أبرز لحسن حداد، خبير في الدراسات الاستراتيجية وزير أسبق، الضرورة الاقتصادية لإدماج المرأة في سوق الشغل ومراكز القيادة، مشيرا إلى أن “الميزات التي تأتي بها المرأة حين تتبوأ مركز القيادة هي قدرات جوهرية تكون لديها لا لغيرها بحكم كونها امرأة، ولكن لأن تجربتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في المجتمع مختلفة وفريدة”.
ونبه حداد، في مقال له، إلى أن “المطلوب من الدول العربية هو تحسين جاذبية القطاع الخاص بالتركيز على المساواة في الأجور واحترام الحد الأدنى للأجور ومكافأة المقاولات التي تضع النساء في مواقع المسؤولية الوسطى والعليا”، داعيا في الوقت ذاته إلى “تحرير نصف المجتمع من القيود التي تقف أمام مساهمته في ازدهار ونمو اقتصادات البلدان العربية وتحصنيها من المخاطر وأسباب التخلف والركود”.
هذا نص المقال:
تحقيق الإنصاف تجاه المرأة ليس فقط مسألة أخلاقية أو سياسية ترتبط بضرورة تحقيق العدالة الاجتماعية عبر مقاربة النوع في المجتمعات المعاصرة، إنه ضرورة اقتصادية بامتياز، أي إن المجتمعات التي تحقق إدماجا أكثر وأحسن في سوق الشغل وفي المناصب القيادية تحقق مكاسب اقتصادية مهمة، كمية ونوعية، بينما المجتمعات التي تتلكأ في تحقيق المساواة والمناصفة تخسر الكثير على مستويات النمو وخلق الثروة واستحداث مناصب الشغل.
في دراسة لكاطاليست، وهي منظمة تعمل مع الشركات الكبرى منذ عقود لتحقيق المناصفة داخل إدارات الأعمال والمقاولة، تم التوصل إلى حقيقة مفادها أن شركات فورتشين 500 التي تتم ترقية النساء فيها إلى مركز القيادة تحقق عائدات للمساهمين مرتفعة بنسبة 35% مقارنة مع الشركات التي تحقق أدنى نسبة لمشاركة المرأة في مراكز القيادة (الوكالة الأمريكية للتنمية، برنامج إدخال مقاربة النوع في الصناعة، “الهدف الاقتصادي من الإدماج المبني على النوع” 2023). وهذا يعني أن المرأة تأتي إلى مركز القيادة بكفايات ومؤهِّلات تدبيرية مختلفة تعطي غِنىً إضافيا لإدارة الأعمال، وهي القيمة المضافة التي تُتَرجَم بربائح إضافية للمساهمين.
وهذا لا يعني أن الميزات التي تأتي بها المرأة حين تتبوأ مركز القيادة هي قدرات جوهرية تكون لديها لا لغيرها بحكم كونها امرأة، ولكن لأن تجربتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في المجتمع مختلفة وفريدة وتولدت عبر مسلسل طويل من رفع التحدي في وجه بيئة ثقافية تتميز بالقوالب الجاهزة والنظرة الأبيسية والبطريقية التي تقف في وجهها، وهو التحدي الذي يعطي طعما خاصا للإنجاز والنجاح، ويُترجَم على مستوى القيادة إلى كفايات فريدة تُغْنِي مهارات التدبير بشكل نوعي وكمي ملحوظ.
من جانبها تقول “فورين بوليسي أناليتيكس” (وهي القسم المستقل لفورين بوليسي المتخصص في تحليل المعطيات) بأن “الشركات الخمس والعشرين الأولى التي يسيطر عليها الذكور والتي تدبرها قيادة مكونة من الرجال والنساء تحقق أرباحا بنسبة 47% أكثر من الخمس والعشرين شركة الموجودة في أسفل السلم” (“المرأة كعامل من عوامل التغيير: تحرير طاقات المرأة في تحقيق التغيير المنشود في المقاولات التي يسيطر عليها الذكور”). ليس هذا فقط، بل إن الدراسة وجدت أن الشركات التي تتبنى سياسة الإدماج المبني على النوع تقلص من التأثير السلبي على المناخ، وتطور مسؤوليتها الاجتماعية بشكل ملحوظ، وتخلق ثقافة داخلية مبنية على الاندماج والتنوع والمناصفة، وهي كلها أبعاد تعطي أكلها على مستوى الإنتاجية والعلاقة مع الزبائن وتحفيز الموارد البشرية، وعلى الأرباح بشكل عام.
من جانب آخر، استنتج تقرير لمعهد ماكنزي العالمي أنه “يمكن إضافة 12 تريليون دولار إلى الناتج المحلي الإجمالي العالمي بحلول عام 2025” من خلال تعزيز إدماج المرأة وتحقيق المناصفة بين الجنسين والعمل على الحد من الفجوات فيما يخص مراكز القيادة والراتب وغيرها. أي إن الدول والمقاولات التي تستثمر في إدماج المرأة في سوق الشغل ولا تكرس الفوارق فيما يخص الرواتب بين الذكور والإناث وتعطي للنساء حظوظا في تقلد مناصب المسؤولية وإدارة الأعمال، ستحس بتطور ملحوظ في ناتجها الداخلي الخام.
ينمو الناتج الداخلي الخام حين تتطور “السلع الرأسمالية، وسوق الشغل، والتكنولوجيا، والرأسمال البشري” (“كيف ينمو الناتج الداخلي الخام؟” إنفاستوبيديا). وفي هذا الإطار، تحاول كثير من الدول، خصوصا العربية منها، الاعتماد على السلع الرأسمالية (أي الاستثمار عبر الرأسمال الثابت) واستيراد الحلول التكنولوجية، ولكنها لا تتخذ إجراءات لفتح سوق الشغل في وجه النساء ولا تطور رأسمالها البشري بالشكل المطلوب.
هكذا نجد أن نسبة إدماج المرأة في سوق الشغل في الدول العربية لا تتعدى 19% مقارنة مع المستوى العالمي الذي يصل إلى 47% ومعدل الدول منخفضة ومتوسطة الدخل الذي يصل 46% (حسن شرّي، ربيكا متري ومريم تحصلدار “دوافع مشاركة المرأة المنخفضة في القوى العاملة في العالم العربي، السياسية-الاقتصادية مقابل الثقافية”). هذا يعني أن الدول العربية سوف لن ترى اقتصاداتها تتطور بشكل يضاهي الدول الغربية والدول الآسيوية وحتى الدول الإفريقية والأمريكية، لأن أربعة أخماس النساء في العالم العربي لا يساهمن في الدورة الاقتصادية.
العوامل متعددة، منها ما هو ثقافي وما هو تشريعي وما هو سياسي (غياب البرامج المحفِّزة). ولكن أغلب العوامل اقتصادية في نظري. حين لا يتم إعطاء المرأة مسؤوليات عليا في الإدارة العمومية، فهذا حيف على مستوى الترقية يكون له تأثير سلبي على رواتب النساء داخل الإدارة العمومية. لهذا، فحتى في الإدارات العمومية المنتظر منها أن تعامل الرجال والنساء سواسية، فإن التمييز بنيوي: رواتب أساسية متشابهة ولكن الرجال يستفيدون من الترقية أكثر من النساء وهذا يخلق حيفا على مستوى الراتب كذلك.
يعرف القطاع الخاص حيفا أكبر حيث يتم تفضيل النساء عن الرجال في بعض الأعمال اليدوية (كالنسيج والصناعات الغذائية وغيرها) ولكن أجورهن تكون أقل من الحد الأدنى للأجور ولا تتم ترقيتهن إلى مراتب مراقبات أو مشرفات على الإنتاج (ما يسمى بالتسيير الوسطي) ما بالك إلى المراتب العليا على مستوى القيادة. لهذا، فجاذبية القطاع الخاص (مصدر الشغل في كل الاقتصادات الحرة) متدنية في الدول العربية.
أضف إلى هذا أن الوظائف التقنية في القطاعات التي تتطلب مهارات هندسية متطورة هي حكر على الرجال دون النساء، لأنه يتم توجيه المرأة نحو قطاع الخدمات، ولأن تدريس العلوم والرياضيات والتكنولوجيا يعتبر مسألة ذكورية في كثير من الدول العربية. لهذا، فوجود المرأة المتدني في وظائف مسؤولات تقنيات متدنية نظرا لتدني العرض (عدد النساء المهندسات مثلا) والطلب (الإيمان بأن الرجل هو الأصلح في الوظائف التقنية الميدانية المعقدة).
لهذا، فالمطلوب من الدول العربية هو تحسين جاذبية القطاع الخاص بالتركيز على المساواة في الأجور واحترام الحد الأدنى للأجور ومكافأة المقاولات التي تضع النساء في مواقع المسؤولية الوسطى والعليا وتستثمر في تحسين شروط العمل بتوفير مرافق خاصة بالنساء، سواء فيما يتعلق بالرضاعة أو دور الحضانة داخل مكان العمل والمرافق الصحية الخاصة وغيرها. يجب كذلك وضع تشريعات تطلب من المقاولات، خصوصا الكبرى منها، أن تضع تقارير سنوية حول ردم الهوة بين الرجال والنساء على كل المستويات: عدديا، وعلى مستوى الأجور، وعلى مستوى تحمل مناصب المسؤولية في الإنتاج والتدبير الوسطي والقيادة العليا.
على الدول العربية أن تستفيد من الخزان الكبير الذي تمثله المرأة، خصوصا في وقت تم فيه تعميم التعليم وتوسيع الولوج إلى الجامعة. ردم الهوة التي تفصل الدول العربية عن الدول الأخرى سيتطلب سنوات ولكنه لا يتأتى إلا بسياسة إرادية تتضمن التمييز الإيجابي، والاستثمار في جاذبية القطاعات المشغلة وتعزيز المساواة في الأجور والفرص.
إدماج المرأة ضرورة اقتصادية ستساهم على المدى البعيد بحوالي نقطتين إضافيتين في النمو الاقتصادي في الدول العربية. لا يجب هدر هذه الفرصة عبر نقاشات عقيمة حول دور المرأة في المجتمعات العربية عمَّرت لوقت طويل. علينا أن نحرر نصف المجتمع من القيود التي تقف أمام مساهمته في ازدهار ونمو اقتصادات البلدان العربية وتحصنيها من المخاطر وأسباب التخلف والركود.
المصدر: وكالات