دعا الناقد الفني إدريس القري ضمن مقال بعنوان “الذكاء الاصطناعي والإبداع الفني.. السينما نموذجا”، إلى التفكير في عواقب الاستعمالات المكثفة للذكاء الاصطناعي، موردا أن استعماله بشكل مفرط يمكن أن يحوله إلى أداة لسلب الحريات والحميمية والحقوق الإنسانية.
كما استحضر الناقد ذاته إيجابيات هذه التقنية في مجال السينما، مشددا على أنها يمكن أن تساعد في تعزيز الإبداع وجعل الأعمال السينمائية أكثر تنوعا وجودة وحملا وتطويرا لآفاق الغنى البشري ثقافة وتراثا.
وهذا نص المقال:
الذكاء الاصطناعي قوة الحاضر والمستقبل
يعد الذكاء الاصطناعي واحدًا من أبرز التطورات التكنولوجية في عصرنا الحالي، وقد تسلل بسرعة إلى مختلف جوانب الحياة وميادينها ومنها، مختلف الصناعات المدنية والعسكرية والطب والهندسة… ومجالات الفنون ومن ضمنها السينما. وإذا كان الذكاء الاصطناعي يتطور ويفرض نفسه يوما بعد يوم في العديد من قطاعات الإنتاج والتسيير والتدبير والتصنيع واتخاذ القرار، فإن تسارع تطوره من جهة، والنتائج المذهلة الناجمة عن استعماله على إيقاع رفع الإنتاج وتقليل الكلفة وربح الوقت ودقة بلوغ الأهداف، جعلت من التفكير في عواقب استعمالاته المكثفة، وضرورة التمييز بين سلبياته وإيجابياته ضرورة ملحة، وذلك بالنظر إلى تسارع عواقب وانعكاسات استخدامه على الاقتصاد والمجتمع والقيم خاصة.
لا مناص، رغم كل ما سبق، من التسطير على أن قوة الحاضر الممتدة في الفضاءات الرحبة للمستقبل، إنما تتمثل في الذكاء الاصطناعي، الذي من المنتظر أن يغير من المفاهيم التقليدية فيزيائيا وابستمولوجيا مثل الزمن والمكان في ارتباطهما العضوي، باعتبارهما أساس كل إدراك وتفكير وتدبير وتسيير وتخييل.
الذكاء الاصطناعي والسينما
تحمل تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي العديد من الإيجابيات كما تنتج عن ممارستها وتبنيها العديد من السلبيات. نحاول في هذه المقالة تحليل بعضا من مظاهر هاذين الجانبين، إذ الذكاء الاصطناعي لا يزال في بداية طريق اندماجه في بنيات الصناعات الإبداعية الفنية عموما، والسينمائية على وجه الخصوص، على الرغم من قِدَمِ البروز اللافت لاستعمال الذكاء الاصطناعي في العديد من الأفلام، ذات الميزانيات الكبيرة خاصة، بهوليوود وغيرها من مراكز الصناعات السينمائية المتقدمة والأكثر انتشارا وتوزيعا عبر العالم.
إيجابيات الذكاء الاصطناعي في السينما:
تتضح الآثار الإيجابية الرئيسية لاستخدام الذكاء الاصطناعي في مجال والسينما في الجانب التقني من هذه الصناعة الفنية. فبفضل الذكاء الاصطناعي تستفيد السينما من قدرة على إنشاء تأثيرات بصرية وصوتية مذهلة لا قبل للصناعة الميكانيكية السابقة الريادة بها. يرجع الأمر أساسا إلى التطورات في تقنيات الغرافيكس والمؤثرات البصرية، حيث يمكن للأفلام والمسلسلات استخدام الذكاء الاصطناعي لبناء مشاهد وتصاميم تخييلية، لم تعد موجودة في الواقع الفيزيائي، لاندثار معالمها الملموسة منذ سنوات بل منذ قرون. فعلى سبيل المثال، في فيلم “Avengers: Infinity war”، استخدم الفريق التقني الذكاء الاصطناعي لإحياء شخصية Thanos بطريقة واقعية ومدهشة، كما أن تقنيي أفلام عديدة مثل Star” war, Gladiator, Troy, Avatar”…. خلقت فضاءات وشخصيات وعوالم كاملة لا وجود لها إلا في التوقعات التخييلية المبدعة لكتاب السيناريو والمخرجين بالتالي.
يمكن للذكاء الاصطناعي كذلك، في مجال الإنتاج السينمائي، توفير خدمات هي عبارة عن تحسينات كبيرة في إدارة الميزانية والجداول الزمنية. يمكن لأنظمة الذكاء الاصطناعي تحليل البيانات والتنبؤ بالتكاليف والمشاكل المحتملة، مما يساعد في توفير الوقت والمال. وقد قال مخرج فيلم “AVATAR” جيمس كاميرون في إحدى حواراته الصحفية: “يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون أداة قوية للمخرجين في تحقيق رؤيتهم الإبداعية. فهو يفتح أمامنا أبوابًا جديدة للتعبير الفني وإيجاد تأثيرات بصرية لا تصدق”. كما أن ستيفن سبيلبرغ، مخرج JURASSIC PARK أشار إلى أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون أداة مساعدة للكتاب والمخرجين، في تطوير قصصهم وإنشاء عوالم سينمائية مذهلة.
سلبيات الذكاء الاصطناعي في السينما:
من اليد البشرية إلى الأداة إلى الآلة الذاتية التّحكُم نسبيا، يعتبر الذكاء الاصطناعي سلاحا ذا حدين مثله في ذلك مثل أي اختراع بشري. تصح الفكرة على ميدان الفن والسينما أيضا. من هذا المنطلق تكون للذكاء الاصطناعي سلبيات إلى جانب الإيجابيات من أبرزها:
– خطر فقدان الوظائف، حيث يمكن للتقنيات الذكية أن تحل محل العديد من القائمين من البشر في صناعة السينما، مثل تصميم المؤثرات البصرية وتحرير الصوت.
– مخاوف من تأثير الذكاء الاصطناعي على الإبداع البشري والتنوع الفني. فقد يؤدي الاعتماد المفرط على التكنولوجيا إلى إنتاج أفلام متشابهة في الشكل والمضمون، مما يقلل من التنوع الفني والإبداعي في الصناعة السينمائية وجعلها، بالتالي مستنسخة من بعضها ونمطية تساهم بقوة في تنميط الوعي وإغلاق آفاق الإبداع دون الأجيال التي قد تترعرع في ظل سيادتها. يقول المخرج جيمس كاميرون، مخرج فيلم “ِAVATAR”، بإن الذكاء الاصطناعي ساعد في تحقيق تأثيرات بصرية استثنائية في الفيلم، لكنه عبر عن قناعته بأن من المهم الحفاظ على إمكانيات الإبداع البشري في صناعة السينما بحيث يظل الذكاء الاصطناعي تحت سيادة الإنسان وقدراته التخييلية وليس العكس.
تقول الدكتورة جينا كرايمر وهي باحثة أكاديمية في مجال تكنولوجيا السينما والذكاء الاصطناعي، إن الذكاء الاصطناعي قد يساعد في تحسين عمليات إنتاج الأفلام وتوفير وقت وجهد ومال بالتالي. لكن ينبغي على صناع السينما أن يكونوا حذرين في استخدامه، حفاظا على الإبداع والجودة الفنية. كما أكد مايكل فيليبو وهو ناقد سينمائي، أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يساهم في توفير تجارب سينمائية مميزة ومبتكرة، ولكن يجب على الصناعة السينمائية ألا تتخلى عن الإنسانية والروح الإبداعية في أعمالها.
يظهر أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون أداة قوية في صناعة السينما، ولكن نجاح هذا المسعى سيتطلب تحقيق توازن، معقد، بين التقنية والإبداع البشري.
لنفحص هذا الأمر بتدقيق أكثر في ما يخص صناعة الفيلم كتابة وإخراجا.
الذكاء الاصطناعي في الإخراج وكتابة السيناريو
من الممكن أن تكون لاستخدام الذكاء الاصطناعي في الإخراج السينمائي وكتابة السيناريو، تأثيرات كبيرة على صيغة الإبداع في هذين الجانبين فكيف ذلك؟
الإبداع في الإخراج السينمائي:
يمكن للذكاء الاصطناعي تحسين جودة التصوير بكل مكوناتها من إضاءة وديكورات وألوان وإكسسوارات… إلخ. يمكن كذلك لأنظمة الكاميرا المزودة بالذكاء الاصطناعي التعرف على الظروف المحيطة بـ”بتلاتوه” التصوير، كما يمكن ضبط إعدادات الكاميرا بشكل أفضل للحصول على صور أكثر وضوحًا وجودة وتوازنا من الناحية التقنية. يمكن كذلك تحسين المؤثرات البصرية والصوتية، وذلك بإنشاء مؤثرات مذهلة أكثر دقة وواقعية وتأثير.
يتيح ما سبق للمخرجين تنفيذ مشاهد تخييلية بتوظيف الذكاء الاصطناعي لتقنيات متقدمة للتأثيرات البصرية والصوتية، فيمكن لأنظمة الذكاء الاصطناعي تحليل البيانات والمعلومات السينمائية لمساعدة المخرجين في اتخاذ قرارات نوعية الإبداع المستهدف من المخرج والمنتج معا حسب طبيعة علاقة امتلاك القرار والسلة بينهما. فعلى سبيل المثال، يمكن للذكاء الاصطناعي توصية المخرج بالعمل بناءً على تفضيلات الجمهور واتجاهات السوق، ولا يمكنه طبعا توصية بتيارات الإبداع السينمائية الجمالية العريقة المستندة للقيم الجمالية وللحس والمشاعر الإنسانية، وهي المشاعر التي تستند لما يسكن في اللاوعي البشري الجماعي والفردي، في تجاربه الكونية والمشتركة كالحب والخوف والتعاطف والتماهي…
الإبداع في كتابة السيناريو
تحسين هياكل القصة: يمكن للذكاء الاصطناعي تحليل هياكل القصص الناجحة واقتراح هياكل قصصية تنطلق منها السيناريوهات. ما يسهم في تطوير قصص أكثر جاذبية وتشويقًا. توجيه الكتّاب: يمكن للذكاء الاصطناعي تقديم توجيهات للكتّاب بشأن تطوير الشخصيات والحبكة والحوارات. هذا يمكن أن يكون مفيدًا للكتّاب في تحسين جودة السيناريو. تحليل الجمهور: الذكاء الاصطناعي يمكنه تحليل تفضيلات الجمهور واقتراح عناصر تلبيها في السيناريو. هذا يمكن أن يساعد على إنتاج أعمال تجذب جمهورًا أوسع، لكن خطر النمطية والقوالب الجاهزة المبنية على أساس الإحصاءات الكمية، كما هو الأمر في التدبير السياسي التكنوقراطي للملفات الاجتماعية والاقتصادية، يبقى قائما وواردا وبقوة، ما لم يتم استحضار التخييل والمخيلة والوجدان والقيم الكونية النبيلة، في التخطيط والتصميم والتنفيذ بالنسبة لأي عمل فني.
خاتمة:
الواقع أن الأمر سيتطلب عدم التَّخلي عن الجماليات وقِيَّمها، وعن التفكير السوسيو-فلسفي في الفن، وعن النقد المستلهم للتاريخ وللثقافات المحلية وللعلوم الإنسانية، إلى جانب البراغماتية المهنية واستيعاب التكنولوجيات المتقدمة في صناعة السمعي البصري كأساس جوهري. يمكن أن يكون للذكاء الاصطناعي تأثير إيجابي على الجودة والكفاءة، ولكن يجب مراعاة التحديات الاجتماعية والفنية التي قد تنشأ عن استخدامه بشكل مفرط، حيث من السهل تحوله لأداة لسلب الحريات والحميمية والحقوق الإنسانية.
ومع ذلك، يجب أن نتذكر أن الإبداع في السينما ليس مجرد تنفيذ مُتقَن في توظيف تقنيات متقدمة، بل يتعلق أيضًا بالروح الإبداعية والرؤية الفنية للمخرجين والكتّاب. إذا تم استخدام الذكاء الاصطناعي بشكل متزن وذكي، يمكن له أن يساعد في تعزيز الإبداع وجعل الأعمال السينمائية أكثر تنوعًا وجودةً وحملا وتطويرا لآفاق الغنى البشري ثقافة وتراثا وبالتالي قيما هي في صلب معنى الوجود والحياة الإنسانية.
المصدر: وكالات