في صيف قائظ لم تعهده البشرية، ما زالت نيران حرائق الغابات تستعر بوتيرة أكثر تدميراً، كما أنها باتت تتردد بأشكال أكثر حدة ومعدلات تواتر أقوى، ليس فقط في المغرب، بل صارت ظاهرة لازمة لمختلف غابات دول الحوض المتوسطي، حاملة معها أسئلة “حارقة” بخصوص استراتيجية وكيفيات تعويض الغطاء النباتي والغابوي.
ورغم أن حرائق صيف السنة الجارية تظل “أقل حدة” بشكل عام من حرائق 2022، في ظل إجهاد هيكلي تعيش على إيقاعه المملكة منذ سنوات، تتواصل موجات الحرائق في حصد مزيد من الأراضي الغابوية والمجالات الحيوية التي تضمن التوازن الإيكولوجي والتنوع البيولوجي للمملكة.
ويزداد إلحاح التساؤل حين العلم أن المغرب يتوفر على “ثروة غنية ومتنوعة” من النباتات تناهز 4200 صنف، منها 600 نبتة ذات خصائص طبية وعطرية، بشكل يجعل المملكة تتبوأ مراتب متقدمة عالمياً (المرتبة الثانية عالميا بعد تركيا حسب أرقام تعود إلى عام 2021).
رغم أنها تقتضي وقتاً يصل إلى 30 عاما لاستعادة الأشجار (و150 سنة لإعادة الحياة إلى المنظومة الغابوية)، إلا أن إعادة تشجير المجالات الغابوية تعد ضمن الحلول التي تحاول إعادة التوازن إلى النظم الإيكولوجية للغابة، بعد أن تأتي الحرائق على أصناف نباتية وأشجار نادرة، وفي بعض الأحيان أصناف من الحيوانات التي تستوطنها، فضلا عن نباتات طبيعية عطرية تُستخدم بعض أنواعها في صناعات طبية وتجميلية.
وتطال أغلب الحرائق المشتعلة هذا الصيف مجالات غابوية متنوعة شمال المغرب؛ فمثلا قاربت المساحة المتضررة من حريق “غابة مغراوة” نحو 600 هكتار (حسب أحدث حصيلة رسمية)، أغلبها أشجار تنتمي لأصناف “البلوط الأخضر والصنوبر الحلبي والتشكيلات الغابوية الثانوية من الأعشاب والنباتات”، وفق إفادات سابقة للمديرية الإقليمية للوكالة الوطنية للمياه والغابات.
التدهور والإحياء
تفاعلا مع الموضوع، أكد رشيد فاسح، باحث إيكولوجي في مجال البيئة والتنمية المستدامة رئيس جمعية “بييزاج” لحماية البيئة بأكادير، أن “الملاحَظ خلال السنين الأخيرة هو نشوب حرائق غابوية وفي الواحات كذلك بوتيرة أسرع مما كانت عليه، متأثرة بوضوح بعوامل التغير المناخي واحترار الأرض والمحيطات”.
وأفاد الخبير الإيكولوجي ذاته، في حديث لهسبريس، بأن “تدهور الغطاء الغابوي بالمغرب يطال 17 ألف هكتار سنويا لأسباب عدة؛ أبرزها الحرائق والتغيرات المناخية”، لافتا إلى “تباين واضح في جهود إعادة الإحياء، لا سيما إعادة التشجير التي لا تتجاوز نسبة 48 في المائة”.
وتابع مستحضرا أن “أقاليم جهة الشمال (طنجة-تطوان-الحسيمة) هي التي تتركز فيها النسبة الأكبر من الحرائق الغابوية على مساحات شاسعة، إجمالا 881 هكتاراً، بمقدار 68 حريقا، ما يمثل نسبة 70 في المائة من مجموع المساحات التي طالتها الحرائق بالمغرب، تليها جهة سوس ماسة (لا سيما تارودانت) بحوالي 190 هكتارا (15% من الإجمالي)”.
استدراك الأضرار
فاسح أكد في معرض تصريحه أن القطاع الوصي على الغابات يقول إن “المغرب يسعى في محاولات جاهدة لاستدراك حوالي 30 عاما من التدهور الغابوي”، مسجلا أنها “فترة زمنية طويلة ليس من السهل تعويضها نظرا لظروف شح التساقطات وتوالي الجفاف، ما يجعل عمليات إعادة التشجير تستلزم مواكبة وإشراكا لأطراف أخرى؛ أبرزها الساكنة المحلية”.
“عمليات إعادة التشجير تصطدم في المغرب بصعوبات شتى، تتنوع وتتداخل ما بين مناخية وبشرية وتنموية”، يشدد الناشط البيئي ذاته، مؤكدا أهمية “التحسيس والتوعية في الفترات التي تعرف زيارات مكثفة إلى الغابات قصد الاستجمام والنزهة”.
وأشاد المتحدث بمضامين “استراتيجية وطنية وضعتها وكالة المياه والغابات في أفق عام 2030 تستهدف غرس وإعادة تأهيل مساحات غابوية تقدر بما بين 50 ألف و100 ألف هكتار”، مشددا على “حتمية إشراك الساكنة المحلية المجاورة للمجالات الغابوية بالمغرب؛ لأن ذلك رهين بنجاح أي مبادرة في هذا الصدد لتفادي التدهور السريع والاستغلال المفرط للأشجار وتفادي تلفها”.
أما بخصوص الأعشاب العطرية والطبية، فأورد فاسح أن “أول إشكال يتهددها، فضلا عن قطعها واجتثاثها الجائر، هو الحرائق التي تساهم في تدهور التنوع البيولوجي، نظرا للحيوانات التي تتغذى عليها، ما يضرّ بمنظومة حياتية برمتها”.
وتوقع الخبير البيئي ذاته أن “ترتفع حدة الحرائق المستعرة وتشتد في السنوات القادمة، لا سيما أن إطفاءها يُجابه بندرة نقط المياه التي تزداد شحّاً ومسالك وعرة ومنحدرات خطيرة”، موصيا بالتأقلم مع هذه الظواهر وزيادة الجهود الرسمية والمدنية في هذا الإطار.
برامج خاصة
من جهته، أكد مصدر مسؤول من وكالة المياه والغابات بجهة الشمال أن “الحصيلة الإجمالية للأراضي الغابوية المتضررة من موجة حرائق هذه السنة، تظل قيد التجميع”، مستدركا بالقول: “إلا أن استراتيجية غابات المغرب 2020–2030 تتضمن شقاً مهماً يواكب فضلا عن منظومة الرصد والتتبع والتدخل لإخمادها، جهود إعادة الاعتبار وتأهيل المجالات الغابوية بكل تشكيلاتها النباتية”.
وأوضح المصدر عينه، في حديث لهسبريس، أن “هناك برامج مخصصة في هذا الصدد بميزانيات مرصودة لإعادة التشجير أو الاستنبات، بعد إيفاد لجان مختصة في تحديد نوعية الأضرار ومدى الخسائر”، مفيدا بأن “أشجار الصنوبريات، مثلا، تستدعي إحياءً بشكل جزئي، مقابل أنواع أخرى من أصناف الأشجار تتطلب وقتا أطول، بينما النباتات الثانوية والأعشاب أغلبها يتجدد بشكل تلقائي/ذاتي في تفاعل مع باقي مكونات الحياة البيولوجية”.
المصدر: وكالات