قضيتُ سنة في داخلية إعدادية الغزالي في إيمينتانوت، في الموسم الدراسي 1974/75. كانت أول تجربة لي بعيدا عن البيت، أول مرة أمنع من حرية الخروج والدخول. هناك خرجة صغيرة في حدود المدينة مساء السبت ويوم الأحد، وخرجة كبيرة أيام العطل.
وسرعان ما تأقلمت مع الوضع الجديد، خاصة النوم في مساحة تضم ثلاثين سريرا مزدوجا بشكل أفقي، إضافة إلى أوركسترا الشخير الهادم للذة النوم؛ لكن شيئين فظيعين لم أنسهما إلى اليوم، رداءة الوجبات الغذائية والحمام العمومي الإجباري كل أسبوع.
كان يُقدم لحمُ جاموس مطهو بالصودا، فتتفتت عظامه فتحدث مجزرة في أسناننا وتفسد اللقمة، فنقوم إلى المغسلة نبصق قبل أن يُجرح البلعوم والمعدة. أما حجر العدس فحدث ولا حرج، والفواكه الناضجة أكثر من اللازم (الخامجة) لا نعافها أبدا بسبب الجوع والحاجة إلى الفيتامينات.
في حين يكون الحمام الجماعي خارج الإعدادية عذابا إجباريا، ندخل مجموعات من خمسين تلميذا، فيجتهد صاحب الحمام في جعله مثل جهنم، ويكون الماء البارد ضعيفا أو منعدما، فلا ننعتق إلا بنداء المؤطر بالعودة إلى المدرسة.
وعلى الرغم من كل هذا الذي ذكرنا، فإن النظام الداخلي كان مناسبة للتركيز على الدراسة والتحصيل في ظرف مثالي من التعاون بين التلاميذ ومساعدة أساتذتنا الذين كانوا يعيشون معنا حراسا للمراقد، هروبا من مصاريف الكراء.
بعد نجاحي في نيل شهادة السنة النهائية إعدادي (البروفي)، انتقلت إلى ثانوية أبي العباس السبتي بمراكش، فذهلت للفرق الكبير بين الداخليتين؛ فقد كانت هذه المؤسسة حديثة العهد، بنيت بفضل قرض دولي (بيرد) وكانت مجهزة بأحسن تجهيز، في النظامين الداخلي والخارجي. وجدنا أنفسا في مراقد مريحة، وبتجهيزات النظافة الراقية، ومنها الدش بماء ساخن دائم، والحمامات كثيرة لا تتسبب في الزحام ولا السخونة الحارقة.
والشيء الفارق بين المؤسستين هو مستوى التغذية، إذ إن أغلبنا كان يأكل أحسن بكثير مما يأكل في بيت أهله. في كل أسبوع وجبة سمك من النوع الرفيع ووجبة دجاج إضافة إلى اللحم ذي الجودة العالية كل يوم. ولم تكن هناك أكلة لذيذة لم نذقها في مطعم أبي العباس السبتي. وإلى اليوم، لم أفهم هذا التفاوت بين مدرستين داخليتين، فكلاهما عموميتان تمولهما وزارة التربية الوطنية، وميزانيتهما متشابهة فيما يرصد للتلميذ يوميا، وتسيرهما أطر مغربية، من المدير إلى المقتصد. اللهم إذا كانت المدينة الكبيرة أكثر عناية بتلامذتها من المدينة الصغيرة. (كانت إمينتانوت شبه قرية سنة 1975).
حين عينت أستاذا بثانوية المنصور الذهبي في تيسة، بدأت أفهم سبب الفرق بين الداخليتين؛ لأني كنت أسأل التلامذة الداخليين عن مستوى الحياة في الداخلية، فكانت الإجابات إيجابية.. كلهم يشيدون بمستوى التغذية خاصة. وبعد احتكاكي المباشر بالمدير والمقتصد، سألتهما عن طرق تدبير الداخلية، ففهمت أن استقامة المشرفين على القسم الداخلي حاسمة في هذا الأمر. المدير يحل يوميا بالمدرسة ويفطر مع التلاميذ ولا يغادر الثانوية إلا بعد الاطمئنان على وجبة الغذاء ويكون آخر من يرجع إلى بيته مساء، فكان يحرص على جدية التلاميذ في المراجعة في الأقسام بين الساعة السابعة والساعة التاسعة، وأحيانا يتفقد المراقد قبل النوم، وهذا لم يكن حاصلا في إعدادية الغزالي. أما المقتصد فقد أخبرني أنه يستغل الميزانية غير المصروفة أيام العطل أو أثناء “هروب” الداخليين والداخليات إلى منازلهم في نهاية السنة، فيضيفها إلى ميزانية السنة المقبلة. (كانت تخصص 5 أو 6 دراهم في اليوم لكل تلميذ داخلي).
ذكرني بهذه النوستالجيا المدرسية تلامذةُ الحوز الذين “أحيلوا” على داخليات مراكش بعد أن استحال بقاؤهم في القسم الداخلي المهدد بالانهيار أو بعد تجربتهم الأولى في الداخلية، والذي ضجروا من سوء الإقامة والأكل مقارنة بالداخليات السابقة أو بنظام الحياة ببيوتهم..
ونتساءل اليوم: لماذا هذه الفوارق بين المؤسسات الداخلية؟ أتكون الاعتمادات المخصصة للتلميذ دون المستوى؟ هل هي اعتمادات مختلفة بين البادية والمدينة؟ هل يتعلق الأمر بضعف تفتيش ومراقبة الأقسام الداخلية؟ نتمنى أن تتم مراجعة نظام تسيير وتجهيز وتموين الداخليات بحزم وعدل.
المصدر: وكالات