قدم لحسن حداد، الخبير في الدراسات الاستراتيجية الوزير الأسبق، تحليلا لتطور الاقتصاد العالمي ووصفا لما يعيشه اليوم من عدم الوضوح وتوالي المخاطر وتعاقب عوامل الاضطراب، مستحضرا التوجهات العامة التي قد تؤثر في تطور الاقتصاد العالمي خلال السنوات الست المقبلة.
وأشار الكاتب المغربي في مقال توصلت به هسبريس بعنوان “تراند 2030، مخاطر وسيناريوهات”، إلى أن “الاقتصاد العالمي ستتربع على عرشه الصين متبوعة بالولايات المتحدة، ثم الهند في المركز الثالث، واليابان في المركز الرابع وإندونيسيا في المركز الخامس وروسيا في المركز السادس”، لافتا إلى أن “الوضعية الحالية وتوقعات النمو من سنة لأخرى وتأثير التوجهات المستقبلية العامة تحيل على سيناريوهات لتطور الاقتصاد العالمي في أفق 2030″، مستشهدا بـ “أربع سيناريوهات مُحتمَلة وواقعية صادرة عن معهد ماكينزي لتطور الاقتصاد العالمي في أفق 2030”.
نص المقال:
يمر الاقتصاد العالمي بفترة تتسم بعدم الوضوح وتوالي المخاطر وتعاقب عوامل الاضطراب من جهة، وفترات التعافي القصيرة من جهة أخرى، منذ ما يقرب من أربع سنوات. هكذا فرغم صمود الاقتصاد الدولي في الوقت الحالي، فإننا نعيش فترة لا يقين وترَقُّبٍ غير معروفة العواقب. نعم، الصلابة الاقتصادية حاضرة رغم الضغوط النقدية للبنوك المركزية، كما أن “الحروب والتحولات المناخية تهدد التنمية المستدامة”؛ هذا في وقت يستمر فيه “سوق الشغل في الحفاظ على قوته رغم ضغط الرفع من أسعار الفائدة”، في وقت مكَّنت الانخفاضات التي عرفتها “معدلات التضخم من الحد من ارتفاع أسعار الفائدة” (المعهد الدولي للتنمية المستدامة، “تقرير الأمم المتحدة يتوقع تباطؤ النمو وتدهور التضخم”، 10 يناير/كانون الثاني 2024). صلابة ومناعة الاقتصاد الدولي باديتان للعيان ولكن المخاطر لا يجب الاستهانة بها.
تباطؤ النمو في 2024 (2.4%)، وتذبذب تطور الرأسمال الثابت وتعثر نمو التجارة الدولية (0.6 فقط في 2023 مقابل 3% في 2022)، (المصدر نفسه) هي نتائج حتمية لضعف إنجاز اقتصاد المنطقة الأوروبية (باولا طاما، “الاتحاد الأوربي يخفض توقعات النمو والتضخم لـ2024”-فاينانشال تايمز، 15 فبراير/شباط 2024)، واحتمال دخول اقتصاد الولايات المتحدة فترة كساد حقيقية في 2024 (أروني صوني، “الاقتصاد الأمريكي سيدخل فترة كساد في أواسط 2024”-بيزنيس إنسايدر، 15 فبراير/شباط 2024). هذا في وقت تعرف فيه اقتصادات الصين (+5% في 2023) والهند (+6%) وروسيا (3،6%) وأندونيسيا (5%) نموا ملحوظا ومضطردا.
هل هذه تحولات ظرفية أم عميقة؟ للإجابة، دعونا ننظر إلى التوجهات العامة (“التراندز”) التي ستؤثر في تطور الاقتصاد العالمي خلال السنوات الست المقبلة. سيصل عدد سكان المعمور إلى حوالي 8.5 مليار نسمة، حسب الأمم المتحدة، وسترتفع نسبة الشيوخ في المجتمعات (خمس سكان أوروبا يتجاوزون الخامسة والستين من عمرهم، حسب مكتب إحصائيات البرلمان الأوروبي)، بينما ستستمر الحرارة في الارتفاع (براد بلومر، نيو يورك تايمز، 20 مارس/آذار 2023)، وستصل نسبة سكان المدن 60% (الأمم المتحدة)، بينما سيصل عدد الآلات المتصلة بالإنترنيت 125 مليارا مقابل 27 مليارا في 2017 (حسب موجز “شبه الموصلات”)، وسيستحوذ 1% الأكثر ثراءً على ثلثي ثروة العام (مايكل صافيدج، الغارديان، 7 أبريل/نسيان 2018). أما الاقتصاد العالمي فستتربع على عرشه الصين متبوعة بالولايات المتحدة، فالهند في المركز الثالث، واليابان في المركز الرابع وإندونيسيا في المركز الخامس وروسيا في المركز السادس (معهد لووي، ترتيب القوة الآسيوي، “ترتيب القوة الاقتصادية لـ2030).
الوضعية الحالية وتوقعات النمو من سنة لأخرى وتأثير التوجهات المستقبلية العامة التي سردناها أعلاه، تعطينا سيناريوهات لتطور الاقتصاد العالمي في أفق 2030. معهد ماكينزي وضع أربعة سيناريوهات لتطور الاقتصاد العالمي في أفق 2030 كلها مُحتمَلة وواقعية، مع أن الاختلاف فيما بينها كبير ومهم كما سنبين أسفله.
السيناريو الأول هو ما سماه خبراء ماكينزي “تكرار أداء الاقتصاد العالمي”، ويعني الرجوع إلى وضعية 2000-2020 حيث “انخفاض حالات الاضطراب” وتتميز بـ”ارتفاع المدخرات” و”ضعف الاستثمار” وليونة نسبية لسوق الشغل وضعف التضخم وانخفاض أسعار الفائدة. في ظل هكذا سيناريو، تظل “الإنتاجية والنمو ضعيفين”، بينما ترتفع الثروة ولكن “على حساب إنتاج اقتصادي حقيقي”، وهو ما يعني تفاقم التفاوتات بين الأغنياء والفقراء. هذا سيناريو محتمل جدا، خصوصا في ظل تدخل البنوك المركزية لخفض التضخم، ولكنه سيكون أكثر حدة، حسب رأيي، خصوصا في ظل الاضطراب الذي عرفته سلاسل الإنتاج والتوزيع بعد كورونا.
أما السيناريو الثاني، فسيسجل بموجبه الاقتصاد العالمي نوعا من التضخم المقرون بالركود كما حصل في السبعينات من القرن الماضي. وهذا يقتضي معدل فائدة قد يصل إلى حوالي 4%، وهو ما سيؤدي إلى انهيار “قيمة الأصول على مستوى العقار والبورصة”، ويجعل البنوك في وضعية حرجة، تحاول بمقتضاها المزاوجة ما بين “محاربة التضخم من جهة، والحفاظ على الاستقرار المالي من جهة أخرى”.
ورغم أن “الاستهلاك يظل مرتفعا”، إلا أن “النمو يبقى محتشما”، وتتطور “مكاسب المقاولات بشكل بطيء”، بينما يؤدي عدم الاستقرار إلى “اضطرابات في الأسواق” وتدهور “ثروة الأسر”. هذا سيناريو محتمل جدا، خصوصا وأن ما يقع في أوكرانيا وغزة ومخلفات كوفيد-19، يُذكِّر، حسب رأيي، بحرب فيتنام والصدمة البترولية وواتيرغايت والحرب الباردة وغيرها، مع وجود فارق هو صعود نجم الشعبوية الرقمية وغير الرقمية و”الفايك نيوز”، وهو ما يجعل هذا السناريو واردا بشكل قوي.
أما السيناريو الثالث، فهو يشبه ما حصل في التسعينات من القرن الماضي في اليابان حين انهارت “الفقاعة العقارية” وفقاعة الأسواق المالية، وفقد الناتج الداخلي الخام 20% من قيمته. هذا ما يسمى “العشرية المفقودة”. وهو عقْدٌ تميز، حسب ماكينزي، بالكساد والركود، مما كانت له آثار سلبية على “الثروة، والمداخيل والاستقرار المالي”. وحسب هذا السناريو، فإن “السياسة النقدية تتشدد من أجل خفض التضخم”، وهو ما يؤدي إلى “انخفاض حاد في قيمة الموجودات”، كما يجعل المؤسسات في وضعية حرجة.
و”تقليص حجم المديونية الذي يطول أمده يدفع الأسر إلى أداء الديون بدل الإنفاق”، وهو ما يقلص الاستهلاك ويؤثر سلبا على الدورة الاقتصادية. هذا السيناريو، في رأيي، وارد جدا، خصوصا وأن الاقتصادات المحلية التي تعرف فقاعة عقارية (زوريخ وطوكيو وميامي وميونيخ وهونغ كونغ) وكذا تنامي فقاعة قيم أسهم “الذكاء الاصطناعي” الحالية، قد تنذران بانهيارات تكون لها آثار سلبية على الوضعية الاقتصادية.
السناريو الرابع هو وحده “الذي يعني نموا في المداخيل والثروة” في الوقت ذاته. وهذا يتأتى لأن “الاستثمار سيظل في ارتفاع مستمر” وسيتم استعمال “الذكاء الاصطناعي الإنتاجي للرفع من الإنتاجية”. ووفقا لهذا، “سيؤدي النمو إلى ارتفاع ثروة الأسر بـ16 تريليون دولار في الولايات المتحدة وحدها”. بمقتضى هذا السناريو، يبقى التضخم متحكما فيه ولا “يزيد معدل الفائدة عن 1%، وهو ما يعني التركيز على “الرأسمال المنتج”. ويؤدي هذا السيناريو الوردي إلى “استقرار الاقتصاد ومناعته”، و”تنخفض الودائع” وتجد البنوك المركزية نفسها في أريحية “للتخفيف من التشديدات النقدية”.
هذه كلها سيناريوهات واردة وواقعية (حتى السناريو الرابع). القاسم المشترك بين السيناريوهات الثلاثة الأولى هو حدة المخاطر. وهذه المخاطر تكمن في استمرار تدهور سلاسل الإنتاج والتزود، والحروب في أوكرانيا وفلسطين وربما في بحر الصين مستقبلا، واستمرار ارتفاع الفاتورة البيئية، خصوصا مع الارتفاع المضطرد للحرارة، وتفاقم الحروب التجارية. أضف إلى هذا أن صعود السياسات الحمائية، خصوصا في ظل تجدد النزعات القومية والشعبوية في مختلف مناطق العالم، وتفاقم التفاوتات بين الأغنياء والفقراء، وغيرها، ستزيد من حدة المخاطر واستفحالها.
لهذا، فما على الشركات القيام به هو توطيد المناعة ضد هذه المخاطر عبر تقوية “الأصول الرئيسية” وتقوية البيانات المالية الدورية (ماكينزي). في رأيي كذلك، يجب دعم التنظيم الداخلي للمقاولات، وتحفيز انخراط العاملين في إيجاد الحلول، وسن حكامة صارمة وثقافة ناجعة وتوقعية لتدبير المخاطر.
أما الحكومات، فعليها التحكم في التوازنات الماكرو-اقتصادية، وتوطيد سياسات جبائية محفزة وناجعة وعادلة، وإعادة توزيع الثروة للخفض من الفوارق، ودعم الانتقال الرقمي والطاقي، وضمان الأمن الصحي والمائي والغذائي، مع الخفض من الفاتورة البيئية. على أن تواكب هذا، حماية أقوى للمستثمرين، وتحسين حكامة ونجاعة المؤسسات، وتوخي الشفافية والعدالة في الولوج إلى المعلومة وتوطيد ثقة المواطن في المؤسسات، وفتح سوق الشغل وجعله أكثر قدرة على إدماج أكبر عدد ممكن من الشغيلة، خصوصا النساء والشباب. حتى في حال الوصول إلى السيناريو الرابع، فإن التقليل من المخاطر كفيل بضمان ديمومة النمو والازدهار وتأثيره الايجابي على حياة المواطنين.
المصدر: وكالات