غدت مناسبة “اليوم الوطني للصناعة”، في ثاني دوراته التي انعقدت الأسبوع الماضي، موعدا سنويا متجددا لـ”تثمين المكتسبات وتبادل الأفكار حول الرهانات الوطنية الكبرى والمتغيرات العالمية المهيمنة على القطاع الصناعي”، وفق تعبير رئيس الحكومة خلال كلمة له بالمناسبة التي احتضنتها مدينة بنجرير.
رئيس الحكومة، خلال حديثه أمام المشاركين في هذا الحدث الذي تشرف على تنظيمه وزارة الصناعة والتجارة والاتحاد العام لمقاولات المغرب، أبرز “الدينامية الكبيرة التي بثتها الحكومة في القطاع الصناعي، من خلال تنزيل العديد من المشاريع الهيكلية الرامية إلى تعزيز الصناعة الوطنية”، مستحضرا توجيهات الملك محمد السادس الذي يولي عناية خاصة لهذا القطاع؛ “بالنظر إلى مكانته داخل النسيج الاقتصادي الوطني، وباعتباره دعامة أساسية للتنمية الشاملة والمستدامة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي”.
وتحت شعار يحاول تجسيد مخرجات الدورة الأولى قبل عام: “تدشين عهد صناعي جديد يرتكز على السيادة.. رؤية ملكية في خدمة المواطن والجهات”، التأم مسؤولون وزاريون وترابيون، فيما انتظم النقاش عبر خمس جلسات موضوعاتية: “السيادة الصناعية ومؤهلات الجهات“، “الارتقاء النوعي للمنظومات الصناعية”، “الرهانات الصناعية والتكنولوجية الجديدة”، “الانتقال الطاقي”، و”الابتكار والقدرة التنافسية الاقتصادية”.
وكان من أبرز الخلاصات “توقيع ثلاث اتفاقيات استراتيجية تهدف إلى توسيع المناطق الصناعية في بنجرير والجرف الأصفر، بالإضافة إلى تعزيز التعاون بين البحث العلمي والصناعة، مما يعكس رؤية المملكة لإطلاق عهد صناعي جديد قائم على السيادة والابتكار والاستدامة، وفق التوجيهات الملكية”.
وبصمت الصناعة المغربية في سنة 2023 على أداء لافت للأنظار كأول محفز للصادرات (88 في المائة من صادرات المملكة كانت منتجات مصنعة) وعلى مستوى الاستثمار المنتج (المستقطب الأول للاستثمارات الأجنبية المباشرة في المغرب).
وقالت وزارة الصناعة إن “الارتقاء النوعي الكبير، والاندماج العميق المتزايد في سلاسل القيمة العالمية والكفاءات المؤهلة جعلا القطاع الصناعي أحد الركائز الاستراتيجية للسيادة الاقتصادية الوطنية”.
“نفوذ المستقبل”
محمد عادل إيشو، أستاذ باحث في العلوم الاقتصادية في جامعة السلطان مولاي سليمان ببني ملال، قال إن “الدورة الثانية لليوم الوطني للصناعة تجلت إشارة قوية في مسار المغرب نحو تحقيق السيادة الصناعية، ضمن إطار رؤية الملك محمد السادس. ففي خطابه الأخير خلال افتتاح الدورة التشريعية، شدد الملك على ضرورة تعزيز الدبلوماسية الاقتصادية لدعم موقف المغرب في ملف الصحراء، مما يؤكد الارتباط الوثيق بين التطور الصناعي وتعزيز السيادة الوطنية على المستويين الاقتصادي والدولي”.
وحسب الخبير الاقتصادي ذاته، في إفادات تحليلية لهسبريس، فإن “قطاع الصناعة في المغرب يتخذ موقعا استراتيجيا بفضل رؤية متكاملة تجمع بين الأبعاد الاقتصادية والسياسية، إذ يرى فيها الملك أداة لتعزيز الاقتصاد المحلي ودعم الوحدة الترابية للمملكة”. وزاد شارحا أن الهدف من السيادة الصناعية “لا يقتصر فقط على تطوير الإنتاج الداخلي، بل يمتد ليشمل تعزيز قدرات المغرب في التفاوض على الساحة الدولية. وعلى هذا الأساس، أصبحت صناعات مثل السيارات والطيران والطاقات المتجددة نقاط جذب للشراكات الدولية، ما يساهم في كسب دعم دولي وإقليمي في قضية الصحراء”.
واستدل إيشو بـ”الأرقام الحديثة للنمو اللافت الذي بصم عليه القطاع الصناعي، إذ تضاعف عدد الوظائف ثلاث مرات منذ عام 1999، وارتفع عدد الشركات الصناعية بثلاثة أضعاف، وزادت إيرادات القطاع من 185 مليار درهم إلى 800 مليار درهم. كما سجلت الصادرات الصناعية قفزة من 61 مليار درهم إلى 377 مليار درهم في عام 2023، مما يعكس دور الصناعة المتزايد في دعم الصادرات وجذب الاستثمارات إلى المملكة”.
وتابع أستاذ الاقتصاد بأن “قطاع صناعة السيارات بمنظومته المتصلة شكل لوحده قصة نجاح مغربية في العقدين الأخيرين”. وقال إن “قطاع السيارات من أبرز الأمثلة على هذا النجاح، حيث وصلت مبيعاته إلى 150 مليار درهم في 2023، مع نسبة إدماج محلي بلغت 69%، ما يجعل المغرب أحد المنافسين البارزين على الساحة الدولية، خاصة في أسواق السيارات. أما قطاع الطيران، فقد سجل عائدات وصلت إلى 23 مليار درهم ونسبة إدماج بلغت 42%، مما يجذب الأنظار إلى المغرب كموقع واعد للمشاريع التكنولوجية”.
التنافسية والتشغيل
في خطوة لدعم الابتكار، أشاد إيشو بالاتفاقيات المبرمة لإنشاء وتطوير مناطق صناعية، من بينها مشروعات في بنجرير والجرف، إضافة إلى تمويل 48 مشروعا للبحث والتطوير بتكلفة إجمالية بلغت 293 مليون درهم، ما يسهم في تعزيز تنافسية القطاع وتوليد فرص العمل.
أما على الصعيد الاستشرافي، فأشار الخبير ذاته إلى “الرؤية الملكية نحو بناء منظومة صناعية مرنة ومستدامة، خاصة في مجالات الطاقة المتجددة والتكنولوجيا الخضراء. هذه المجالات ليست مجرد وسائل لتحقيق السيادة الصناعية، بل تعد جسرا نحو شراكات دولية أوسع، تدعم موقف المغرب وتفتح له آفاقا اقتصادية واعدة”.
وفي سياق الانتقال الطاقي، “تواجه المناطق الصناعية المغربية تحديات التكيف مع متطلبات الطاقة النظيفة، وهو ما دفع المغرب إلى الاستثمار في مشاريع طموحة، كالهيدروجين الأخضر وتطوير سلسلة إنتاج الطاقة المتجددة، بهدف توفير طاقة مستدامة ومنخفضة الكربون تلبي احتياجات القطاع الصناعي”، يلفت أستاذ العلوم الاقتصادية.
“يسعى المغرب من خلال هذه الجهود ليس فقط إلى تعزيز قدرته التنافسية وجعل نفسه رائدا في المنطقة في مجال الطاقة النظيفة، بل إلى دعم سيادته الطاقية أيضا، حيث يعاني من اعتماد شبه كامل على استيراد احتياجاته الطاقية. ويشكل هذا العبء على فاتورة الطاقة تهديدا لاستقرار المؤشرات الماكرو-اقتصادية ويزيد من التحديات أمام الأمن الطاقي”، يختم إيشو تصريحه لهسبريس.
جذب الاستثمار
على خط التحليل ذاته سار حديث زين الدين عبد المغيث، أستاذ المالية العمومية بجامعة مولاي إسماعيل بمكناس، تعليقا على الموضوع.
وركز عبد المغيث في تصريحه لهسبريس على أن “صناعة السيارات في المغرب واحدة من القطاعات الحيوية التي تساهم بشكل كبير في التنمية الاقتصادية للبلاد”، مبرزا أن هذه خلاصة متفق عليها بين الجميع منذ بداية القرن الواحد والعشرين بعدما عرف اقتصاد المملكة تطورا وتقدما ملموسين في مؤشرات هذا المضمار”.
وأضاف: “يظهر هذا التطور من خلال مجموعة من الجوانب، أهمها هو جذب الاستثمارات، إذ أصبح المغرب وجهة مفضلة للشركات العالمية المصنعة للسيارات وأرضا خصبة للشركات الكبرى في صنع السيارات ومنظومات التصنيع. وهكذا، يعتبر المغرب أكثر جذبا للاستثمارات الضخمة في هذا القطاع”.
وفي تقدير الباحث الاقتصادي عينه، “يساهم هذا القطاع في تطوير البنية التحتية”، مستشهدا بمساهمة “المشاريع المرتبطة بصناعة السيارات في تحسين البنية التحتية، سواء البنية التحتية الطرقية أو البنية التحتية للموانئ، مما يعزز من القدرة التنافسية للمغرب في هذا المجال التنافسي جدا إقليميا ودوليا”.
ورصد المتحدث “مساهمة دالة من قطاع تصنيع السيارات في مجال الاستثمارات في التكنولوجيا الحديثة”، مؤكدا أن ذلك “دفع المغرب إلى تطوير هذه المهارات المحلية وتعزيز الابتكار والتكنولوجيا”.
“رهان الاستدامة في الصناعات” يأتي تماشيا وانضباطا مع التوجهات العالمية نحو السيارات الكهربائية، إذ بدأ المغرب في استثمار جهوده وصناعته وتقنياته ليصبح مركزا/منصة دولية لإنتاج السيارات الكهربائية باعتبارها سيارات مستدامة تتوافق مع الجيل الأخضر من التنقل والتوجهات الخضراء العالمية، في علاقة مباشرة بالالتزامات المناخية.
خلاصة القول بالنسبة لزين الدين عبد المغيث هي أنه “بفضل هذه المجهودات وهذه العوامل تظل الصناعات عنصرا أساسيا وموجها حيويا في الاستراتيجية الاقتصادية للمغرب، مما يعزز مكانته كمركز صناعي في المنطقة”.
المصدر: وكالات