أن تقرأ غابرييل غارسيا ماركيز وتُعيد قراءته يشكّل دوما متعة استثنائية، ليس فقط لأن المهتمين بأدبه يصنّفونه رائدا للواقعية العجائبية أو السحرية فحسب، بل لأن أعماله الأدبية تحفلُ بمشاعر إنسانية يختار للتعبير عنها أدقّ الكلمات وأيسرَ الأساليب. كان ماركيز يعتبر أن الأحداث الواقعية في حياتنا قد تكون عَرضةً للنّسيان، بيد أن بعض الأشياء الأخرى، التي لم يكن لها وُجود أبدا في الواقع، يمكنُ أن تنتزعَ لنفسها مساحة في الذاكرة، كأنها حدثت بالفعل.
إليكَ – عزيزي القارئ – هذه الفقرات عن واحدةٍ من أمتَع روايات صاحب “مئة عام من العزلة”، و”خريف البطريرك”، و”الحب في زمن الكوليرا”.
روايةٌ من أجْل تَجْديدِ تبَاريح الهَوَى
في روايتهِ ذاكرة غانياتي الحزينات، والقصيرة بالقياس إلى رواياته النّهرية الشهيرة، يحتفل غابرييل غارسيا ماركيز بالعشق والوجدان والحُلم والرومانسية الساحرة، وهي طبعا موضوعات أثيرة لديه وناظمة لعالمه الروائي. إنها، إذن، رواية/ تجميع لحياة بطلها: أستاذ النحو اليوناني-اللاتيني وصحافي معروف في العقد التاسع من عمره، يعيش وحيدا بمنزل كولونيالي اشتراه أبوه أواخر القرن التاسع عشر على الحاشية المشمسة من حديقة سان نيكولا.
وقد أمضى كل حياته بدون زوجة ولا ثروة، وسكنته رغبة واحدة: أن يموت على الفراش الذي شهد ميلاده، وحيدا وفي يوم يريده بعيدا وغير مؤلم. علاقاته الغرامية والعابرة لم تترك له وقتا للحب؛ ولذلك، فهو يفتتح سرده بهذه العبارة:
قررت أن أمنح لنفسي ليلة عشق مجنونة مع عذراء احتفالا بالذكرى التسعين لميلادي (ص 9) سيدعو الفتاة في ما بعد ديلغاديا: من العاملات بإحدى مصانع أزرار القمصان؛ وسيطلب من إحدى الوسيطات، صديقته روزا كابركاس، ترتيب أجواء متعته بالفندق، هناك في قاع المدينة.
ليست الرواية وصفا لصور وتعابير أجواء تلك المتعة لأن صاحبها يُعيد، من هذه اللحظة، النظر في معنى وجوده وصداقاته، ويأسه وعزلته، وجدوى كتابته للمقالة الأسبوعية التي يصدرها كل يوم أحد.
يروي التسعينيّ حكايته عفو الخاطر بعبارة واضحة وشفافة وكثيفة، تنزح به حينا نحو المخبوء والدفين في النفس والكيان، وتقيم حينا آخر على شفاف الوجدان في تقلباته بين الحنين والخواء واللاطمأنينة. ونراه يُعلن بحزم -ومنذ الصفحات الأولى من الرواية- بأن قضيته هاته وشاغله في سنه، تغدو فيها كل ساعةٍ عاما (ص 10) ولا مهرب له سوى الانكفاء على آثار العمر، وحمْل ما تبقي من قوّة ونباهة للتعبير عن فكرة محورية لمقاله الأسبوعي الذي خصصه -من فيض المرارة والوحدة؟- لتَمْجيد الشيخوخة.
وبينما هو منبهرٌ بهذه الفكرة البارقة، ساءل نفسه: متى بدأتُ أحسّ بالشيخوخة؟
كان عمره اثنان وأربعون عاما لمّا أحسّ بألم في ظهره منعه من التنفس. زار الطبيب الذي اعتبرَ الألم عاديا بالنسبة لسنّه. وفي هذه الحالة، قلت له، فإن الشيء غير العادي هو سنّي؛ وجه إليه الطبيب ابتسامة وقال: أظن أنّك فيلسوف (ص 15).
يتذكر الآن أنه لم يكن يعير أدنى اهتمام للزمن وهو في أربعينيات عمره المديد، وكان يعتقد أن العلامات الأولى للشيخوخة تعلن عن نفسها حين تبدأ في أن تشبهَ أباكَ. وفي عقده الخامس تجلت له الشيخوخة وتكشفت من ثغرات الذاكرة وحالات النسيان والسهو المتكررة، كأن يبحث عن نظارته فيكتشف أنها موضوعة فوق أنفه أو يحملها معه في جيبه؛ ثم إنه ذات يوم أفطر مرتين ونسي أنه تناول فطوره الأول (ص 15 – 16)؛ وفي العقد السادس شعر أنه لم يعد يملك السنوات الكافية ليفعل ما يشاء؛ وانتابه خوف رهيب تواصل في العقد السابع مشفوعا بأن ما يحياه هو آخر سنوات العمر.
وها هو اليوم يقرر أن يحتفل بعِيد ميلاده التسعين بصُحبة فتاة عذراء لتجديد تباريح الهوى أو الشجن… لا يهمّ؛ فهو لا يحكي مغامراته ومآسي حياته التي خطر له أن يسميها “ذاكرة غانياتي الحزينات” إلا ليمنح معنى ما لكينونته قبل أن يلفها العدم من كل جانب.
حقيقةٌ مرئية وأخرى لاَ مرئية اكتشفها لتُخفّف عنه قليلا من أعباء التّيه والوحدة ووحشة ما يحياه من لحظات: التحوّلات الأولى لذواتنا تكون بسيطة ولا نكاد نلاحظها، نتبينها، فنواصل النظر إلى ذواتنا من الداخل كما كان حالنا على الدوام، في حين يكتشف الآخرون تحوّلاتنا من الخارج (ص 15). أبهذه الحقيقة يمكنه أن ينتصر على تهيّبه حتى تبدو الحياة قابلة للعيش، ويبقي على وفاق معها؟
لقد ظل بطلنا التسعيني طيلة حياته يؤمن بأن عمر الإنسان تحدده المشاعر لا توالي الأيام والليالي؛ وهو في هذه الليلة تحديدا يكتشف رغبة أكيدة لتأمل جسد فتاة نائمة، يتأمله من غير استعجال لأية رغبة، ومن دون سيئات الحياء (ص 37).
الكينونة في هذه الرواية مبتدأ الحكاية ومنتهاها، وتسعينيُها ليست له غير أناه ملاذا. متآلفٌ مع وحدته: كنت أحسّ دوما أنني لستُ وحيدا بالبيت. تفسيري لذلك أننا حين ننسي أحداثا واقعية، فإن أحداثا أخرى لم يسبق لها أن وقعت يُمكنها أن تستقر بالذاكرة كما لو أنها حدثت بالفعل (ص 69).
ملاذٌ غنِيّ وتآلف فسيح يصلان بالتّسعيني إلى عتبات عمر جميل، الشعور فيه بالحبّ مُؤجل لا مكبوت: أعرف اليوم أن الأمر لم يكن يتعلق بهلوسة، بل بمُعجزةِ أول حبّ وأنا في سنّ التسعين (ص 71).
بهذا الإحساس يودّ التسعيني أن يعود إلى الحياة، ويحكي عنها بسعادة؛ ورغم إيمانه بأنه ليس هناك من شقاء قاهر سوى أن تموت وحيدا (ص 112)، فهو يحسّ بحرارة العاطفة ولا خيار له سوى الاستكانة إلى هواها إن أضناه أو أفناه، فهو اليوم يمتلك ما يشبه اليقين من أن حياته هاته هي الحياة الحقيقية، قلبه سليم، ومحكوم عليه بالموت عشقا في نهاية احتضار اللذة، يوما ما بعدما يبلغ مئة عام (ص 129). وكما في حُلم لا سَأم فيه ولا ألم أو غياب أحبة، كما في حلم يتخطّى الزمن وتكونُ فيه حواسه خفيفة، وإحساسه مرحا لا مثوى أخير لهما، فإنه يبدو مأخوذا بفتنة العشق في ما يفترض أن يكون نهاية الرحلة، وما هي إلاّ البداية كي لا يأكله اليأس وينهشه الوهم، أو تحاصره العبارة الاستهلالية لياسوناري كاواباتا في الجميلات النائمات والتي وضعها في مفتتح الحكاية: من فضلكم، عليكم تجنب مضايقات الذوق الرديء! لا تحاولوا وضع الأنامل في فم الصغيرة النائمة! لن يكون الأمر لائقا.
هناك أكثر من رابط وفاصل، في الآن ذاته، بين نص الياباني ياسوناري كاواتابا “الجميلات النائمات” ونص الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز “ذاكرة غانياتي الحزينات”، كلاهما صدى لمقاومة انهيار الرغبة وتصلّب المشاعر، أو شحوب الزمن وأفول الذكرى؛ كلاهما يفيد أن الكينونة تمرّ من عمر إلى عمر، واحد يأتي والآخر يسير، وبينهما تبدو الكينونة وكأنها تنتمي إلى زمن آخر ومكان آخر، تتوق دوما إلى عشق لا يستكين لخديعة الخيال، ولا يودّ أن يكون الموت مسك ختامه.
رواية ماركيز تجربة إنسانية من عمق لحظة تتوازى فيها هشاشةُ الجسد بهشاشة الروح؛ هي حكايةُ شخصية تنقل لنا تجربتها من مسالك الحميمية والكتمان، إلى لحظة وجودية يمكن سردها وتكون بالنسبة إليه شفيعا ليتأمل ما فعله في حياته؛ فقد عاش ليروي، ليلتقط الوضع المفارق، الهزلي والتراجيدي وما بينهما من رغبات وأحلام… وليبتكرَ الأسلوب الملائم لإقناعنا بأن ما نقرأه هو قصة حقيقية وواقعية، وهذا وحدهُ كفيل بكتابة حكاية أدبية رفيعة، ملفوفة برومانسية ساحرة قادرة على ترميم انكسارات النفس وحمايتها مما يلفها من صمت ووحدة.
المصدر: وكالات