعة العرضانية.
من جهة أخرى إذا ركزنا على مشروع قانون التعليم المدرسي فإن منطق التعامل بين المؤسسات يطرح تساؤلات عميقة، من بينها: كيف يمكن أن نطلب رأيا في نفس الموضوع من نفس الجهة الدستورية التي سبق أن عبرت عن رأيها فيه؟ وهل يستساغ أن نطلب رأيا جديدا دون أن يأخذ بعين الاعتبار التوصيات الواردة في الرأي السابق؟ وهل تحافظ المؤسسة على الرأي نفسه إزاء نفس القضية أم من حقها أن تغير رأيها خاصة إذا علمنا أنها تستند إلى نفس المرجعيات التي اعتمدت عليها في الرأي الأول؟
وبغض النظر عن أن المجلس لم يكن في وضعية قانونية سليمة عندما أصدر رأيه سنة 2021 بخصوص مشروع قانون التعليم المدرسي، وهو ما كان يستلزم إعادة طلب رأيه من جديد، فإن الأكيد أن هذه الأسئلة طرحت نفسها بقوة أمام اللجنة التي اشتغلت على إعداد الرأي. وكان حتما، ولا يزال، سؤال الاستجابة لآراء المجلس هو الأكثر إلحاحا خاصة وأن العديد من التوصيات التي وردت في الرأي الجديد، والتي على أهميتها دفعت المجلس إلى أن يدعو إلى “صياغــة نســـخة جديــدة مــن مشــروع القانــون، فــي شــكله ومحتــواه”، سبق أن تضمنها الرأي القديم لكن الوزارة لم تستجب لها، علما أن القانون المنظم للمجلس ينص على وضع آلية لقياس مآل آرائه. ومن هذه التوصيات نذكر:
- حصــر التعليــم المدرسي النظامـــي فــي التعليــم الأولي، والتعليــم الابتدائي، والتعليــم الإعدادي، والتعليــم الثانــوي، ونقــل المقتضيات المتعلقة بالتعليــم مــا بعــد الباكالوريــا إلــى مشــروع القانــون المتعلق بالتعليــم العالــي بالنســبة للأقسام التحضـيـــرية، والقانــون الخــاص بالتكويـــن المهني بالنســبة لتكويـــن التقنـــي المتخصص؛
- توضـــيح الوضــع القانونـــي لــكل صنــف مــن أصنــاف مؤسســات التعليــم المدرسي، وتحديــد خصوصـــياته؛
- إبــراز التزام البعثات الأجنبية بالمغرب بتدريــس اللغتيـــن الرســميتين، العربيــة والأمازيغية، لــكل الأطفال المغاربة الذيــن يتابعــون تعليمهــم بهــا؛
- تعزيـــز المقتضيات التشــريعية بمــا يحــدد المرتكزات والمكونات العامــة لاستقلالية المؤسسة التعليمـــية، وتحديد مجالاتها التـربوية، والإدارية، والمالية، وكذا حدودها؛
- إقرار مقتضـيات تشريعية تجسد مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، وتحدد آليات مراقبة وتقييم هذه البنـيات التـربوية وتتبع أداءهــا.
- تفعيــل آليــة الصنــدوق الخــاص للنهــوض بمنظومــة التـربـــية والتكويـــن وتحســـين جودتهــا (المنصوص عليه في قانون المالية لكن يبدو أنه تم التخلي عنه)؛
- تحديد التـــركيبة المؤسساتية والتنظيمـــية للبنـــيات التـــي ســوف يعهــد إليهــا بمهمــة الســهر علــى ضمــان التقييــم، مركزيــا، وجهويــا، وإقليمـــيا، وداخــل المؤسسات التعليمـــية؛
- تصنـــيف المؤسسات، خاصــة مؤسســات التعليــم المدرسي الخصوصـــي، حســب نتائــج تقييمهــا، للمســاهمة فــي توفيـــر المعلومة للمواطنـــين، وتعزيـــز التنافــس الحــر والنزيــه بـــين هــذه المؤسسات؛
- إدراج القانون المحدث للأكاديميات في مشروع قانون التعليم المدرسي؛
- ضرورة تفعيل اللجنة الدائمة للبرامج.
كل هذه التوصيات الهامة وغيرها لم يتم إدراجها في النص الجديد الذي أحيل على المجلس لإبداء الرأي فيه، فكان طبيعيا أن تعاد نفس التوصيات ولو بصيغ مختلفة. لكن واجب تقديم الإضافة دفع بالمجلس إلى الاجتهاد في ابتكار توصيات جديدة بالغة الأهمية نظرا لبعدها الاستراتيجي، الرامي من جهة إلى ربط المشروع بالغاية الكبرى المتمثلة في بناء مدرسة جديدة، ومن جهة أخرى إلى التذكير بضرورة تبني مقاربة نسقية في التعامل مع قضايا منظومة التربية والتكوين. لكن بما أن الابتكار له حدود خاصة عندما نصل إلى المستوى الإجرائي فإن بعض توصيات المجلس يمكن إبداء ملاحظات عليها.
أولا، من الناحية المنهجية إذا كان يحسب للمجلس حرصه على تحليل المشروع المعروض عليه استنادا إلى الإطار المرجعي المتمثل في الدستور والتوجيهات الملكية والرؤية الاستراتيجية والقانون الإطار، فإن إضافة الميثاق الوطني للتربية والتكوين إلى هذه المرجعيات أدى به إلى تبني توصيات مخالفة للقانون الإطار مثل دمج التعليم الإعدادي والتعليم الثانوي، في حين أن القانون الإطار ألزم بربط التعليم الابتدائي بالتعليم الإعدادي في إطار «سلك للتعليم الإلزامي»، ومثل جعل التعليم الخاص شريكا للدولة، وهي العبارة التي وردت في الميثاق لكن لم ترد أبدا لا في الرؤية ولا في القانون الإطار، وعوضها تصور جديد يجعل المنظومة التربوية مكونة من تعليم عام وتعليم خاص. لكن في حالات قليلة لم يتم الالتزام بالإطار المنهجي في التحليل، نذكر منها ما نص عليه القانون الإطار من “تحديد ومراجعة رسوم التسجيل والدراسة والتأمين والخدمات ذات الصلة بمؤسسات التربية والتعليم والتكوين الخاصة وفق معايير تحدد بمرسوم”، بحيث لم يطلب المجلس من الوزارة الالتزام بهذا المقتضي.
ثانيا، من ناحية الاتساق بين الصيغة الأولى للمشروع والصيغة الثانية للمشروع يبدو وكأن المجلس أبدى رأيه في هذه دون أن يكترث بتلك. فمن قراءة التوصيات الجديدة يتبين أن بعضها كان معمولا به في الصيغة الأولى لكن الوزارة ارتأت حذف المواد المرتبطة بها في الصيغة الثانية، ومن أمثلة ذلك:
- دمج التعليم الأولي في التعليم الابتدائي في غضون 3 سنوات ليشكلا معا “سلك التعليم الابتدائي”؛
- إقامــة الـــجسور والممرات بـــين مكونــات منظومــة التربيــة والتكويــن والبحــث العلمـــي ومســتوياتها مــن جهــة، وبـــينها وبـــين المحيط الاقتصادي والاجتماعي والمهني والعلمـــي والتقنـــي والثقافــي مــن جهــة أخــرى؛
- ضمــان حركيــة المتعلم فــي المسارات التعليمـــية والتكويـنـــية والمهنية المتاحة؛
- إحداث مسار للتعليم المهني يـنطلق من التعليم الإعدادي؛
- إفراد مادة خاصة بالهندسة اللغوية ضمن مواد الهندسة البـيداغوجية التـي شملها مشروع القانون؛
- إدراج مقتضيات تهم الارتقاء بالموارد البشرية للمنظومة من حيث التكوين والتوظيف.
ثالثا، بعض التوصيات لم تنتبه إلى وجود مراسيم تفصل في القضايا التي نبهت إليها وهو ما ينطبق على التعليم عن بعد وجمعيات أمهات وأباء وأولياء التلميذات والتلاميذ. وبعض التوصيات تقتضي مراعاة قوانين تنظيمية وهو حال الاقتراحات التي تتوخى مشاركة أكبر للجماعات الترابية في الشأن التعليمي لكن ذلك يبقى رهينا بالاختصاصات الموكولة لها بحكم القانون وبطبيعة هذه الاختصاصات هل هي ذاتية أو مشتركة أو منقولة.
هذه بعض الملاحظات التي سمحت بها قراءة رأي المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي حول مشروع قانون التعليم المدرسي ونتمنى أن يشكل هذا الرأي والآراء التي صدرت معه منعطفا جديدا في طريقة تعامل القطاعات المعنية مع قضية وطنية كبرى بحجم إصلاح منظومة التربية والتكوين.
المصدر: وكالات