حدث مغمور من التاريخ الراهن للمنطقة المغاربية، يندرج ضمن صراع التأويلات حول شخصية المقاوم المغربي محمد بن عبد الكريم الخطابي، والسعي إلى استثمارها السياسي من أجل دعم أطروحات متباينة بل ومتناقضة أحيانا، ورد في دراسة كشفت محاولة جزائرية رسمية في القرن العشرين لدعم إنتاج فيلم حول الخطابي بتأويل يخدم طموحاتها الجيواستراتيجية.
ورد هذا في دراسة نشرت ضمن سلسلة “دراسات أكاديمية محكمة” الصادرة عن المركز المتوسطي للدراسات والأبحاث، في العدد الخامس والثلاثين، بعنوان “طريق النسر الذي لم يكتمل.. محمد بن عبد الكريم الخطابي وحلم الفيلم المؤجل”، للباحث توفيق الدرازي.
وتناول المقال البحثي موضوع مشروع فيلم لم يرَ النور عن حياة رمز المقاومة المغربية بمنطقة الريف محمد بن عبد الكريم الخطابي، يكشف حيثيّاته مقال بحثي، يناقش “الدعم الجزائري للمشروع في سياق التحديات الجيوسياسية بين الجزائر والمغرب”.
وتحدثت الدراسة عن مشروع فيلم “طريق النسر” الذي ظل حبيس الأدراج، ورافقته “جهود كبيرة وأحلام عريضة” لـ”محاولة إحياء قصة بطل الريف، عبر الفن السابع”، بالاستناد على كتاب روبرت فورنو عن الخطابي الذي ترجمه فؤاد أيوب إلى العربية بعنوان “عبد الكريم أمير الريف.. قصة التحدي العربي للاستعمار الفرنسي الإسباني”، بعدما قدم “نظرة عميقة ومفصلة لحياة وكفاح ابن عبد الكريم ضد الاستعمار”.
وتابع البحث: “يظهر، من خلال إحدى الرسائل بين مايكل كوبر وروبرت فورنو، أن الكتاب قد لعب دورا مهما في تشكيل رؤية كوبر للفيلم، حيث وجد فيه المادة الخام والإلهام لتقديم قصة الخطابي إلى الجمهور العالمي”. كما ورد في إحدى الرسائل أن كوبر “بينما كان في الرباط لمناقشة أحد الأفلام السينمائية المزمع تصويرها، اقترح عليه عضو من الحكومة المغربية فكرة إنتاج فيلم سينمائي عن حياة محمد بن عبد الكريم الخطابي بالاعتماد على الكتاب الذي ألفه فورنو”.
هذا الفيلم كان يروم “إبراز موضوعات؛ مثل النضال من أجل الاستقلال، والسيادة في مواجهة القوى الاستعمارية”، فضلا عن “القيم المتعلقة بـ”المساواة والعدالة والحرية والكرامة والتضحيات التي يقدمها الأفراد من أجل مستقبل أفضل لشعوبهم”. كما أراد الفيلم “بعث رسالة تحفيزية وإلهامية تُظهر كيف يمكن للفرد أن يحدث فارقا كبيرا وأن يكون مصدر إلهام للتغيير الإيجابي، مهما كانت العقبات من خلال الإشارة إلى “القيادة الرشيدة والرؤية الواضحة التي اتسم بها الخطابي”.
وكان الفيلم يطمح أيضا إلى “تذكير الدول المعنية والمجتمع الدولي بالمسؤولية التاريخية عن هذه الأفعال”، وأمام تحدي جمع استثمارات كافية لتمويل مراحل الإنتاج المختلفة، كشف الباحث “الدور الجزائري في الفيلم؛ فقد أبدى عبد الرحمان الغواتي، المدير العام للديوان القومي للتجارة والصناعة والسينمائية، اهتماما بالفيلم”.
وقدمت الدراسة اقتباسا من رسالة للغواتي إلى كوبر، تقول: “بالنسبة لإمكانية التعاون في إنتاج المشروع الذي أبلغتنا عنه، نود أن نعلمكم أن اقتراحكم يستحق بالفعل كل اهتمامنا. سيكون من المناسب تزويدنا بنصوص هذه الأفلام، وميزانيتها، ومدة تصويرها في الجزائر”. كما كشفت الدراسة أن الجزائر قد تعهدت بتقديم دعم مالي متمثل في حوالي 50 في المائة من التكلفة، مع توفير منشآت وطاقم فني كبير.
ووضحت الدراسة أن “التواصل بين الجزائر ومايكل كوبر كان سابقا للتواصل مع إدريس الخطابي”، علما أن “التواصل مع عائلة الخطابي كان مبرمجا خلال الثلث الأخير من شهر شتنبر 1975؛ لكنه لم يتم حتى بداية شهر أكتوبر وتكفل وربرت فورنو بذلك، غير أن إدريس الخطابي لم يكن متحمسا لفكرة التنسيق مع الجزائر رغم الحاجة إلى الدعم المالي، حيث اقترح الحصول على الدعم المالي للفيلم من أحد معارفه بالكويت”.
وذكرت الدراسة أن المبادرة الجزائرية “لم تكن مجرد فكرة تجارية أو فنية عابرة، بل كانت جزءا من استراتيجية أوسع تتبناها الحكومة الجزائرية أو شخصياتها المؤثرة للترويج لقضايا معينة من خلال السينما؛ فالتوجيهات التي تلقاها الغواتي من (شخصيات رفيعة المستوى) بضرورة فتح قنوات التواصل مع كوبر تعكس الرؤية الاستراتيجية للجزائر في استخدام الفن والسينما كأدوات للدبلوماسية الثقافية والنفوذ السياسي”.
وقد تم هذا في ظل مناخ جيوسياسي “كان يتسم بتوتر العلاقات بين الجزائر والمغرب، حيث كان كل طرف يسعى إلى تعزيز نفوذه ومصالحه في المنطقة؛ مما أدى إلى استراتيجيات سياسية متباينة وأحيانا متعارضة بخصوص قضايا الحدود والصحراء المغربية”، وبالتالي كانت “فرصة إنجاز فيلم عن الخطابي وفق رواية تخالف توجهات الدولة المغربية، خاصة إن استحضرنا الاختلاف الذي طبع علاقة الخطابي بالسلطة الحاكمة في المغرب بعد موقفه من دستور 1962، والتأويل متعدد الخلفيات للنظام السياسي الذي شيده ابن عبد الكريم إبان حرب الريف، يمكن أن يحمل رسائل متعددة الأبعاد تخدم فيها أغراضا سياسية ودبلوماسية مناوئة لتوجهات الدولة المغربية”.
لكن، “في خضم هذا الوضع الذي اتسم بصعوبات وعراقيل جمة وقفت عائقا أمام إنجاز المشروع، جاءت وفاة إدريس الخطابي الشخصية المحورية في توجيه روح الفيلم”، وهو “الحدث المفجع الذي ألقى بظلاله على مجرى العمل، إذا لم يكن إدريس فقط رمزا للارتباط العميق بالإرث التاريخي للخطابي؛ بل كان أيضا جسرا للتواصل بين الماضي العريق والجهود الحاضرة لتقديم هذا الماضي ضمن سياق سينمائي معاصر”.
المصدر: وكالات