تم التطرق في الحلقات الثلاث السابقة إلى قصة السهرة التي أحياها محمد رويشة بمسرح محمد الخامس بالرباط يوم 1 نونبر سنة 1980، وكان لها أثر كبير على مسيرته الفنية، حيث صار اسمه ذائع الصّيت ونودي عليه من طرف القصر الملكي للأداء في حضرة الحسن الثاني، وكانت تلك فرصة لتشييد علاقة فنية فريدة بين “فريد الأطلس” والعاهل الراحل.
في هذه الحلقة، الرابعة والأخيرة، نواصل تتبع المسار الذي وضعه الأرشيفيست المكي أكنوز للحديث عن النقطة الفارقة في المسيرة الفنية “لأجمل من لمس الوتر”، وهذه المرة نقترب أكثر من المنزع الوطني لرويشة من خلال تقديمه موسيقى ملتزمة مدافعة عن الوحدة الترابية للمغرب، خصوصا من خلال الغناء للجنود المرابطين في الصحراء المغربية.
تطوع رويشة
يقول أكنوز إن “إبداعات محمد رويشة اتسمت بالتجديد، فهي ذات مواصفات جديدة من حيث المضمون، أي محتوى المادة الشعرية، ومن حيث المنحى الموسيقي ومستوى الأداء، فقد أسهم رويشة عموما في رفع الذوق المغربي وبلورته وتطويره دون الابتعاد عن الأحاسيس الإنسانية الراقية”، ومن هنا “تطوع لإحياء سهرة ترفيهية نظمتها المصالح الاجتماعية للقوات المسلحة الملكية مع وزارة الثقافة عام 1982 للجنود الصامدين في رمال الصحراء المغربية، هؤلاء الجنود هم أبطال الفداء و”التضحية”، بتعبير الكاتب.
ويضيف قائلا: “حان وقت ظهور محمد رويشة مع أعضاء فرقته بالزي العسكري الذي حصل عليه في هذه الجولة. استقبلته عاصفة من تصفيقات الجنود بمختلف مراتبهم. شكر حماسهم وبادلهم متمنياته لو كان معهم في ذلك النضال الوطني المجيد، حيث قال إن “الصحراء أرض مقدسة، وهي مغربية ولا تفاوض على مغربيتها، فيكفيني فخرا أنني بينكم اليوم”. ولكنهم اكتفوا بجهاده الفني فهو بنظرهم تموين حربي، يمكن الحصول عليه عبر أمواج الأثير والأشرطة السمعية”.
ويسرد الباحث المهتم بالأغنية الأمازيغية بالأطلس المتوسط أن رويشة جلس على مقعده قريبا من مكبر الصوت. وهنا انطلقت صرخات الإعجاب وصيحات الفرح، وهكذا بدأ الفنان بأغنية “وْرْدَگَانْخْ إِيحْرْمِي” بصوت هادئ بداية، لكن الوضع اقتضى منه رفع الصوت، وهذا ما حصل فعلا، حيث رفع نبرته: وْرْدَگَانْخْ إِيحْرْمِي مْشْ دَ گَّانْخْ إِنِثَاسْ اورْذَ گَانخْ أَوَا لْعْفو سْگْ غُورُونْ.. أَلزِّينْ أُورْ إِخْدْمْ أُورِكَاثْ إِبَرْذَان.. وْرْدَگَانْخْ إِيحْرْمِي مْشْ دَ گَّانْخْ إِنِثَاسْ اورْذَ گَانخْ أَوَا لْعْفو سْگْ غُورُونْ.. الْمْعِيشْثْ غَاسْ أُودْمْ نْسْ أَسْ تِتْجْبَارْ.. وْرْدَگَانْخْ إِيحْرْمِي مْشْ دَ گَّانْخْ إِنِثَاسْ اورْذَ گَانخْ أَوَا لْعْفو سْگْ غُورُونْ.. إِدِّيسْ ثْگِيثْ أَمْ ثَحْيُوطْ أَثَوْنْگِينْ.
ردد الجنود وراءه المقاطع، وصوته مليء بالفرحة، فأحس بأنه انتصر، وعاد من جديد بخطى واثقة وقال: أَوْرَا يَوَا مْشْ أُورِي ثْعَّفاثْ أَوْرَا غَاسْ أَذِيكْ نْمْيَنَايْ أَونَّارِيخْ أَوْرَا.. ثْقَابْلْ ثِيطْ إِنُو الْبابْ نْ وايْذْرِيخْ.. أَوْرَا يَوَا مْشْ أُورِي ثْعَّفاثْ أَوْرَا غَاسْ أَذِيكْ نْمْيَنَايْ أَونَّارِيخْ أَوْرَا.. وَثَا يْنَاسْ اوُول إِوْضَارْ أَنْوثْ أَقْجْذِيمْ.. أَوْرَا يَوَا مْشْ أُورِي ثْعَّفاثْ أَوْرَا غَاسْ أَذِيكْ نْمْيَنَايْ أَونَّارِيخْ أَوْرَا.. أَثَا يْگَا اوسْمُونْ أَسِيفْ أَديْ يْزْوِيغْ…
عشق وجنون
يقول أكنوز إن السهرة تحولت إلى غناء جماعي اشترك فيه الجندي الصغير مع الضابط كأنهم في المعركة، لكن بمجرد خفض صيحاتهم شرع رويشة في غناء قطعة للشاعر حسن كورياط، الملقب بـ”طنان”، الذي وضع بين يديه عدة روائع منها “الليل الليل”، “بين البارح واليوم”، “وحارو عينيك”، مشيرا إلى أن “تلك الأيادي التي لم تتعب من حمل السلاح لم يتعبها أيضا التصفيق المتواصل في طلب المزيد من روائعه، وعليه استأنف رويشة الغناء في سماء الإبداع المتواصل، وهذا ما جعل كل طبقات الجنود أمامه تعبر عن فرحتها المفعمة بالانبهار والصراخ”.
وحسبما يرويه الكاتب سالف الذكر، فإنه “بعد الانتهاء من العديد من الفقرات الفنية الغنائية وجه الفنان رويشة شكره إلى الجميع وراح يبتسم بطأطأة رأسه. خشي أفراد مجموعته عليه من اندفاع الجنود نحوه، بحكم أن عشق هذا الفنان خلق دهشة في النفوس، فأحاطوا به حتى يخرج من هذا الفضاء سليما وبشكل مريح”، مبرزا أن “رويشة لم يخف ابتسامته التي تشبه ابتسامة الأطفال لأن حلمه تحقق في هذه الرحلة الوطنية بامتياز، وهذا وجه آخر من وجوه الإبداع الفني، أي عندما يكون الغناء في خدمة جنود الوطن وروح الوطنية الخالصة”.
وخلص إلى أن “إبداعات رويشة تتسم بالتجديد، فهي ذات مواصفات جديدة من حيث المضمون، أي محتوى المادة الشعرية، ومن حيث المنحى الموسيقي ومستوى الأداء، وهو ما يدفع إلى القول إن الفنان الأمازيغي محمد رويشة أسهم في رفع الذوق المغربي وبلورته وتطويره دون الابتعاد عن الأحاسيس الإنسانية الرفيعة، والممزوجة بما هو عاطفي ووطني وسياسي”.
وتابع قائلا: “إذا كانت وطنية رويشة تعبر بالأساس عن الإحساس بالارتباط والالتزام بشؤون دولتنا، ومصالحها الداخلية والخارجية، فلا يمكن وضع حدود لأحاسيسه في الحقيقة، وهذا ما عبر عنه في أكثر من مناسبة، فهو كالطير الذي يحلق في السماء بأغاني آلته الوترية ليوزعها في ربوع هذا الوطن، وربما يتجاوزه، بحكم أن البعد الإنساني في إبداعاته حاضر بقوة، وتلك قصة أخرى يمكننا التوقف عندها في مناسبة أخرى”.
المصدر: وكالات