يستحق الطريق المؤدي إلى دواري أنامر وأمسلان أن ينعت بـ”الشاق” أو “بالغ الخطورة”، نظرا لما تنطوي عليه الطريق من أمزميز حتى إيجوكاك من منعرجات جبلية حادة تنهك عجلة قيادة السيارات ومُمسِكها؛ لكن الخطر يرتفع، وتصبح الرحلة بـ”ملامح الموت” حقا، في الطريق الفاصل بين إيجوكاك وأنامر ثم أمسلان، حيث منتهى المسار، وحيث لا وجهة أخرى ممكنة سوى الارتطام بالجبل.
يقع الدواران بجماعة إيجوكاك بإقليم الحوز، جهة مراكش آسفي، وصلنا إلى المكان عند الظهر، بعد طريق قاس لا تنصح هسبريس السيارات الواطئة أو غير محترفي القيادة بالتفكير نهائيا في الذهاب إليه، ليس تكريسا لعزلة الدوار؛ بل تأكيدا للسلامة ولمدى وعورة الطرق التي عاينتها الجريدة. ارتفاعات جبلية غير معبدة على ناصية الحافة، تُفشل السيارة مرات عديدة والحصى يعضد الانزلاقات بشكل ينهك الفرامل.. والتنبيه الذي نقدمه هنا “يمكن أن يكون فرصة لرفع هذا الحصار”.
هذا الدوار، الذي نوجد فيه الآن، “لم يزره أحد من الصحافيين من قبل في التاريخ”، كما قال أهله الذين عبروا عن “أعلى درجات الامتنان” للفرص التي قادت هسبريس نحوهم، إلى درجة تحمس أحد كهولهم، بكل الغرابة، لـ”شكر الزلزال”، قائلا: “الزلزال جا الحمد لله على القضاء، وكنشكرو الله وكنشكرو الزلزال لي جابكم”. ويبدو أن قول الرجل يعبر عن جراح عميقة، عن ماض طويل من “الانعزال” و”النسيان” والسكن في أعلى الجبل بين تارودانت والحوز.
“أسبوع في الجحيم”
حكاية دواري أنامر وأمسلان الزاوية، المتاخمين لبعضهما في ارتفاع جبلي يجعل الذي يقف عليه يطل على كل شيء في الأسفل، مختلفة عن حكايات معظم الدواوير التي ضربها الزلزال؛ فهذا الدوار، الذي يبعث روائح الصخور، سجل صفرا في الوفيات، لم يمت فيه أحد، لكن 34 عائلة و17 أخرى بأمسلان تضورت جوعا قاتلا لمدة أسبوع، بعدما تحطم الجبل وقطع الطريق بين المغزن وإيجوكاك، بشكل زاد من عزلة هذه الدواوير القصية للغاية.
حين وصلنا، اجتمع حولنا عدد كبير من أهل الدوار، يتوسطهم محمد آيت عبد الله، أحد الساكنة؛ يتحدث بحرقة بالغة قائلا: “لاحظنا كيف انبرت الصحافة بعد الزلزال للبحث عن الدواوير التي سجلت أمواتا، وأعدادا مرتفعة من الموت، لكن حيف التغطيات للدواوير المتضررة بلا خسائر في الأرواح همشنا، وجعلنا خارج الإطار”، معتقدا بقناعة أن “الإعلام مساهم في هذا التهميش الممنهج وهذا الحصار القديم الذي لم يجد حلا حتى اليوم، لأسباب لا يعرفها أحد”.
آيت عبد الله يعرف في قرارة نفسه وهو يتحدث أن “الصحافة عموما من الصعب أن تصل إلى مكان مغلق بالصخور الطنانة على نقط عديدة”، مثلما عاينت هسبريس، بحيث إن صخرة واحدة كافية لتصفيح سيارة، مهما كانت طبيعة معدنها، ودكها دكا مرة واحدة؛ لكن صوت هذه الساكنة ينطوي على “قوة” ما، على “شيء مكبوت”، على “شعور بالحيف على كافة الأصعدة”، على “غياب الدولة”، كما يقولون.
وأردف آيت عبد الله بعدما صمت قليلا: “تْكرفْصنا”.. ومررنا بأسبوع في الجحيم خلال الأيام الماضية، لا مؤونة ولا كهرباء وسوق إيجوكاك تخرب كاملا بعد الزلزال، الحصار. ذلك هو الحصار المطلق والتام. طرق منهارة والدواب تشكو إلى الله”. وأضاف: “كنا نُنزل الحمير على الساعة السادسة صباحا نحو المغزن، أكثر من 10 كيلومترات بعيدا عن الدوار، لكي نجلب التبرعات، خصوصا المؤونة الضرورية”.
وللإشارة، فإن الذين يذهبون باكرا لا يعودون، حسب ما اتضح لنا، إلا بعد الرابعة بعد الزوال، ومسار القصة كالتالي: “التبرعات تأتي إلى إيجوكاك، وتحملها شاحنة أو سيارات “بيكوب” تقوم بإيصالها إلى منطقة تسمى المغزن لا تبعد كثيرا عن إيجوكاك، ثم يتم إنزالها وأخذها على متن الحمير والبغال نحو الدوار، سواء أنامر أو أمسلان، لكون الصخور المتساقطة في “الشارع” تمنع مرور الشاحنات أو العربات، بينما السكان فهم يتنقلون بالدراجات النارية.
رجل ستيني اسمه لحسن أدغوغ أراد أن يدلي بدلوه، فبيّن أن “الانهيارات الصخرية لم تكن فقط على مستوى الطريق المعبدة بعد المغزن، بل أيضا “لابيست” المنطلق من الدوار حتى “آيت موسى” عرفت سقوطا مهولا للأحجار، جعلنا نتحد لتنظيف الطريق دون حاجة إلى تدخل أحد”، مشددا على أنه “لم يصلهم أحد إلى الدوار، والمساعدات تتوقف عند إيجوكاك والكهرباء كانت منقطعة.. وإلى غاية حضور هسبريس هنا فهي منقطعة، ومن أراد شحن هاتفه يذهب إلى إيجوكاك”.
وذكر أدغوغ حالة رجل مسن منهك منذ أسبوع، ولم يستطع أحد نقله إلى المستشفى لأن أنامر وأمسلان كانا من آخر المناطق التي نجحت السلطات في فك العزلة عنها بعد الزلزال؛ لكن نسبيا، لأن الجريدة عاينت بقاء أحجار ضخمة في الطرق. وتصادف وصولنا مع وصول سيارة الإسعاف لنقل الرجل، إذ أكد سائقها أن العديد من السائقين يتخوفون من هذه الطريق، لكونها ذات مسار واحد وضيق، ويُفشل بشكل حقيقي حركية السيارة.
وأورد في تصريح لجريدة هسبريس: “هذا الطريق يهدد بالعودة إلى الخلف أو السقوط في الحافة، يتقنه الذين تمرسوا السياقة فيه أو الذين ألفوا مثل هذا الارتفاعات، لكون حتى النزول ليس سهلا، فقد يمكن أن تساهم الفرملة في انزلاق السيارة، ومن المستحيل تغيير المسار”؛ خاتما: “هاد الطريق غير الله يدير الخير فيها، صعيبة بزاف، وهاد الناس مساكن هنا معزولين وتا واحد مكايطل عليهم، نتمناو السلطات تشوف من حالهم راهم كايعانيو”.
“يا رب.. لا شتاء لا ثلج”
ربما لأول مرة “سنسمع” ساكنة تدعو ببطلان صلوات الاستسقاء نظرا لأن المطر هذه المرة يمثل تهديدا لبيوتها، التي تعاني من تصدعات حقيقية اطلعت عليها الجريدة في غالبية منازل الدوارين. ومن ثم، قال عصام أدغوغ، القاطن هنا: الساكنة ليست ضد مشيئة الله، لكن نصلي لكي لا تصب الشتاء في هذه الظروف القاسية، الثلوج عندنا ستفاقم الأوضاع، لذلك ندرك أن تساقط الأمطار أو الثلوج سيجعل المنازل خرابا”.
وأفاد عصام، الذي لا تستطيع عيناه أن تخفي حجم الألم الذي يشعر به، بأن “الثلج يدفع الساكنة إلى البقاء في الدوار لنحو 20 يوما سنويا، في انتظار ذوبانه، والثلوج تزيد من خطورة الطرق المهترئة”؛ وقال: “نادينا لسنين طويلة بتهيئتها لكي نشعر بالانتماء إلى بلدنا، وأننا مغاربة، ولسنا مواطنين من الدرجة الثانية”، ظانا أنهم “منسيون، بكل ما يحمله النسيان من معنى. لا يعرفنا أحد إلا زمن الانتخابات”؛ وتساءل: أين المنتخبون في هذه المحنة؟”.
وبقسوة الشعور بالمعاناة، “في أقصاها”، يمضي أدغوغ شارحا: “المعاناة جراء البرد بدأت الآن، بحيث إن المبيت في العراء يجعل الأغطية مبللة بسبب برودة الليالي”؛ وبالفعل، تقاسم معنا أبناء الدوار العديد من الفيديوهات التي تبين وضعا قاسيا للمبيت في الخارج بعد أن جعل الزلزال العديد من البيوت آيلة للسقوط، وكما شاهدنا في الدوار فإن هناك زهاء 10 خيمات فقط، في حين أن عدد العائلات يبلغ 34 عائلة في أنامر فقط.
ويصبح الوضع أكثر خطورة على شرائح الأطفال والشيوخ، كما شرح لنا مصطفى إدحماد، الذي يقطن بالدوار عينه، بحيث يرى أن “الصبيان والكهول سيموتون بردا إذا ظل الوضع هكذا”، قائلا: “لا أبالغ، أتحدث صراحة وبجدية، ستسمع وفيات هنا، أو ربما لن تسمعها، فاسم دوارنا لم يذكر في الإعلام قط”. وأضاف: “البرد والمطر والثلج تمثل العدو الحقيقي لنا، وتهميش الدولة يجعلنا في مواجهة عدو لا وسائل لنا لمضاهاته إطلاقا”.
وتحدث إدحماد بحسرة كبيرة على “الشباب الذي ضاع خارج الفصول الدراسية بسبب هذا العدو”، مسجلا: “العديد من أبناء الدوار لا يتعدون السادسة ابتدائي، لكون تساقط الثلج يحرمهم من تنقلات مهمة ويعزلهم”؛ وقال بأسى: “حتى أنا خرجت للعمل صغيرا فـ”تَمَارة”. ذهبت لمدن عديدة وشعرتُ بالاغتراب. عشت في الرباط لوقت طويل أشتغل في السوق المركزي بباب الحد.. لكني أحسست بظلم عميق حين كنت أقارن ضواحي الرباط بدوارنا، رغم أني أغرمت بالرباط وأقمت فيها زمنا طويلا”.
وأورد المتحدث أن “الخيام التي تقيم فيها الساكنة حاليا من المستحيل أن تقاوم الثلوج التي تغطي منازلنا سنويا”، مبينا أن “الساكنة ترهقها الثلوج وهي داخل منازلها، والآن بالخيام سيكون الوضع أخطر وأقسى وأكثر كارثية”، وأصر الشاب على أن يطلعنا وهو يتحدث عن كم الثلوج التي تسقط في المنطقة وثقها في مواسم سابقة بهاتفه النقال، ويحتفظ بها، كما قال، “لأجل تذكر الآلام التي من الصعب جدا أن تشفى”.
“نساء في التابوت”
من المشاهد التي تعبر عن بلوغ الوضع إلى أقصاه هو ما تخبرنا به الساكنة بخصوص أن “النساء الحوامل يُحملن في تابوت الموتى، لقطع هذه الطرق الجبلية غير المعبدة، وضمان وصولهن ناجيات إلى “الضفة الأخرى” وتسليم الحامل لسيارة الإسعاف”، مؤكدين أن “مئات النساء ولدن بالشكل ذاته ومنهن من أنجبت بالدوار في العقود الماضية بشكل تقليدي؛ ما يبين أن هذا الزلزال ساهم في تعميق أزمة النساء الحوامل بأنامر وأمسلان”.
وقالت امرأة حامل تواصلنا معها بحضور زوجها: “أتخيل دائما تلك اللحظة، لا أريد أن أعيشها، ولكن ذلك قدري، لا امرأة تتمنى أن يتم حملها في نعش الأموات حين يعلن البطن أنه سيُخلي ما بأحشائه، سواء طفل أو طفلة”، مضيفة: داكشي كايجيني ثقيل، مكنقدرش نفهمو، ربي يدير تاويل ديال الخير، واخا من زمان كنقولو دابا تكون شي حاجة، ولكن دابا مابقاش الأمل عندنا فهادشي”.
وزوجة مصطفى إدحماد الحامل بدورها تحمل هما كبيرا يجعل بالها مشتتا، هي وزوجها، بحكم أن المخاض اقترب ولم يتبق له سوى أيام معدودات. وأكد مصطفى أنه “سيجد أي حل ممكن حتى لا تعاني زوجته”، وشرح: “صعوبة الحمل أنه لا أحد يتوقع وقت الولادة بدقة، فقط تظهر العلامات ونبدأ في الإجراءات، ولكني سأكون في الموعد، ولن أترك زوجتي تعاني، ومستعد لحملها حتى الطريق المعبدة إن اقتضى الأمر”.
تتطاير روائح الجوز والشاي، ثم يتساءل حسن آيت عبد الله: “ما مشكلة الدولة معنا؟”؛ ربما يطرح هذا السؤال وهو يدرك أن اختيار الجبل في الأصل كمكان للسكن يطرح صعوبة عملية، بالنسبة لأي مشروع؛ لكنه يريد التأكيد على أن “الساكنة تتمسك بالجبل، وتطالب بالطريق، لكونها تعذب المتنقلين، خصوصا النساء اللائي يجدن صعوبة كبيرة للتنقل أثناء المرض أو الحمل”، مشددا على أن “جميع المواطنين يجب أن يكونوا سواسية، وأن يتمتعوا بكل الحقوق”.
وأما سعيد، الستيني الذي يقود حمار محملا بالمساعدات القادمة من إيجوكاك والذي التقيناهم في دوار أمسلان الزاوية، فقال: “الطريق عذاب يومي، منذ ضربنا الزلزال؛ كان وضعي صعبا وأشعر بالإرهاق كثيرا، لكن الأمر يتعلق بمؤونة دوار بأكمله.. بمحاربة الجوع الكافر، الذي كان يهددنا طيلة أسبوع كامل”، ونشير هنا إلى أن ساكنة الدوار لديها “إسلام عفوي”، بحيث وجدنا أن مؤذن الدوار طفل أقل من 15 سنة، وأخبرونا أن هذه المهمة عهدت إليه من طرف الفقيه وأذانه يعتمد.
حان وقت الرحيل؛ لكن يظهر من خلال ما نشاهده في أنامر وأمسلان أن حياة “ما بعد الزلزال” أفرزت معاناة حقيقية في حق الإنسان والحيوان هنا، وخصوصا دوار أمسلان الذي يقع في أعلى الجبل بشكل يعمق مشقات الوصول إليه. وتتوقع هسبريس، نقلا عن الميدان، أن عملية إعادة الإعمار بالدوارين المذكورين ستكون مهمة مستحيلة نظرا لانعدام الطرق المهيأة المؤدية إليهما؛ ولكن ما هي المخارج التي ستجدها الدولة لحل إشكالات هؤلاء السكان؟ لا أحد يعرف.
المصدر: وكالات