عاد عبد الرحمان المجذوب إلى ترحاله، وحط بمسرح في مدينة سلا، متعرفا على زجالين أكملوا مسير التعبير بالدارجة المغربية، ومعرفا بمعانيه، ومنصتا لردود حول رباعياته، وتأطير لظروف صياغتها.
عرض “الحاجة إلى المجدوب”، الذي أخرجه المسرحي عبد المجيد فنيش ونسقه الزجال مراد القادري والذي استقبله المركب الثقافي السلَوي واحتضنته مؤسسة عبد الرحيم بوعبيد، يقترح فرجة متعددة الأبعاد: مسرحية عمادها “المعاني” المَصُوغة بدارجة وتبصر رفيعين، وربط للماضي بالحاضر بمجاورَة رباعيات المجذوب بزجل مغربي معاصر، وإسهام في تأطير النقاش حول كلام المجذوب وحياته بعدما أثرت معتقدات غيرُ ذاتِ أساس تاريخي في صورته لدى الجمهور المغربي الواسع. كما كان الموعد فرصة للدخول في نقاش مع المجذوب حول معانٍ اعتُبرت منتقصة من المرأة.
وانطلقت الرحلة كلاما متشبثا بالمراجع التاريخية والأدبية المعتمدة، يصحح أخطاء شائعة حول متن المجذوب وحياته، عبر حوارات تجمع باحثة وباحثا وراويا وراوية وقارئا وزجالين؛ فيدقق المشاهد معلوماته، إذ لم يعاصر، مثلا، السلطان مولاي إسماعيل عبد الرحمان المجذوب، عكس الشائع.
في بلد كثيرا ما قدّر وأجلّ المجاذيب الذين يُرَون أناسَ حقيقة لا ينطقهم إلا الحق، وتُدفَع المضرة بإكرامهم، ينطق المجذوب حكمة، ويحكي قصة مظهره الذي يحجب عن الذاهلين باطنه، أو ذخيرته، الممتلئة تجربة ومعرفة: “شافوني كحل مغلف يحسبو ما في ذخيرة.. وأنا كالكتاب المؤلف فيه منافع كثيرة”.
ويتحدث المجذوب عن الحياة ونكران الإنسان الفضلَ، قائلا: “يا من عطاه ربي.. ويقول عطاني ذراعي”، وعن الإنسان بين ما يعتقده حقا وبين لوم الناس وحديثهم: “وإذا صفيت مع ربي.. العبد ما منو ضرورة”، وعن المحبة: “حبيبك حبو والسر لي بينكم خفيه.. إذا حبك حبو كثر وإذا تركك لا تسال عليه”.
ولا يغيب لوم عبد الرحمان المجذوب في المسرحية، فتُساءل أبيات له فيها قدح للمرأة، وقد يشكك في نسبتها إليه، أو يحمل مسؤولية التعميم، ولو أن في العرض رأيا يقول هذا كلامه، له ما له وعليه ما عليه. أليس المجذوب هو القائل: “الأجواد ما يقولوا لا لا وحديثهم خطا وصواب”؟.
ويُربط الماضي بالحاضر في أشواط المسرحية، بحضور أعلامٍ للزجل المغربي اليوم، اعتلوا خشبة العرض؛ من قبيل: أحمد لمسيح، عبد العزيز الطاهري، محمد بنعيسى، مصطفى الخليلي، مراد القادري، عبد اللطيف بنيحيى.
في هذه الفواصل استلهم المجذوب، أبا تاريخيا للقول والتأمل والحكمة، وقرينا أساسيا في تشكيل شخصية الزجال المغربي، وأسلوبه، ووعيه بسنن الناس والأزمان.
كما يربط الماضي القريب بالراهن، عبر تذكر من احتفوا بعبد الرحمان المجذوب، في احتفاليات مشهودة؛ مثل المسرحي الراحل الطيب الصديقي، الذي استُعين بعجَب “ليزار اللي كايتحرك فيه البشار” أو “الملاءة التي يتحرك فيه البشر”، لاستدعاء مقطع من مقاطع مسرحيته “ديوان سيدي عبد الرحمان المجذوب”، مع الاستعانة بأحد ممثليها شاهدا، يعيد تشخيص بعض ما شخصه؛ ولو أن الخشبة غير الخشبة، والزمن غير الزمن، والجمهور غير الجمهور، لكن المحتفى به والمستلهَم منه واحد.
المجذوب، الذي حضر أحد مقاطع المسرحية متفاجئا من تطور الزمان، بعدما افترش الثلج وتدثر بالريح وآنست وحدتَه النجوم، يقول له ضيوف الزمن المعاصر، إن تقدم التقنيات لم يقِ ساكنة هذه الأرض، وهذا العالم، مثالب الزمان؛ بل لا تزال معاناته تتكرر في آخرين، ولا تزال دروسه راهنة.
لا يلتقي وعرضَ “الحاجة إلى المجدوب” وصف الرتابة في جملة واحدة، فهو رحلة متكاملة، بين الْكلام المكمول، والمعلومة الأكاديمية، والرواية الشفهية، وأثر القول في ورثته، وردودهم، وموسيقى الرباعيات، فصارت المسرحيةُ عرضَ إنشاد صوفي في محطات، سواء بأنغام آلات تستعمل في الملحون أكثر، أو أنغام كَناوية وعيساوية، يجمع بينها جميعها الاستلهام من قول سيدي عبد الرحمان السلسِ.
مسرحية عبد المجيد فنيش هذه حفرٌ تاريخي، ووفاء لأعلام القولِ، ودرس في المقاومة والبحث عن الصفاء، ومتعة سمعية بصرية، فيها نصرة لرموز “لْكلام”، وتحميل للأجيالِ مسؤوليةَ صيانة هذا الجانب من “النبوغ المغربي”، فكأنها تقول لهم، عبر مشاركات المجاذيب الجدد: هذا ما قيل، عُوه، تشربوه، صونوه، وقولوا.
المصدر: وكالات