دعت دراسة جديدة إلى عقد ندوات علمية للتعريف بجهود المغاربة في توقيف الكتب وتحبيسها عبر التاريخ، واستثمار ذلك في جهود لإعادة إحياء هذا النظام في الوقت الراهن، وتشجيع أصحاب الخزانات العلمية الخاصة على توقيف خزاناتهم وإخراجها ليستفيد منها طلاب العلم والباحثون، مع تخصيص أجنحة داخل الخزانات العلمية العامة بالمغرب تحمل أسماء المغاربة الذين اشتهروا بوقف الكتب سواء كانوا ملوكا أو علماء أو من عامة الناس، لما في ذلك “من تشجيع وتحفيز المواطنين على وقف الكتب”.
جاء هذا في دراسة للباحث بنيونس عليوي، حول “دور الكتب العلمية بالمغرب الأقصى ودورها في حماية اللغة العربية”، صدرت في العدد الخمسين من مجلة ليكسوس العلمية المحكمة، وذكرت أن “دُور الكتب” أو الخزائن والمكتبات قد “اهتم بها المغاربة منذ القديم”، وكان لذخائرها في شتى العلوم والمعارف “دور مهم في حفظ اللغة العربية بالمغرب الأقصى” من خلال أنشطتها العلمية؛ بل “كانت حاملة لهم الإصلاح اللغوي منذ القديم، ومنافحة عن اللغة العربية”.
هذا البحث المندرج ضمن مبحث “تاريخ الثقافة” يذكر أن التأريخ لـ”دُور الكتب” بالمغرب يرتبط بـ”قضايا مجتمعية أخرى متعددة، لعل أهمها أدوار هذه المؤسسات العلمية في حفظ اللغة العربية”؛ فهي ليست مجرد مكان لقراءة الكتب، والبحث فيها، بل أيضا “مستودع للتراث الفكري والعلمي للإنسانية، من يوم بدأ الإنسان يسجل أفكاره ومعتقداته”.
وتحفظ المصادر التاريخية “وقائع معتبرة” من “مظاهر اعتناء المغاربة مثلا بـ(معجم العين) أو كتاب سيبويه في مجال الدراسات اللغوية”، علما أن أول بحث برز فيه تاريخ الخزائن في المغرب “بروزا كبيرا” هو الذي قدمه محمد عبد الحي الكتاني بعد انتخابه عضوا بالمجمع اللغوي بدمشق عام 1929 بعنوان “تاريخ المكتبات الإسلامية ومن ألّف في الكتب”، ثم عالم القرويين محمد ابن عبد الهادي المنوني كاتب “دور الكتب في ماضي المغرب”، كما كتب في الموضوع بالفرنسية المحقق أحمد شوقي بينبين معنونا كتابه “تاريخ المكتبات بالمغرب”.
وأوردت الدراسة ما يخبر به المؤرخ ابن عبد البر: “في اللحظة التي فتح فيها الجيش الإسلامي إسبانيا (…) تحت قيادة طارق بن زياد، استولى هذا الأخير على مجموعة الكتب التي وجدها في أحد الأمكنة من البلد المفتوح (…) وهي بالأساس مصاحف”، وقد أهداها إلى “الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك للحفاظ عليها في الخزانة الملكية في دمشق”، وذكرت أن اهتمام المغاربة بدُور الكتب قد بدأ “مباشرة بعد حكم الأدارسة”.
وتابع الباحث: “بدأت تظهر بوادر حركة ثقافية على عهد الأدارسة، نظرا للهجرة التي عرفها المغرب، خاصة من بلاد القيروان والمشرق”؛ وهي حركة يرجح أنها “لم تكن منفكة عن تشييد دور الكتب”، حيث أورد نقلا عن علي النوفلي: “كان العلماء والشعراء يترددون باستمرار على بلاط يحيى الرابع، وكان أبو أحمد الشافعي يحضر هذه الاجتماعات بشكل مستمر، وكان يشارك في هاته المناظرات العلمية (…) فكان العديد من الكتاب الوراقين يشتغلون في نسخ الكتب ليحيى الرابع”.
وتحدثت الدراسة عن العاصمة التاريخية مراكش وإشعاعها؛ فقد صارت بعد تأسيسها “مركزا ثقافيا مهما أنتج أكبر العقول وأهم المؤلفات وأغنى الخزانات، ليس على مستوى المغرب فقط بل على مستوى الغرب الإسلامي بكامله. وكانت حركة التأليف وإقبال سكان مراكش، من خلفاء ووجهاء وخواص، على الكتب وحبهم لها وتقديرهم لمحتوياتها وبحثهم عنها في جميع الأصقاع سببا في تشييد المكتبات لجمع الكتب وحفظها وصيانتها”.
وواصلت: “بفضل هذه المؤسسات العلمية أمكن الحفاظ على عدد من المصادر الفقهية والعلمية والفلسفية، في ثلاثة أنواع من الخزانات، هي المكتبات الملكية، والمكتبات الخاصة، والمكتبات العامة. كما أن بمراكش كانت المكتبة الملكية التي أقامها يوسف بن تاشفين، رغم قلة اهتمام المصادر بها، ولو أن ابن خلدون قد أشار إليها “إشارة غامضة أثناء حديثه عن المصحف العثماني الذي انتقل من الأندلس وآل إلى خزائن لمتونة”.
هذه المكتبات “كانت تعرف تداول اللغة العربية، فكان يتنافس فيها الطلاب والعلماء في إتقان هذه اللغة والبحث فيها، حتى إن من مظاهر هذا الاهتمام أنك تجد العالم متبحرا في علوم الفلك أو الهندسة أو العلوم الطبيعية الأخرى وتجده في الوقت نفسه متضلعا في علوم اللغة العربية متبحرا في فنونها، منافحا عنها”.
و”الخلفاء الموحدون” لم يكونوا أقل اهتماما بالكتب والمكتبات؛ فقد جلبوا “رجالات العلم إلى مراكش، فأسماء مثل أبي الصقر الخزرجي وابن طفيل وابن رشد وابن زهر (الذي بنى له المنصور دارا على غرار داره بقرطبة حتى لا يغادر مراكش) تكفي لإعطاء صورة عن الجو الثقافي الزاخر في مراكش على عهد الموحدين”.
وهذا المناخ الفكري “من الطبيعي أن يتمخض عن تصانيف علمية وفقهية وفلسفية لا يزال كثير منها محفوظا في الخزانات المغربية والأجنبية”.
أما في العصر الموحدي، “فقد كانت الخزانة الملكية في مراكش أم الخزانات في العالم الإسلامي بكامله. ويرجع هذا إلى اهتمام خلفاء هذه الدولة بها وجلب الكتب إليها من جميع جهات العالم الإسلامي”.
ومن وظائف هذه الخزانات “وظيفة التشجيع على التأليف باللغة العربية، وإن كان الأمر نفسه ينطبق على اللغة الأمازيغية؛ فهناك من الأمراء من شجع على توظيف اللغة الأمازيغية في حركة التأليف العلمي، ومنهم ابن تومرت الذي ألف رسائله باللغة العربية واللغة الأمازيغية”، وهذا “مظهر من مظاهر تدبير المسألة اللغوية خلال عهد الموحدين”.
أما صنف المكتبات الخاصة، فقالت الدراسة: “نجد أن لكل عالم من العلماء الذين استوطنوا مراكش خزانة كتب خاصة”؛ ومنها “مكتبة محمد بن أحمد المراكشي المعروف بابن الطراوة. وقال عنه صاحب (الذيل والتكملة): كان أنيق الوراقة، متقن التقييد، مشابها لخطوط الأشياخ، شديد المحافظة على كتبه، مثابرا على الاعتناء بتصحيحها، مهتما باقتناء الأصول التي بخطوط أكابر الشيوخ أو عنوا بضبطها، وجمع منها جملة وافرة”، ومن المكتبات أيضا: “خزانة (ابن غلندة الأموي) الطبيب الخاص ليعقوب المنصور”، وخزانة “محمد بن أحمد القيسي المسلهم الرندي، الذي كان “محدثا مكثرا متسع الرواية، أديبا من أبرع الناس خطا، عاقدا للشروط، جماعة للكتب وفوائد الشيوخ، نسابة لخطوط العلماء، ذاكرا للتواريخ”، وفق ابن عبد الملك المراكشي.
أما الخزانات العامة بالمغرب فكانت أولاها بسبتة، ووقفها أبو الحسن الشاري، علما أن المؤرخ والمحقق المنوني يرجح أن الخزانة التي بناها يعقوب المنصور في مراكش كانت ذات صبغة عمومية.
ومن بين ما تطرقت إليه الدراسة ظاهرة وقف الكتب التي كانت “مظهرا من مظاهر انخراط المجتمع المغربي في نشر الثقافة العالمة. وقد وظفت الخزائن العلمية في تيسير هذه العملية، واستفادت اللغة العربية من هذه المسألة، بحيث إنها كانت تجد طريقها إلى طلاب العلم والعلماء من خلال هذه الخزائن”.
منهج وقف الكتب الذي كان بالمؤسسات ذات الصبغة العمومية مثل المساجد والزوايا والمدارس العتيقة وخزانات المساجد الجامعة وغيرها، قالت الدراسة إنه ما دعم مدارس علمية كبرى بالبلاد مثل مدرسة الحلفاويين أو الصفارين، ومدرسة الصهريج، والسباعيين، والعطارين، والمصباحية، والبوعنانية، ومدرسة الشراطين، على سبيل المثال لا الحصر.
المصدر: وكالات