كلما اندلع نقاش حول قضية حقوقية ذات صلة بنص من نصوص الدين إلا وحدث نزاع ولغط بين طرفين: أحدهما يعتمد نصوص الدين كما فهمها القدامى في عصر لا صلة له بعصرنا من أي وجه من الوجوه، والطرف الآخر يُقرّ من خارج النص ما ينبغي أن يكون طبقا لحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها في العالم، والنتيجة أن التفاهم المطلوب يظل غائبا وسط صراع إيديولوجي لا ينتهي، وغالبا ما تكون له امتدادات سلبية في المجتمع ينجُم عنها عرقلة تفعيل النصوص القانونية الجديدة في الواقع الاجتماعي وخاصة في مجال العدالة.
ولعل أسهل تفسير لهذا التشظي القول بأن سبب نبذ الفقهاء لحقوق الإنسان اعتبارها إنتاجا غربيا لا صلة له بالهوية الدينية الأصيلة، وهو تفسير وارد لكنه غير كافي لفهم تعنت الوعي الديني التقليدي أمام تحولات الواقع الإنساني.
عندما نقوم بتحليل خطاب الفقهاء الرافضين لتعديل بعض القوانين بسبب مبررات دينية، سنجد بأن مشكلة هؤلاء مع حقوق الإنسان إنما مصدرها المنطق الذي يشتغلون وفقه، والذي يعتمد قاعدتين اثنتين صارتا مصدر كثير من الصراع والتصادم، علاوة على الظلم الذي يطال الحقوق الإنسانية للمواطنين، وخاصة في مجال الحريات والمساواة:
القاعدة الأولى تقول بأولوية “حفظ الدين” على أي شيء آخر، بما فيه الإنسان نفسه.
والثانية تعتبر نصوص الدين مجردة عن سياقاتها الاجتماعية والثقافية والسياسية، وفق قاعدة “العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب”.
التفكير وفق هاتين القاعدتين يؤدي دائما إلى نفس النتيجة: رفض إعادة القراءة والتفسير والتأويل وفق قواعد جديدة لصالح الإنسان واستجابة للسياقات المستحدثة التي هي غير مسبوقة في التاريخ كله. فقواعد الفكر الديني صارت ـ بسبب طول استعمالها لقرون طويلة ـ جزءا من الدين نفسه، أي أنها صارت بدورها غير قابلة للمراجعة، وهذا ما يفسر استمرار اعتراض الفقهاء ودعاة التقليد إلى اليوم على مراجعة مدونة الأسرة التي ثبت بما لا يدع مجالا للشك أنها مصدر مظالم كثيرة لا يقبلها عقل ولا منطق.
ويستغرب المرء من قساوة الفكر الفقهي الذي لا يكترث بمعاناة الإنسان، ويظلّ متشبثا بنصوص لم يعُد السياق الذي أنتجها موجودا منذ عقود، لكن الاستغراب يزول عندما ندرك بأنّ منطق الفقهاء ليس منطقا إنسانيا بل هو منطق ديني تقليدي، غايته الحفاظ على تطبيق نصوص لذاتها لا لمصلحة، ما دام من الواضح اليوم أنها صارت متعارضة مع المصلحة.
سألتني إحدى المواطنات في معرض مناقشة مدونة الأسرة قائلة كيف لا ينتبه الفقهاء إلى بعض الأحاديث المهينة للمرأة ويعتبرونها رغم ذلك من الدين، رغم أنها ظاهرة الإساءة لكرامة النساء ؟
وحتى تفهم السيدة أصل المشكل تناولنا بالقراءة الحديث المنسوب إلى النبي في “صحيح مسلم” والقائل:”إذا قام أحدكم فصلّى فإنَّه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرحل، فإذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرّحل فإنه يقطع صلاته الحمارُ والمرأةُ والكلبُ الأسودُ”، والذي هو حديث يؤذي الحساسية الحقوقية المعاصرة إيذاء كبيرا، لكنه في الوعي التقليدي حديث عادي ومقبول لأنه “صحيح” حسب فقهاء الحديث، الذين اعتبروا أن معيار “صحة” الحديث في سنده وفي كون الذين رووه “ثقات”، مما أدّى إلى تدوين أخبار مضمونها غير مقبول لا عقليا ولا منطقيا ولا حتى أخلاقيا، وجعل فقهاء اليوم ينظرون إلى نص الحديث على أنه من صحيح الدين بالنظر إلى غايته الدينية، معتبرين أنه لا يجوز الطعن في “صحيح السنة”.
ومن يتأمل الحديث المُشار إليه سيجد بأن منطق قراءته بين الفقهاء والحداثيين مختلف تماما، فعند الفقهاء يُقرأ هذا الحديث وفق قواعد ثلاثة:
1) أنه لدى أغلبية الفقهاء مُوجه للرجال (الذين يصلون في الفضاء العام). ولهذا ذهبت طائفةٌ من الفقهاء إلى أن المرأة لا تقطع صلاة المرأة، معتمدين الحديث المنسوب في روايته إلى أبي ذر في مسند الإمام أحمد وغيره.
2) أن المرأة “دنسة” عندما تكون حائضا، كما أنها تثير شهوة الرجال بجسدها ومشيتها.
3) أن جمعها مع الحمار والكلب الأسود ليس لإهانتها حيث لا يبدو ذلك للفقهاء مثيرا لأي مشكل، لأن القصد منه والغاية هي “صحة الدين” و”صحة الصلاة” بالنسبة للرجال.(أولوية الدين على الإنسان).
أما المنطق الحقوقي فيقرأ الحديث على هذا الشكل:
1) أنه خبر مروي شفويا لمدة 200 سنة قبل تدوينه من طرف مسلم وغيره.
2) أن اعتبار “السند” و”العنعنة” معيارا لصحة الحديث قاعدة غير علمية وغير يقينية، وإنما هي مبنية على الظن.
3) أن كرامة الإنسان ينبغي أن تكون هي الغاية العليا للدين وليس الدين غاية في ذاته.
4) أن المرأة شخصٌ مواطن وليست مجرد جسد شهواني وشيطاني أو يأتيه دم الحيض كما تصوره الفقهاء.
5) أن ذكر المرأة بجانب الكلب والحمار هو من ترسبات العقلية الذكورية القديمة في مجتمع أبوي عبودي تحكمه سلطة الرجال. ولهذا لا مبرر لرواية مثل هذه الأخبار في عصرنا.
ونستطيع أن نقوم بهذا التمرين في كل القضايا التي يتدخل فيها الفقهاء ليعارضوا أية مراجعة للنصوص القانونية وخاصة منها مدونة الأسرة المعروضة اليوم للنقاش، مثل قضايا تزويج القاصرات وولاية المرأة على أبنائها وحقها في منح الجنسية والزواج من غير المسلم وحقها في المساواة في الإرث وغيرها من القضايا التي تثار حتى اليوم بسبب اعتماد نصوص دينية يتم تجريدها كليا من سياقاتها القديمة التي لم تعد قائمة اليوم، وذلك لنتمكن من تفكيك هذا الخطاب الذي ينبذ الواقع ويعاكس كرامة الإنسان وينتصر للتراث الفقهي على حساب الحياة المعاصرة.
المصدر: وكالات