حتى يكون “الريف بازغا”، يستحضر الاقتصادي نور الدين العوفي كون “شخصية” الريف برية وبحرية في آن، قائلا إن هذا الامتياز الجغرافي بالاصطلاح الاقتصادي “كفايات مميَّزة” من شأنها أن “تمنح الجهة الشمالية امتيازا مقارنا وتنافسيا غير مسبوق”، وهو ما يتطلب “تحويلا في المسار”.
وتذكر دراسة “في التنمية الاقتصادية.. الريف بازغا”، التي صدرت في أحدث أعداد فصلية “النهضة”، أن مسار التنمية المتعثرة بجهة شمال المملكة تتصف بـ”تنمية استقطابية ولا متكافئة، أي تمركز الأنشطة الإنتاجية بين طنجة وتطوان على حساب شفشاون، وزان، الجبهة، باب برد، تارجيست، كتامة”، وهو تفاوت مجالي لم يزده التقسيم الجهوي إلا تفاقما”.
كما أن هناك “نسيجا صناعيا ضعيفا وهزيلا، خاصة في الريف الشرقي، بعوالم قروية وجبلية تشكو العزلة القاتلة، بأنشطة معيشية (صيد بحري، وصناعة تقليدية) لا تُغني ولا تُسمن، وبطالة متفشية، وفقر مدقع”، إضافة إلى أن “الأنشطة الحديثة المتمركزة في طنجة وتطوان هي، في الأغلب الأعم، أنشطة بالتعاقد من الباطن، وموجَّهة للتصدير”. كما ذكر العوفي أن “الأنشطة غير المهيكلة، ومنها التهريب، والتجارة الحدودية، وضعيتها هشة، وأجرها قليل”.
ويرى الاقتصادي ذاته ألا مناص من “تحويل المسار، ومن تعديل سلّم الأولويات باعتبار (الشخصية) البيواقتصادية والجيوسياسية للجهة”، مقترحا الاهتمام أولا بـ”اقتصاد الحياة” من قطاعات الصحة، والتغذية، والنظافة، والتربية، والبحث، والابتكار، والثقافة، وتجارة القرب، وثانيا بـ”الاقتصاد الأزرق” أو “صناعات البحر”، التي تشكل بالنسبة إلى المنطقة رأسمال طبيعي متجدد، من شأنه أن يعظّم القيمة المضافة، وأن يضاعف فرص الشغل في المنتوجات المائية، والصيد وتحويل منتوجات البحر، والمهن السمكية، والبنيات التحتية للموانئ، والطاقة البحرية المتجددة، وغير ذلك.
تحويل المسار ينبغي أن يهم أيضا، حسب الدراسة نفسها، “الاقتصاد الأخضر” أو “اقتصاد التنوع الطبيعي”، نظرا إلى “ما تتوفر عليه الجهة من مدخلات معتبرة للارتقاء بالفلاحة البيولوجية والشاملة، وتطويرها عبر خلق قطب فلاحي جامعي في إطار منظومة جهوية متكاملة للابتكار، بشراكة استراتيجية بين الجامعة والقطاع الإنتاجي، الصناعي بالخصوص، وبانخراط واسع لكفاءات مغاربة العالم”.
ويدعو العوفي أيضا إلى “الاقتصاد التعاضدي”، الذي يهم الأنشطة غير الربحية والتقليدية من صيد بحري، وصناعة تقليدية، ومنتوجات محلية، مع تحريك “ما تفيض به الجهة الشمالية من رأسمال لامادي، تراثي وثقافي، باذخ وباسق، مفعم بالتاريخ، مترع بالحضارة، يضفي المعنى على الرهان التنموي”.
ويوضح المصدر ذاته أثر هذا “الامتياز الجيوثقافي” في “تحسين الجاذبية الترابية، وبناء القدرات، وتقوية التماسك الاجتماعي، وتعزيز الانتماء إلى الوطن”، لأنه رغم وجود “تراث حي، وإبداع خصب”، فقد “أمسى مثل متاع متروك”، علما أن “المسالك لا تصب في عملية البزوغ سوى مجتمعة، متصلة، متكاملة، متفاعلة. كما أنها لا تفضي إلى التنمية الشاملة، والعادلة، والمستديمة بدون توافر شرطين في خريطة الطريق: إشراك الجميع في الإعداد والصياغة، و”إركاب” الجميع عند التنزيل والتحقيق”.
هذه النقطة يفصل فيها العوفي في محطة أخرى من دراسته، قائلا إن “الضروريات والحاجيات التي تفتقدها المنطقة لا تُحدَّد من فوق، بل من أسفل، ولا تصاغ مركزيا، بل تُصنع محليا”، قبل أن يسترسل موضحا أن “الصياغة التشاركية هي استهداف الضروريات والحاجيات أولا وأخيرا، غاية ووسيلة، في ذاتها ولذاتها. الهندسة المحلية للتنمية المحلية لا تعني (التفكير) خارج الرؤية الشاملة، بمعزل عن الخيارات الكبرى التي تُشكّل المشترك الوطني. بل هي باندراجها في نطاق التنمية الوطنية تستفيد من الآثار الخارجية الإيجابية، وتجد في مدار الاقتصاد الكلي وفورات الحجْم أو السُّلَّم التي هي من شروط البزوغ واطراد النمو”.
المصدر: وكالات