مع مرور أربع سنوات على استئناف العلاقات الدبلوماسية بين المغرب وإسرائيل إثر توقيع البلدين على اتفاق في هذا الشأن برعاية أمريكية في 22 ديسمبر من العام 2020، ما زالت هذه الخطوة التي شكلت نقطة تحول مهمة في تاريخ السياسة الخارجية المغربية، تثير عددا من التساؤلات في الداخل المغربي حول تداعياتها.
ويعتبر مناصرو هذه العلاقات أنها تعكس تحولا استراتيجيا نحو تعزيز المصالح الوطنية من خلال الشراكات النوعية التي نجحت الرباط في بنائها مع تل أبيب خلال هذه المدة على كافة الأصعدة، خاصة الأمنية والعسكرية، مع حفاظها على مواقفها المبدئية تجاه القضية الفلسطينية.
وعلى النقيض من ذلك، يدفع دعاة قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل، الذين تنامت دعواتهم في هذا الإطار منذ حرب السابع من أكتوبر التي رافقها تراجع ملحوظ في دينامية العلاقات المغربية الإسرائيلية، بأن المغرب لم يجن من هذه الخطوة سوى “الوعود غير المحققة”، مشيرين إلى المواقف الدولية المبدئية التي تضع القضية الفلسطينية في صلب السياسة المغربية، وتجعل من المملكة، بحسبهم، دولة “مطبعة” مع دولة متشددة تجاه حقوق الفلسطينيين ومتورطة في انتهاكات حقوقية جسيمة.
ويطرح تباين الرؤى حول “جدوى التطبيع” تساؤلات عن التحديات التي سيواججها المغرب، الذي ظل مناصرا للحق الفلسطيني، في تحقيق توازن دقيق بين مصالحه الاستراتيجية وبين ضغط مناهضي “التطبيع”، خاصة في ظل استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية.
مصالح وشراكات
في هذا الإطار، قال فيصل فرجاني، رئيس جمعية مغرب التعايش، إنه “مع مرور أربع سنوات على استئناف العلاقات المغربية-الإسرائيلية، يبدو هذا الحدث بوصفه تجليا نادرا لفن إدارة التحولات الجيو-سياسية ببراغماتية واعية وحكمة دبلوماسية تتجاوز المفاهيم التقليدية التي طالما حكمت العلاقات الدولية في العالم العربي”، مضيفا أن “المغرب تمكن في عالم تغلب عليه التصورات الصراعية والارتهانات الأيديولوجية من صياغة إطار علائقي يقوم على استثمار المصالح المشتركة كأرضية لبناء شراكات استراتيجية بعيدة المدى، بعيدا عن محاولات التوظيف السياسي أو الإيديولوجي التي غالبا ما تشوه جوهر التحالفات الدولية”.
وتابع المصرح لهسبريس بأن “هذا الإطار الجديد للعلاقات، الذي يرتكز على مبادئ السيادة والانفتاح المتوازن أتاح للمغرب فرصة غير مسبوقة لإعادة تموضعه في مشهد دولي يتسم بتعقيد شبكاته الاقتصادية، الأمنية، والجيو-سياسية”، مشددا على أن “استئناف العلاقات مع إسرائيل لم يكن خطوة معزولة أو محكومة بدوافع ظرفية، بل يعكس رؤية عميقة تعيد تعريف مفهوم الدبلوماسية السيادية، حيث لا تخضع التحالفات للضغوط الآنية أو الأطر المعيارية الجامدة، بل تبنى على أسس متوازنة تراعي الاحتياجات الداخلية والتحديات الخارجية على حد سواء”.
وبين أن “التعاون المغربي-الإسرائيلي يظهر كأحد الأمثلة على قدرة الدول ذات الرؤية الاستراتيجية على استثمار التعددية في علاقاتها الدولية لتأمين مكتسباتها السيادية وتعزيز موقعها التفاوضي إقليميا ودوليا، فعلى الصعيد الأمني، حققت هذه العلاقة قفزة نوعية تمثلت في تعزيز القدرات المغربية لمواجهة التحديات الأمنية المستجدة”، معتبرا أن “التكامل الاستخباراتي بين البلدين، بما يتضمنه من تبادل للبيانات والخبرات، يعتبر مكونا محوريا في بناء منظومة أمنية مرنة قادرة على استباق المخاطر”.
وأضاف أن “المغرب استفاد على المستوى العسكري من الخبرات الإسرائيلية في تطوير منظومات دفاعية متقدمة، خاصة في مجال التكنولوجيا العسكرية المرتبطة بالأنظمة المضادة للطائرات المسيرة، مما أتاح له تعزيز جاهزيته الدفاعية في منطقة تعرف تصاعدا للتهديدات الجيو-سياسية، حيث إن هذا التعاون لم يكن مجرد استيراد للتكنولوجيا، بل تمثل في صياغة شراكة عسكرية تضع المغرب في موقع أكثر تقدما ضمن معادلات القوة الإقليمية”، مشيرا إلى أن التعاون في مواجهة التحديات السيبرانية كان هو الآخر محورا رئيسيا في هذه العلاقة.
وأكد فرجاني أنه “رغم ظهور متغيرات إقليمية حساسة، بما في ذلك التصعيد في الشرق الأوسط وارتفاع حدة الدعوات المناهضة للتطبيع، نجح المغرب في الحفاظ على توازن دقيق بين مصالحه الاستراتيجية ومبادئه السيادية، حيث إن دفاعه عن القضية الفلسطينية ضمن حل الدولتين لم يكن مجرد خطاب دبلوماسي شكلي، بل هو تعبير عن رؤية عميقة تدمج بين الانفتاح الدولي والالتزام بثوابت السياسة الخارجية المغربية”.
وفي المحصلة، أبرز رئيس جمعية مغرب التعايش أن “العلاقات المغربية-الإسرائيلية تعد نموذجا لعلاقات دولية تتسم بالتجديد والابتكار، إذ أصبحت الدبلوماسية أداة لإعادة صياغة التحالفات على أسس أكثر واقعية وبراغماتية. هذا النموذج لا يعبر فقط عن تحول في مسار العلاقات الثنائية، بل يعكس أيضا تطورا في الفكر السياسي المغربي، الذي أثبت قدرته على بناء شراكات نوعية دون التفريط بسيادته أو القبول بأطر تقليدية لا تستجيب لمتطلبات العصر، وهي تجربة تطرح تساؤلات عميقة حول مستقبل العلاقات الدولية في منطقة تتوق إلى التوازن والاستقرار، لكنها غالبا ما تحاصر برؤى ضيقة لا تستوعب تعقيدات النظام العالمي الراهن”.
“تبشير” وإبادة
قال أوس الرمال، رئيس حركة التوحيد والإصلاح، ضمن تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، إن “المغرب لم يحقق أي استفادة من التطبيع، بل العكس من ذلك تماما، إذ نرى أن الوعود التي تم التبشير بها إبان التوقيع على اتفاق التطبيع لم يتم الالتزام بها، من ضمنها فتح القنصلية الأمريكية في الأقاليم الجنوبية والاعتراف الرسمي للكيان الصهيوني بمغربية الصحراء”، في إشارة إلى الظهور المتكرر لرئيس الوزراء الإسرائيلي بخريطة المملكة مبتورة من الصحراء.
وأكد رئيس حركة التوحيد والإصلاح أن “المملكة المغربية حققت مجموعة من المكاسب والامتيازات خلال السنوات الأخيرة، لكن ليس أبدا بفضل التطبيع مع الصهاينة، بل كان ذلك نتاج عمل دبلوماسي كبير وسياسة خارجية فاعلة وقرارات حازمة، من ضمنها قرار اعتبار الموقف من قضية الوحدة الترابية هو المنظار الذي يقيس به المغرب صدق الصداقات ونجاعة الشراكات، وهو ما أثمر التقارب مع إسبانيا وفرنسا ومجموعة من الدول الأخرى”.
وزاد شارحا: “لا يمكن أن يدعي أحد أن التطبيع أتى على المغرب بفوائد، بل على العكس، إذ ما زال ينظر إلى المملكة كدولة مطبعة مع من يقتل الأطفال والنساء ويخرب المستشفيات ودور العبادة ويهدم البيوت على رؤوس أصحابها، ويتزعم صدارة الميز العنصري والإبادة الجماعية في العالم، وهذا ليس كلامنا ولا مزايدة من طرفنا، بل صدر في شأن ذلك قرار من المحكمة الجنائية الدولية”، متسائلا: “كيف يمكن أن نعتبر أن التطبيع أتى علينا بفوائد؟”.
وأفاد المصرح ذاته بأن “المطبعين أنفسهم سكتوا اليوم وطأطؤوا رؤوسهم أمام هول ما يحدث في فلسطين من إبادة وجرائم تجعل من غير الأخلاقي والإنساني الدفع بفائدة التطبيع مع المسؤول عن هذه الجرائم”، مضيفا: “حاولنا في بداية مسلسل التطبيع أن نفهم ماذا وقع وكيف وقع، وبطبيعة الحال فإن قضيتنا الوطنية هي فوق كل اعتبار ولا يمكن أن نسمح لأي أحد بخذلان إخواننا في الصحراء الذين يفتخرون بمغربيتهم، لكن لا ننسى أيضا أن القضية الفلسطينية هي قضية الأمة، وأن المغرب، ملكا وحكومة وشعبا، كان ومازال دائما إلى جانب الحق الفلسطيني”.
وخلص رئيس حركة التوحيد والإصلاح إلى أن “المؤكد أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون في التطبيع مع الكيان الصهيوني أي فوائد أو أرباح، وحتى إذا كانت هناك بعض الأرباح المتوهمة، فإن الخسارات الناجمة عن ذلك أكبر بكثير”.
مناخ إقليمي واختيارات
قال البراق شادي عبد السلام، خبير دولي في إدارة الأزمات وتحليل الصراع، إن “قرار المملكة المغربية إعادة العلاقات الثنائية مع إسرائيل تم اتخاذه في مناخ إقليمي ودولي شهد تصاعد المطالب الدولية لدفع عملية السلام وإنهاء معاناة الشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال الإسرائيلي منذ عقود، وبالتالي فقد اتخذت المملكة المغربية هذه الخطوة انطلاقا من مواقفها الثابتة إزاء القضايا العادلة في الملف الفلسطيني، بعد دراسة عميقة وتقدير دقيق للوضع الجيو-سياسي الإقليمي والدولي ومدى تأثير هذا القرار على بناء فرص حقيقية للسلام”.
وأوضح أن “هذه الخطوة ليست مجرد إجراء دبلوماسي روتيني كما يتوهم البعض، بل هي خطوة كبرى تهدف إلى تحقيق الاستقرار في المنطقة وتعزيز التعاون بين الشعبين المغربي والإسرائيلي، إذ إن المغرب من خلال تعميق علاقته مع الجانب الإسرائيلي وفق قواعد دبلوماسية واضحة، بإمكانه لعب أدوار طلائعية وفاعلة في سبيل إنجاح فرص السلام في الشرق الأوسط، بسبب العديد من العوامل، أهمها المصداقية والمسؤولية والوضوح، التي تميز الدبلوماسية المغربية، إضافة إلى الحضور الدائم للمغرب في النزاع الفلسطيني الإسرائيلي من خلال الجهود الملكية في هذا الإطار”.
وبين المصرح لهسبريس أنه “طوال مدة العدوان الإسرائيلي على المدنيين في قطاع غزة، حاولت بعض الجهات داخل الوطن وخارجه، خاصة بعض الجماعات الإسلاموية وبقايا اليسار، التطاول على الاختيارات الاستراتيجية للدولة المغربية عبر تمرير دوائر داخلية معروفة رسائلها الملغومة ومواقفها المشبوهة في استخدام مفضوح لمبدأ التضامن مع القضية الفلسطينية واستعمال جثث الأطفال والنساء ومآسي الشعب الفلسطيني لخدمة قضايا سياسوية ضيقة ومآرب انتخابوية بئيسة”.
وأكد أن “المغرب دولة ذات سيادة ومواقف مستقلة مرتبطة بالمصالح العليا للشعب المغربي ومتطلبات الأمن القومي، ولا تقبل بأي حال من الأحوال الإملاءات الخارجية المغلفة داخل قالب وطني من أي طرف، بل إن المملكة المغربية هي في طليعة الدول العربية والإسلامية التي سارعت إلى شجب العدوان الإسرائيلي الغاشم على مدنيي غزة وتقديم المساعدات الطبية والإنسانية، ودعمها الدائم للجهود السياسية لوقف الحرب وإعادة المسار السياسي إلى سكته الحقيقية للبحث عن حل تفاوضي مستدام يضمن العيش الكريم والآمن لجميع شعوب المنطقة”.
وأبرز البراق أن “المبادرات الملكية المغربية لدعم الشعب الفلسطيني تترجم حرص الفاعل المؤسساتي في المغرب على انسجام مواقفه السياسية والدبلوماسية مع المبادئ الدولية لحقوق الإنسان، بعيدا عن المقاربات الجيو-سياسية المتجاوزة والمصالح السياسية الضيقة، إذ إن مبادرات المملكة تجاه فلسطين تقطع الطريق أمام مروجي الفكر العدمي والتيئيسي داخل الوطن وخارجه، وباقي الدوائر الإقليمية والدولية التي تستخدم الدم الفلسطيني المسفوك في غزة كوقود لتحقيق مصالح معينة”.
وخلص الخبير في إدارة الأزمات وتحليل الصراع إلى أن “الشعب المغربي اليوم على وعي متقدم بطبيعة التحديات الجيو-سياسية المطروحة وبصدق المواقف الملكية السامية التي تعكس التزام الشعب المغربي بدعم القضايا العادلة في الملف الفلسطيني، وبزيف مواقف بعض التنظيمات التي تستخدم القضية الفلسطينية كأصل تجاري لتحقيق مكتسبات سياسية”.
المصدر: وكالات