اختارت “خيمة الإبداع” المنعقدة في إطار فعاليات الدورة الرابعة والأربعين من موسم أصيلة الثقافي الدولي أن تحتفي بمسار المفكر المغربي محمد بنسعيد العلوي، الذي ظلت إسهاماته المرجعيّة تنهل من مختلف الحقول المعرفيّة: التاريخ، والفكر والتخييل، ومكنته أن يكون أحد أهم المفكرين الموسوعيين المغاربة المعاصرين، وأحد أهم أعلام المشهد الثقافي المغربي والعربي على حد سواء.
وعلى هامش ندوة افتتاح “خيمة الإبداع”، فضل المفكّر المغربي عبد السلام بنعبد العالي أن يتمسّك، كعادته، بالنزعة الأكاديميّة الخالصة في مداخلته، بحيث قدم قراءة تحليليّة محضة لكتاب “أوروبا في مرآة الرحلة، صورة الآخر في الرحلة المغربية المعاصرة”، لمحمد بنسعيد العلوي، قبل أن تعود الكلمة للناقد الأكاديمي المغربي أحمد زنيبر، ليقرأ مداخلة بالنيابة عن كمال عبد اللطيف، أستاذ الفلسفة السياسية والفكر العربي المعاصر، الذي لم تسعفه ظروفه الصحية ليحضر ضمن الندوة.
وقال عبد اللطيف في المداخلة: “يعرفُ المهتمون بدرس الفلسفة في المغرب نوعيّة الحضور الذي يتميز به الصديق والأستاذ الباحث سعيد بنسَعيد العلوي؛ فقد استطاعَ بما راكمهُ من أبحاث ودراسات خلال مسيرته في التدريس، منذُ سبعينيات القرن الماضي إلى بدايات العقد الثالث من الألفية الثالثة، وما يمتلكه من سماتٍ أخلاقيةٍ عالية، أن يكون محط تقدير من زملائه، من مختلف الفاعلين في حقول التربية والتعليم والبحث”.
وأضاف أستاذ الفلسفة ذاته: “تعرفتُ على المحتفى به منذ نهاية ستينيات القرن الماضي، أي منذ ما يزيد عن خمسة عقود، قضيناها معًا في التدريس في التعليم الثانوي والعالي؛ وطوّرنا خلال المدة المذكورة علاقة الصداقة والزمالة إلى علاقة أسرية منسوجة بخيوط من المودة والتقدير”، مردفا: “ما عمق وشائج القربى بيننا غوايتُنا المشتركة للأدب والفنون والكتابة. وقد شكلت هذه الغواية الملح والملمح البارز في حواراتنا المتواصلة، وأسفارنا الصيفية المشتركة”.
وبعد عبد اللطيف تسلم الكلمة الكاتب والباحث الجامعي أحمد المديني، الذي أكد منذ بداية مداخلته أنه سينصرف إلى منزع واحد ضمن ورشات ومباحث واختصاصات اشتغال الجهبذ محمد بنسعيد العلوي، وهو فكرة “تأويل التاريخ ومحتمل الرواية”، التي هي محاولة للاعتراف في ما يمكن القول إنه التقاء بين التاريخ والرواية، انطلاقا من مجمل الأعمال الروائية التّخييلية للمحتفى به، الذي قدم تجربة تثبت أن الرواية قابلة لأن تجمع التاريخ وأداته السرد، وحصاد الفكر أيضاً، أي المعنى والديباجة.
وأوضح المديني أن “اختيار ‘الروائي’ ضمن انشغالات المحتفى به راجع لتفننه بسحره الخاص، فهو لم يكن مؤرخا، ولكن باحثاً مهما في التراث العربي والإسلامي والإنساني”، وأضاف: “العلوي من الموسوعيين النادرين في الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة، واقتحم ميدان السرد التخييلي بما يقربنا مما أراد الروائي أن يصب في قالبه شجونه ويشخص عوالمه، فجاء التاريخ مسرودا بوقائع محددة ضمن عوالم التخييل الروائي”.
فيما ذهبت النّاقدة والأكاديميّة المغربيّة حورية الخمليشي إلى تقديم قراءة نقدية لرواية “حبس قارة”، وهو التوجه ذاته الذي اختاره بعدها الأكاديمي المغربي سعيد بنكراد، حين اعتبر أن هذه الرواية “تصالح في السّرد الروائي بين عوالم صيغت في تماس مباشر بين التاريخ والتخييل”، موضحاً أنها “تحيل على التقابل بين زمنيّة تشهد على وجودها شخصيّات تتمتع بسجلات مدنية وسياسية وفنية معروفة وبين زمنيّة أخرى تُبنى مصائرُ النّاس داخلها في المساحات المستحدثة في الرواية”.
وأبرز بنكراد في مداخلته أن “السرد في الرواية كان عودةً إلى زمنيّة ولت من أجل استعادة ما ضاع أو ما ضيعه النّاس في الحاضر”، مسجلا أنها “تُبنى من خلال النّفخ في الوقائع من داخلها لكي تكون قادرة على استيعاب ما ظل خارج التاريخ فيها، فهي الفَجوة التي يمكن أن نطل منها على التاريخ المحلي، أي تاريخ السلطة وطقوسها، ومن خلالها سيُصبح دولاكروا مغربيا في التاريخ الفني”.
وكان الباحث في علم الاجتماع وأنثروبولوجيا الثقافة عياد أبلال آخر من تلقى الكلمة ضمن الندوة ذاتها، ليعترف ابتداءً بأن “القيام بقراءةٍ فكرية في مشروع مفكرٍ كبيرٍ من طينة العلوي ليست بالمهمة السهلة”، مردفا: “…خاصة أنّني أدركتُ فكره قبل شخصه وعاصرتُ المفكر فيه لا ميلاده، بحكم انتمائنا إلى جيلين قد يبدوان مختلفين، ولربما كان لهذا الاختلاف وقعه الإيجابي، طالما أن المعاصرةَ حِجاب”، ومبرزاً أن “من يدرك أفكار واجتهادات الآخرين عليه أن يكون على مسافة موضوعية وجسدية عنهم”.
وشدد أبلال على أن “ما يميز الرجل حتى يصح لنا أن ندعوه مفكرا رهاناته الفكرية المتمثلة في الرّغبة في دراسة الماضي، والانطلاق منه لتأسيس خطّ معرفي بناظم فلسفي يربط الحاضر بالمستقبل على أساس ما تم تأسيسه في الماضي من أفكار ورؤى فلسفية، وهو هنا بمثابة طبيب جراح بمشرط فلسفي”، مؤكدا أنه “انطلق من جروح في المنطقة العربية في ظل الصراع بين الإيديولوجيات، خاصة في ظل تقاطب وتجاذب المعسكرين، وأصدر المفكر كتاب: ‘الإيديولوجيا والحداثة’ سنتين قبل سقوط جدار برلين وانهيار العربي، من سلفي، وماركسي، ويساري، وحداثي، وأصناف المفاهيم التي شغلت بال كل الاتحاد السوفياتي”.
وأكد المتحدث ذاته أن “هذا المفكر حمل رهان التحديث، بحيث راهن منذ بداياته على ضرورة فهم الواقع العربي والمغربي فهما معاصراً، منشغلا بقضايا مجتمعاته العربية ومنطلقاً في كثير من كتاباته من الواقع المغربي دون فصله عن جواراته الإقليمية والدولية؛ ومثلما حاول ترسيخ ممارسة فكرية معاصرة على قاعدة التراث العربي الإسلامي في شقه السياسي والفقهي، كما رأينا في اشتغاله على الماوردي؛ وهو ما سيجعل التحديث بما هو المفهوم المركزي للثمانينيات والتسعينيات منطلقا لتسريع وتيرة التفكير وتحفيز الكتابة في المجتمع وعن المجتمع”.
المصدر: وكالات