حدد أحمد دياب، باحث وصحافي مصري، ستة محفزات لتطوير العلاقات الروسية الإفريقية، مضيفا أن روسيا حالياً هي الشريك المُفضل للعديد من دول إفريقيا، الذي يحظى بقبول أكثر من الغرب وحتى من الصين.
وتنبأ الباحث في مقال نشره مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، معنون بـ”تحديات تطوير علاقات روسيا وإفريقيا بعد قمة سان بطرسبرغ”، بتطور علاقات موسكو مع إفريقيا في المستقبل القريب، لأنه مع انتهاء صفقة الحبوب ستتفاوض الشركات الروسية والدول الإفريقية بشكل مباشر بشأن إمدادات الغذاء والمساعدات الإنسانية.
وأشار إلى بعض التحديات التي قد تحول دون تطوير هذه العلاقات إلى المستوى المأمول من الطرفين، والتي لخصها في ضعف حجم التبادلات الاقتصادية وتغليب العامل السياسي وفجوة الأولويات بين روسيا والدول الإفريقية.
هذا نص المقال:
استضافت مدينة سان بطرسبرغ الروسية، على مدار يومي 27 و28 يوليوز 2023، القمة الروسية الإفريقية الثانية، بمشاركة 49 دولة إفريقية، وبحضور 17 رئيس دولة، في توقيت حرج للغاية قارياً ودولياً، وبعد مرور نحو عام ونصف على اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في 24 فبراير 2022، وتأثيراتها السلبية في مختلف دول العالم، ومنها الدول الإفريقية.
وكانت القمة الروسية الإفريقية الأولى قد عُقدت في أكتوبر 2019 في مدينة سوتشي الروسية على البحر الأسود، بمشاركة زعماء 43 دولة، فضلاً عن 8 تكتلات ومنظمات إفريقية كبرى. وجرى الاتفاق بين القادة الروس والأفارقة على عقد القمة مرة واحدة كل 3 سنوات، لكنها تأجلت بسبب ظروف وتعقيدات الحرب الأوكرانية.
دوافع متبادلة
ثمة محفزات عديدة لتطوير العلاقات الروسية الإفريقية، استناداً لتاريخ هذه العلاقات، والتغيرات الحالية في العالم، ولاسيما بعد اندلاع الحرب الأوكرانية. وتتمثل هذه الدوافع في التالي:
1- البناء على الإرث السوفييتي: تاريخياً، دعمت روسيا باستمرار الشعوب الإفريقية في نضالها من أجل التحرر من الاضطهاد الاستعماري. وجاء إنهاء الوجود الاستعماري في العديد من البلدان الإفريقية في الخمسينيات وأوائل ستينيات القرن الماضي بعدما قدم الاتحاد السوفييتي السابق المساعدة العسكرية والاقتصادية لحركات التحرير في القارة السمراء. وتبني روسيا على إرثها من الحقبة السوفييتية، مستخدمة خزانا هائلا من النيات الحسنة مع الدول الإفريقية. وفي هذا الإطار، حرص عدد كبير من الزعماء الأفارقة المشاركين في القمة الروسية الإفريقية الثانية على التذكير بإسهامات الاتحاد السوفييتي السابق في تحرير بلدانهم من الاستعمار الغربي، وتأكيد أن العلاقة مع موسكو تُعد امتداداً للإرث التاريخي من الصداقة والتعاون.
2- فك عزلة موسكو الدبلوماسية بعد الحرب الأوكرانية: تسعى موسكو جاهدة لمواجهة محاولات الغرب فرض عزلة دولية عليها عقب العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا في فبراير من العام الماضي. ووفقاً للكرملين، فإن الفترة الجيوسياسية الحالية “صعبة للغاية”، حيث يرى أن الولايات المتحدة وفرنسا ودولاً غربية أخرى مارست ضغوطاً غير مسبوقة، من خلال بعثاتها الدبلوماسية، على الزعماء الأفارقة قبل القمة الروسية الإفريقية الثانية لمنعهم من المشاركة فيها. ووصف المتحدث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، هذا التدخل بأنه “حقيقة مشينة تماماً”، لكنه شدد على أنه “لا يعوق بأي حال من الأحوال عقد القمة بنجاح”. ومنحت قمة سانت بطرسبرغ فرصة أخرى لإظهار أن موسكو لم يتم عزلها ولديها شركاء آخرون على استعداد لتعميق تعاونهم مع الكرملين.
3- تعزيز التعاون العسكري والأمني بين روسيا والقارة الإفريقية: عسكرياً، تُعد إفريقيا سوقاً تقليدية للأسلحة الروسية. وحالياً تسعى موسكو إلى زيادة مبيعاتها من الأسلحة للدول الإفريقية، سواءً لمساعدتها في مواجهة مخاطر الإرهاب، أو تعظيم نفوذها ووجودها العسكري في القارة السمراء في إطار صراع النفوذ مع القوى الكبرى الأخرى، ولاسيما الولايات المتحدة وفرنسا.
وأمنياً، نسجت روسيا، خلال السنوات الماضية، علاقات شراكة وتعاون أمني موثوقة مع بعض الدول الإفريقية، على غرار جمهورية إفريقيا الوسطى، فضلاً عن الاتهامات الموجهة لها بالتنسيق مع بعض الحركات الانقلابية؛ كما حدث في مالي، ثم في بوركينا فاسو، والآن في النيجر. وخلال قمة سان بطرسبرغ أشار الرئيس فلاديمير بوتين إلى المساعدات العسكرية الكبرى التي تقدمها بلاده لدول إفريقيا، قائلاً إن عدداً من هذه الدول تشارك في تدريبات عسكرية مع القوات الروسية، و”نزوّد نحو 40 دولة إفريقية بالأسلحة لجيوشها في إطار اتفاقيات ثنائية”.
4- زيادة حجم التعاون الاقتصادي: تسعى موسكو إلى عقد شراكات طويلة الأمد مع الدول الإفريقية في مجالات الاقتصاد والزراعة والطاقة، حيث تحاول الالتفاف على العقوبات الاقتصادية الغربية غير المسبوقة عليها منذ فبراير 2022، وفي الوقت نفسه تعزيز تعاونها الاقتصادي مع إفريقيا. ففي المؤتمر البرلماني الدولي الثاني “روسيا- إفريقيا”، الذي عُقد في موسكو في 20 مارس 2023، قال الرئيس بوتين إن بلاده ألغت ديون الدول الإفريقية التي تزيد قيمتها عن 20 مليار دولار، موضحاً أن حجم التبادل التجاري بين روسيا والدول الإفريقية ينمو سنوياً، ووصل إلى قرابة 18 مليار دولار عام 2022.
وخلال قمة سان بطرسبرغ، حاول بوتين التخفيف من التأثيرات الاقتصادية لقرار تعليق “صادرات الحبوب”، بعد انسحاب روسيا من اتفاق تصدير الحبوب عبر البحر الأسود في 8 يوليوز الماضي، موضحاً أن موسكو ستعمل على تصدير 50 ألف طن من الحبوب لعدة دول في إفريقيا، بل ستصدره إلى 6 دول مجاناً؛ هي بوركينا فاسو، وزيمبابوي، ومالي، والصومال، وإفريقيا الوسطى، وإريتريا.
5- تصاعد مكانة إفريقيا في السباق الدولي: مع تزايد التوترات السياسية العالمية والمنافسة الاقتصادية الشرسة، صارت إفريقيا الآن مركز الجذب مع انتقال مركز التنافس بين القوى الدولية إليها؛ فهي المنطقة الواعدة والأسرع نمواً في العالم. ويُعد الاستثمار في إفريقيا اتجاهاً شائعاً ويوفر مزايا واضحة، حيث تسعى القوى العالمية الرائدة إلى تعاون متنوع عبر القارة السمراء، فهي موطن لأكثر من 1.3 مليار نسمة، كما أنها تزخر بالموارد الطبيعية. ووفقاً لتقديرات مختلفة، يتركز في إفريقيا 12 في المئة من النفط العالمي، و18 في المئة من احتياطيات الغاز، و60 في المئة من أراضيها خصبة.
وفي افتتاح القمة الروسية الإفريقية الثانية، شدد بوتين على أن القارة السمراء صارت فاعلاً متزايد الأهمية على المسرح العالمي، ومركزاً جديداً للقوة. وأكد بوتين أن بلاده “متضامنة مع إفريقيا للاتجاه نحو عالم متعدد الأقطاب، وترفض استغلال قضايا المناخ وحماية حقوق الإنسان لأغراض سياسية، وتعارض سياسة إملاء القواعد التي يفرضها الغرب”. وقال إن روسيا على استعداد لدراسة مقترحات خاصة بتوسيع تمثيل إفريقيا في هيئة الأمم المتحدة ضمن سياسة إصلاح مجلس الأمن الدولي.
6- رغبة الدول الإفريقية في تنويع علاقاتها الدولية: صار واضحاً أن معظم البلدان الإفريقية تُظهر بوادر براغماتية وتطلعية للتعاون الاقتصادي والشراكة مع الفاعلين الدوليين. وتعمل إفريقيا على إيجاد مكانها اللائق وتأكيد نفوذها في العالم متعدد الأقطاب. ويوفر صراع القوى الكبرى في إفريقيا فرصة مواتية لدول القارة لاختيار أفضل الشركاء، مع مراعاة مصالحها الخاصة. وتتطلع الدول الإفريقية إلى تحقيق التوازن، على نحو يسهم في تلبية مصالحها الوطنية واحتياجاتها التنموية.
وبالنسبة للعديد من دول إفريقيا، ربما تبدو روسيا حالياً هي الشريك المُفضل، الذي يحظى بقبول أكثر من الغرب وحتى من الصين. بالإضافة إلى ذلك، قد تكون علاقات موسكو مع إفريقيا أقوى في المستقبل القريب، لأنه مع انتهاء صفقة الحبوب ستتفاوض الشركات الروسية والدول الإفريقية بشكل مباشر بشأن إمدادات الغذاء والمساعدات الإنسانية، حيث تعتمد إفريقيا بشكل كبير على استيراد الحبوب والأسمدة من روسيا وأوكرانيا.
تحديات راهنة
في المقابل، توجد بعض التحديات التي قد تحول دون تطوير العلاقات الروسية الإفريقية إلى المستوى المأمول من الطرفين، ومنها ما يلي:
1- ضعف حجم التبادلات الاقتصادية: بالرغم من أن روسيا تحتل المركز الثامن عالمياً في إجمالي الناتج القومي بقيمة 2.3 تريليون دولار بنهاية عام 2022، فإن حجم العلاقات التجارية بين روسيا وإفريقيا يُعد متواضعاً نسبياً. فحجم الاستثمارات الروسية في إفريقيا يبلغ نحو 40 مليار دولار بنسبة لا تزيد عن 1 في المئة من الاستثمارات الأجنبية المباشرة في القارة السمراء؛ وهي نسبة ضئيلة للغاية مقارنة بالاستثمارات الأمريكية والأوروبية والآسيوية.
ومن ناحية أخرى، فإن نسبة صادرات الدول الإفريقية إلى روسيا أقل من نصف في المئة من إجمالي صادرات القارة إلى بقية دول العالم، وهي تقتصر على بضع دول لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة. فنحو 70 في المئة من تجارة روسيا مع دول إفريقيا تنحصر في 4 دول؛ هي مصر والمغرب والجزائر وجنوب إفريقيا. وتستحوذ مصر وحدها على حوالي ثلث التجارة بين روسيا وإفريقيا بنحو 6 مليارات دولار عام 2022. وهي نسبة ضئيلة أيضاً مقارنة بحجم التبادل التجاري بين الصين والدول الإفريقية، الذي يتجاوز 250 مليار دولار سنوياً.
2- تغليب العامل السياسي: في الواقع، لا ينظر الروس إلى إفريقيا من منظور اقتصادي. ومنذ انهيار الاتحاد السوفييتي السابق تركز روسيا، على عكس الدول الأخرى، على الشعارات السياسية. واتسمت الاجتماعات والمؤتمرات رفيعة المستوى بين موسكو وإفريقيا بالخطب الرنانة، وانتهت باتفاقيات ثنائية محدودة. وبينما تحتاج إفريقيا إلى تنمية مستدامة ملموسة، فإن موسكو تُعالج بفعالية فقط مهمة تعزيز وجودها السياسي والعسكري في القارة السمراء. وفي ضوء التطورات الجارية تحتاج روسيا إلى استراتيجية ذكية وتنافسية وخريطة طريق قابلة للتطبيق لتنفيذها في إفريقيا.
3- فجوة الأولويات بين روسيا والدول الإفريقية: على الرغم من وجود توافق روسي إفريقي على رفض الهيمنة الغربية والدعوة إلى عالم متعدد الأقطاب تشغل فيه دول القارة مكانة مرموقة؛ فقد برز نوع من التباين في الأولويات بين الطرفين. ففي حين تركزت الأهداف الروسية على أولوية التعاون في مواجهة الصدام القائم حالياً مع الغرب، وضرورة إيجاد آليات لزيادة تنسيق السياسات المالية والاقتصادية لمواجهة العقوبات الغربية؛ ركز الجانب الإفريقي أكثر على متطلبات التنمية وبناء البنى التحتية وملفات الأمن ومكافحة الإرهاب والتهديدات الأخرى.
ومن ناحية أخرى، طالب بعض الزعماء الأفارقة بوضع استراتيجية واضحة للتعاون المستقبلي بين روسيا وبلدانهم، تستند إلى “خريطة طريق” واضحة ذات سقف زمني محدد لتنفيذ مشروعات حيوية ومهمة. وشكلت هذه نقطة بارزة لم تتطرق إليها القيادة الروسية خلال القمة الأخيرة، علاوة على مسألة قلق الدول الإفريقية المتزايد بشأن متطلبات الأمن الغذائي لشعوبها بالرغم من التطمينات الروسية حول زيادة الصادرات من الحبوب.
إجمالاً، يمكن القول إن المساعدات السوفييتية السابقة لإفريقيا يُنظر إليها على أنها مصدر قوة لروسيا في تفاعلها الراهن مع دول القارة السمراء، لكن من المستحيل بناء العلاقات الراهنة على أساس الماضي فقط، فهذا قد يكون ضماناً للصداقة والثقة، وإنما في الوقت نفسه ثمة حاجة إلى خطوات حقيقية لتطوير العلاقات الثنائية، حيث إن قضايا العدالة الاجتماعية والشراكات الاستراتيجية مهمة لإفريقيا في الوقت الحالي. وبالتالي يتعين على موسكو اكتشاف صيغة جديدة للتعاون تُحقق المنفعة المتبادلة مع إفريقيا.
المصدر: وكالات