“ثورة ثقافية هادئة بامتياز” عرفها تدبير ملف الأمازيغية بالمغرب، وفق أحدث كتب الباحث مصطفى عنترة، الصادر بعنوان “المسألة الأمازيغية بالمغرب من المأسسة إلى الدسترة”.
يقدم هذا المؤلف الذي وصفه أستاذ علم السياسة عبد اللطيف أكنوش بـ”القيّم”، محطات التدبير الرسمي لـ”المسألة الأمازيغية” بالبلاد، ودلالاتها، ومسار تدبير التعدد اللغوي والثقافي بالمملكة، وآلياته، مع تحوله إلى “قضية دولة” و”أحد المداخل الجوهرية للانتقال إلى المجتمع الديمقراطي”.
وقال عنترة إن الخطاب الملكي بأجدير سنة 2001 فتح “أفقا جديدا أمام الأمازيغية كلغة عريقة وعمق ثقافي ومكون هوياتي أساسي وحضارة ممتدة في التاريخ، ابتدأ بالاعتراف الرسمي بالأمازيغية وبمأسستها عبر إحداث المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، واختيار أبجدية تيفيناغ العريقة لكتابتها، ووصل في مراحله إلى إدماجها في المنظومة التربوية والإعلام والفضاء العام”.
وتلا ذلك النص على الأمازيغية “لغة رسمية ضمن إطار يقر بشرعية التعدد اللغوي والتنوع الثقافي والهوية المتعددة”، وعلى “قانونين تنظيميين يحدد أحدهما مراحل تفعيل طابعها الرسمي، وينظم الآخر المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية، كإطار دستوري مرجعي يضطلع بمهمة اقتراح التوجهات الاستراتيجية للدولة في مجال السياسة اللغوية والثقافية (…) وتم الشروع في تفعيلها على أرض الواقع عبر تدابير وإجراءات حكومية”.
هكذا شهد العقدان الماضيان “ثورة ثقافية هادئة” مكنت المغرب “من وضع الأسس الدستورية والقانونية والمؤسساتية لمعالجة الإشكالية الثقافية، وبناء نموذج متفرد بها في تدبير التعدد اللغوي والتنوع الثقافي بمنطقة شمال إفريقيا”، بمبادرة استمدت فعاليتها من كون “المؤسسة الملكية قوة أساسية في النظام السياسي، تلعب دور الفاعل المركزي المتضمن لكل السلط، مع الاعتراف بباقي الفاعلين في حدود عدم منازعتهم في شرعيتها الدينية والتاريخية والسياسية”.
تم هذا، وفق الكتاب، لأن “الملكية تحرص على تجميع كل المشروعيات، وضبط التحكم في كل المجالات المنافسة، وتوسيع وتجديد التحالفات الاجتماعية بهدف الحفاظ على موقعها وتكريس دورها كفاعل مركزي داخل المجتمع”، علما أن “البعد الثقافي الأمازيغي ليس غريبا على المؤسسة الملكية؛ ذلك أن الملك محمدا السادس اعتبر نصف أصوله أمازيغيا”، في حوار سابق مع مجلة فرنسية.
ويرى المؤلف أن الملك قد وضع نفسه في السنوات العشرين الأخيرة في مرتبة “الأمازيغي الأول”، ناقلا الأمازيغية من “قضية مجتمع إلى قضية دولة”؛ فـ”الأمازيغية تعد من بين الأوراش الهامة التي باشرها الملك بعد خلافته لوالده الراحل الحسن الثاني، شأنها في ذلك شأن قضايا المساواة بين الرجال والنساء، والنهوض بحقوق الإنسان، وتحقيق العدالة الانتقالية، وإصلاح وتحديث الحقل الديني، وإطلاق مبادرة الحكم الذاتي للأقاليم الجنوبية للمملكة”.
ويشرح كتاب “المسألة الأمازيغية بالمغرب” منهجية معالجة الملف مغربيّا، قائلا إنها متعددة الأبعاد، أولها “بعدٌ مؤسساتي دعم المدخل الدستوري للاعتراف بالثقافة الأمازيغية، وبعدٌ اشتغل وفق مرجعية تقليدية تمنح للملك صلاحيات الإشراف على رسم وتحديد مهام وأدوار المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، كقناة رسمية لتدبير هذا الموروث الثقافي”.
وجاء بعد ذلك تسييج الأمازيغية “ضمن إطار ثقافي، يروم تحويل ونقل السلوك الاحتجاجي للفاعل الأمازيغي إلى إطار مؤسساتي حاضن، وجعله يشتغل إلى جانب الملك، في تقديم المشورة لتدبير هذا الملف”، يليه “بُعدٌ تشاركي في ارتباطه بباقي الفاعلين مع الحرص على إشراكهم في القضايا الاستراتيجية”، مع “التدرج والحذر”، المستحضر لأخطاء تجارب تدبير الملف في المحيط المغاربي.
إذن، توالت هذه التحولات “وفق مقاربة مدروسة” من المؤسسة الملكية، وساعدت في ذلك المتغيرات الإقليمية والدولية” ولعبت فيه “الحركة الأمازيغية كقوة مدنية مستقلة، وحقوقية، واحتجاجية، وهوياتية دورا ضاغطا، كما ساهمت في إثارة ونشر وعي ثقافي وسياسي حول أهمية الأمازيغية داخل المجتمع، يستند في أسسه إلى معطيات تاريخية وجغرافية وفكرية وثقافية، مما جعل الأمازيغية تبرز كعنوان للشخصية المغربية (تمغربيت)”.
و”اضطرت” هذه الخطواتُ “غالبية الأحزاب السياسية إلى مراجعة طروحاتها، وتبني مواقف إيجابية من المطالب الأمازيغية، خصوصا بعد الخطاب الملكي التاريخي بأجدير”.
وفي محاولة تفسير عدم اهتمام المؤسسة الملكية بالتعدد اللغوي في بداية الاستقلال، ذكر الكتاب أن “أولويات بناء (الدولة الوطنية) المستقلة كانت تفرض، حينها، من المجتمع إظهار الوحدة والإجماع والتماسك، ولو على حساب تعدديته، ولهذا ظل هذا الموضوع مؤجلا إلى حين نضج كامل الشروط الملائمة”.
وواصل شارحا: “لم يقبل الملك الراحل الحسن الثاني (الاعتراف السياسي) بالمكون الثقافي الأمازيغية؛ لأن هذا الموضوع ينتمي إلى بنية ثقافية وحقوقية تعددية، في حين أن الثقافة السائدة كانت ذات طابع إجماعي، بالرغم من كون شعار (الوحدة في التنوع) كان العنوان الأبرز للفاعل الأمازيغي”، لكن “جاء تفكير المؤسسة الملكية في معالجة موضوع الأمازيغية بفعل تحولات كبرى عاشها المجتمع الدولي، وخوفا من إعادة إنتاج مآسي التجربة الجزائرية، واستجابة لضغط الفاعل الأمازيغي، وبُعد رؤية ملكٍ في التصالح مع النصف الآخر من أصوله”.
ولا ينفي الكتاب أن “التأخر الكبير” لمدة نصف قرن تعاني منه الأمازيغية، لكونها “كانت مهمشة وخارج المؤسسات”، لكنه يدافع عن فكرة مفادها أنه “في ظل اعتراف دستور 2011 بالأمازيغية، لتدارك هذا التأخر كان من الضروري اعتماد مقاربة تمييزية بشكل إيجابي”.
المصدر: وكالات