لم تُبادر السّلطة العموميّة إلى “قمع” أيّ احتجاج ميدانيّ لرجال ونساء التعليم الغاضبين منذ المصادقة على النظام الأساسي الخاص بموظفي قطاع التربية الوطنية، في أكتوبر 2023 الماضي؛ كما لم تمنع الدولة المغربية أي وقفة تضامنية مع الشعب الفلسطيني، منذ العملية التي عرفت إعلاميّا بـ”طوفان الأقصى”، بعدما اشتَكت فعاليّات حقوقية سابقاً من كون المغرب “يضيّق الخناقَ على هذا التّضامن”.
وقدّم المغرب، إذن، نموذجاً لبلد “يُحاول استيعاب الغضب الذي يُصرّف في الشوارع سلميّا”، وألاّ يكون هناك أيّ “شكل للقمع الميدانيّ الذي لازم وقفات كثيرة في السنوات الأخيرة، بشكل أهان المُحتجّين بأشكال مُختلفة”، الأمر الذي أبرز أن “الدّولة المغربية صارت تتّجه نحو مراجعة تدريجية لتعاملها مع الاحتجاج الحضاريّ”، رغم أن تحليلات أخرى “لا تنطلي عليها هذه الأطروحة”، وتدفع بأن “المغرب لا يحرجه الاحتجاج، بل يخشى انتقال عدواه”.
خبرة مؤسساتية
عبد الحميد بنخطاب، أكاديمي ومحلل سياسي مغربي، اعتبر أن “الاحتجاجات في الشارع التي قلنا إنها شهدت خفوتاً كبيراً عادت بقوة في الفترة الأخيرة لتبرهن على الخبرة التي راكمتها الجهات الرسمية في التعامل مع غضب الشارع”، مؤكداً أن “المغرب صار واعيا بضرورة السماح للغاضبين بالاحتجاج مادامت أنماطه راقيّة وحضارية وعادية”.
وأشار بنخطاب، ضمن قراءته للموضوع، إلى أن “الاحتجاجات في المغرب شهدت، بنفسها، تحوّلا في بنياتها الأساسية، بحيث لم تعُد كما السّابق مركزية ومنحصرة في المدن الكبرى، بل صارت احتجاجات فرعيّة وترابيّة وقطاعية فكّكت النظام القديم للاحتجاج”، مسجّلا أن “هذا الشّكل الجديد أصبح مقبولاً من طرف الدولة بشكل يمكن التغاضي عنه ويمكن تحمّله، وهو ما نجم عنه تحوّل في تعاطيها مع تدبير الفعل الاحتجاجي”.
وأوضح المتحدث عينه أن “عدم التّعاطي مع الاحتجاجات بالعنف مهما كانت حدّة شعاراتها يخدُم الملف الحقوقي للمغرب”، مؤكداً أن “المغرب يحاولُ استدماج مقولات ثقافة حقوق الإنسان والعمل بتوصيات مؤسسة دستورية هي المجلس الوطني لحقوق الإنسان، ولهذا أمسى العنصر الحقوقي شيئا حيويا ورئيساً وحاضراً بقوة في تدبير الفضاء العام وفي تدبير السلطات العمومية للفعل الاحتجاجي”.
وجواباً عن سؤال هسبريس “هل هذه الحقيقة يمكن أن تدّعي أن هذا التوجه من بنات الديمقراطية؟” قال بنخطاب إن “المغرب لديه قانون يحتّم وجود ترخيص قبل أيّ وقفة احتجاجية؛ وبالتالي وضع القانون جانباً والسّماح بالتظاهر السلمي الذي هو حقّ مشروع في إطار حرية التّعبير هو استدماج لمقولات الديمقراطية”، مؤكداً أن “الاحتجاج ليس خطراً مادام سلميا، ومن ثمّ تكاد الدولة المغربية تعي أهمية التعامل معه بالكثير من الصبر والهدوء”.
تغيير الإستراتيجية
عبد الرحيم العلام، جامعي ومحلل سياسي، اعتبر أن “المسيرات الحاشدة في إطار حراك التعليم ميدانيّا والاحتجاجات المناصرة لفلسطين لا يمكن قمعها إطلاقا”، مؤكداً أن تعامل الدولة مع هذه المظاهرات “بالكثير من التعقل لا يعني أنها توقّفت بشكل نهائي عن قمع أي تظاهرة سلمية بالمغرب تريد أن تندد أو تستنكر وضعاً ما، خصوصاً الوضع الذي لم يعد محتملاً بالنسبة للمحتجين، لكون الشارع كان دائما الملاذ الأخير للغاضبين”.
وأوضح العلام، في تصريحه لجريدة هسبريس، أن “السلطة حاولت بالفعل منع الحراك التعليمي في البداية، لكن تبين لها أن الأمر لا يتعلق باحتجاجات عادية فئوية موسمية، وإنما بوقفة جسم تعليمي، وهو ما يعسّر فضّها بالقوّة”، مشدداً على أن “صلابة موقف رجال ونساء التعليم دفع الدولة إلى تقبل هذا الغضب وتغيير إستراتيجية التعامل معه، لكونه في السابق كان عبارة عن نضالات فئوية مشتتة، ولكن الآن بات صوتاً واحداً متّصفا بالمناعة”.
وتابع المحلل ذاته: “يمكن أن نقول إن الدولة استسلمت للأمر الواقع أمام ما تفرضه السياقات المتحكمة في المواضيع التي حرّكت هذه الاحتجاجات، سواء النظام الأساسي في التعليم أو حرب غزة في التضامن مع فلسطين”، مبرزاً أن “قضية التعليم انفلتت من النمط القديم الذي يتيحُ قمعها، وأمّا قضية فلسطين فهي تخدم المغرب، وبالتالي لا يمكن للدولة منع هذه المظاهرات لكونها تحاكي الرأي الرسمي للدولة”.
وخلص المتحدث عينه إلى أن “القول إن هذا النموذج الذي أفصحت عنه الدولة سيكون هو المعتمد في سياق التعامل مع ملف الاحتجاج السّلمي لا يمكن الحسم فيه الآن، لكونه مازال يحتاج إلى المزيد من الأمثلة لتتضح الصورة أكثر”، منبها إلى أنه “من ناحية أخرى كانت الاحتجاجات السلمية بالمغرب منذ 20 فبراير ذات أبعاد حضارية ولم تكن لها ممارسات تخريبية، وهو ما يحتم أن تواصل الدولة فسح المجال أمام أي احتجاج يخدم الديمقراطية”.
المصدر: وكالات
