حياة جديدة لنقاشات ثقافية في المنطقة المتحدثة باللغة العربية تجد طريقها إلى فضاءات الرأي العام بين الفينة والأخرى، من أحدث ما استدعي منها نقاش حول عَلميْن للمنطقة المعروفة في الكتب حول تاريخ المنطقة بـ”الغرب الإسلامي”؛ حاكم المغرب والأندلس أيضا يوسف بن تاشفين، والملك الشاعر المعتمد بن عباد.
المعتمد بن عباد، دفين أغمات الحاضرة المغربية البائدة السابق تأسيسها على مراكش، صار سجين يوسف بن تاشفين، نتيجة تقديرات سياسية ودينية، كثيرا ما يتغاضى عنها في نقاشات تركز على الإبداع الأدبي لابن عباد وتستصغر ما دونه؛ بينما لا تستحضر نقاشات أخر الرمزية والمصادر التي تغذي آراء في الواقعة، تقابل بين الأديب “الرقيق” المبدع والملك “الخشن” القوي، وتسحرها أبيات المعتمد؛ الملك الذي صير أسيرا، فتقوله ما يحمل تنقيصا للمغاربة وابن تاشفين الذي حفظ الأندلس من السقوط المبكر، رغم الدسائس بين ملوك الطوائف المسلمين، التي كانت تصب في مصلحة الممالك المسيحية التي ظفر أحد حكامها ألفونسو بطليطلة.
هذا النقاش من بين محطاته مسرحية للشاعر المصري أحمد شوقي عنوانها “أميرة الأندلس”، سنة 1932، من بين مضامينها على لسان المعتمد بن عباد ومحيطه ما ينتقص “أمير المسلمين” الذي يحتاج ترجمانا ليفهم اللغة العربية، ووصم له بالغدر، والاستئثار بالملك، وتخويف من “القبضة البربرية” التي تهدد حضارة الأندلس.
هذه المسرحية ذمها بشدة محمد بن إبراهيم المراكشي، المعروف بشاعر الحمراء؛ بعد تشخيص مغاربة لها بمراكش، عاصمة المرابطين التي أسسها يوسف بن تاشفين، من بين ما قاله فيها:
(…)
أتيتم بالتمثيل أكبر مرشد.. وليس سوى التمثيل يهدي إلى الرشد
نعم أن شوقي وهو اكبر صائب.. تنكر عنه الليث في داخل اللبد!
تأمل شوقي عن قريب فما اهتدى.. وما ضر شوقي لو تأمل عن بعد!
الحمد شوقي للقوافي رجالها.. كانت، وللتاريخ ذو الأخذ والرد!
فاروق إفريقيا! امتشقت مهندا ورحت.. وقبلته شوقا وطوحت بالغمد!
به ركضا لأندلس بها.. تصد ذوي الأغراض عن سيء القصد
فأبقيت للإسلام باذخ مجده.. ولولاك أضحى الدير مقتعد المجد
وذدت عن الإسلام من رام كبده.. وأطفأت نيرانا مؤججة الوقد
ولم تكثرت بالغانيات وعودها.. وتسوية الأوتار في نغمة (الرصد)
إلى أن يقول:
بني العرب أوطانا بني الشرق وحدة.. بني الضاد، أبناء الحنيف بني المجد!
يعز علينا القصر يفقد مجده.. ويمسي ابن عباد به نحس السعد
(…)
نضحي بعباد وآخر كابته.. ومثله ممن لا يفيد ولا يجدي
(…)
ولكن لنصر الدين دين محمد.. وإن كان منه الجسم غيب في اللحد
الأكاديمي الراحل عباس الجراري، الذي كان له أثر بارز على دراسات الأدب المغربي، بمعناه الواسع الشامل كل أشكال وألسنة الإنتاج الفكري لساكنة البلاد، “العالمة” والشعبية، تطرق لهذه المسألة أيضا في كتابه “الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه”، وفك طلاسمها.
وكتب الأكاديمي، الذي ارتبطت باسمه صفة “عميد الأدب المغربي”، حول “قضية المعتمد بن عباد” قائلا: “هذه قضية لعلها أشهر قضايا الفكر والأدب، سواء في المغرب أو الأندلس، وأكثرها إثارة للجدل والنقاش. إنها قضية المعتمد بن عباد وما يتصل بها من حديث عن مدى فهم المرابطين للأدب، وتذوقهم وتشجيعهم له، وخاصة منهم يوسف ابن تاشفين”.
ثم أردف قائلا: “والحق أن هذه القضية نالت شهرة أوسع مما ينبغي، وكان لها صدى أكبر وأقوى مما تستحق. ولو أننا نظرنا إلى الأحداث التي أحاطت بها نظرة شاملة تضع أحداثها في وحدة مكتملة لا تفصل بعض هذه الأحداث عن بعض، لأنصفنا ابن تاشفين مما يتهم به، ولو وضعنا قضية ابن عباد في إطارها الحقيقي، بل لما اعتبرناها نكبة أو مأساة، أو ما إلى هذه وتلك من الأسماء التي تنسب لها”.
ومن بين ما كتبه الجراري: “ليس يخفى أنه في الوقت الذي كان ابن تاشفين ينشئ في المغرب دولة قوية على أساس من العلم والإصلاح، كانت بلاد الأندلس تعيش في عهد ملوك الطوائف، وتتخبط من جراء ذلك في كثير من الانقسام والفوضى، ساعد المسيحية على تجميع قوتها للانقضاض على المسلمين مظهرة في ذلك حمايتهم ومحالفتهم”.
وزاد: “بلغ انقسام ملوك الطوائف على أنفسهم وما بينهم من حسد ومنافسة على السلطة والنفوذ، وخاصة بين المعتمد والمعتصم، أن هذا الأخير كان يسعى في تغيير قلب يوسف ابن تاشفين على المعتمد”، في وقت وجد الأندلسيون المسلمون أنفسهم “بين نارين: بين المسيحيين يضايقونهم ويفرضون عليهم الجزية وينقضون عليهم يحاولون السيطرة على مراكزهم، وبين المرابطين يقوى أمرهم في المغرب (…) فكانت هذه الوفود من العلماء الذين جاؤوا يستنجدون بابن تاشفين”.
ومما يروى في هذا الباب جواب المعتمد ابنه الرشيد بعدما حذره من الاستعانة بالمرابطين: “إن دهينا من مداخلة الأضداد لنا، فأهون الأمرين أمر الملثمين، ولأن يرعى أولادنا جمالهم أحب إلينا من أن يرعوا خنازير الفرنج”.
وبعد بسط ما ذكرته المصادر حول قدوم ابن تاشفين الأول للأندلس ونصره، ونسب المعتمد ذلك لنفسه، وطموحه لحكم الأندلس، وذمه المرابطين، وضح الباحث أن من أهم خلفيات الحكم السيء في مصادر وآراء على ابن تاشفين “أن المعتمد شاعر، بل ملك كبير وشاعر كبير، ليس كغيره من الملوك الشعراء”، ولا يكمن الصدى الواسع للقضية في شعره الحزين وحسب بل أيضا “في ما قاله الشعراء الذين كانوا يعيشون في ظله، وكانوا ينعمون في بلاطه بالترف والرغد والرفاه، وفقدوا بتنحيته مورد رزقهم، فإنهم بالغوا في تصوير حاله مما يجعل القارئ في شعرهم، يتصور يوسف شخصية خشنة ومخيفة ومرعبة منفرة، كلها غلظة وقسوة وأنانية وجهل”.
ومن بين ما يرد في كتابة عباس الجراري أن معاملة ابن تاشفين لابن عباد لم تكن كما صور الشعر، فقد أسره في أغمات التي كانت “مدينة مزدهرة جميلة”، و”كانت له حرية الاتصال بالناس، وكان يزوره أصدقاؤه وغير أصدقائه من الأدباء يحادثونه في الشعر”؛ بل منهم من قال قصائد، أورد الأكاديمي بعضها، تتمنى له العودة إلى الملك، وعودة الجاه والسطوة، دون أن تمنع، ودون معاقبتهم، أو معاقبة المعتمد؛ وتعرفنا بـ”إلى أي مدى كان يتمتع بحريته، بل إلى أي مدى بلغت حرية القول على عهد المرابطين”.
ومن بين ما كتبه الجراري: “ومهما يكن، فإن ابن تاشفين الخشن الجاهل المخيف – على حد تصوير خصومه له – كان في معاملته للمعتمد، أكرم بكثير من المعتمد الشاعر الرقيق في معاملته لابن عمار، وزيره وصديقه الذي بلغ من تعلقه به أن كان ينام معه ‘على وساد واحد’ كما في (المعجب)”.
واسترسل شارحا: “أخطأ ابن عمار حين أراد أن يستقل بالإمارة في مرسية، فلم يقبل منه المعتمد ذلك وقبض عليه، وأتى به إلى قرطبة”، ويقتبس من (المعجب في تلخيص أخبار المغرب): “فدخلها ابن عمار أشنع دخول، وأسوأه، على بغل بين عدلي تبن، وقيوده ظاهرة للناس، وقد كان المعتمد أمر بإخراج الناس خاصة وعامة حتى ينظروا إليه على تلك الحال… ذليلا، خائفا، فقيرا، لا يملك إلا ثوبه الذي عليه… فأدخل على المعتمد… يرسف في قيوده، فجعل المعتمد يعدد عليه أياديه ونعمه (…) وكتبت عنه في هذه السجن قصائد لو توسل بها إلى الدهر لنزع عن جوره أو إلى الفلك لكف عن دوره، فكانت رقى لم تنجح، ودعوات لم تسمع”، وهذا قبل أن يروي المؤرخ عبد الواحد المراكشي دخول ابن عباد بفأس “فلما رآه علم أنه قاتله، فجعل ابن عمار يزحف، وقيوده تثقله، حتى انكب على قدمي المعتمد يقبلهما، والمعتمد لا يثنيه شيء، فعلاه بالطبرزين (الفأس) الذي في يده، ولم يزل يضربه حتى برد”.
وقيد الجراري خلاصة: “ولعلنا بعد هذا في غير حاجة إلى الكشف عن البون الشاسع بين معاملة يوسف للمعتمد، وبين معاملة المعتمد لابن عمار”، وأثبت أخرى، بعد صفحات: “لعله من الإنصاف للمرابطين وابن تاشفين خاصة، بعيدا عن الشعر وتأثيره، أن نسجل أن تنحيتهم لملوك الطوائف واستيلاءهم على الحكم لم يكن منه للأندلس إلا الخير، فقد استقرت أحوال البلاد، واستراح الشعب مما كان يرهق كاهله من ضرائب كانت تفرض عليه في غير حد ولا قانون، وأنقذت الأندلس من الضياع، وثبت مركز العروبة والإسلام فيها أربعة قرون أخرى”.
المصدر: وكالات