قالت رحمة بورقية، باحثة سوسيولوجية عضو أكاديمية المملكة المغربية، إن “أهم مظاهر أزمة العلوم الاجتماعية والإنسانية بالمغرب يكمن أساسا في نزعة اقتصادَوِيّة مازالت تؤطر وتحاصر التكوين والبحث العلمي والمعرفة الجامعة”، مؤكدة أن “النزعة المذكورة تجعل قيمة التكوين والبحث تتحدد حصرا بمداخيلها في المجال الاقتصادي، وترهن هذه القيمة أساسا بما يسمى [المنفعة]. وكل المعرفة تفقد قيمتها إذا لم تنعكس إيجابا على المستوى الاقتصادي”.
وأضافت بورقية، متحدثة ضمن مناظرة “العلوم الإنسانية والاجتماعية: رهانات وآفاق”، التي تنظمها أكاديمية المملكة يومي 7 و8 فبراير الجاري، أن “هذا المبدأ الاقتصادوي له فعالية في حالة العلوم التكنولوجية، التي قد تنتج قيمة مضافة اقتصاديا، غير أن العلوم الإنسانية والاجتماعية تساهم من ناحيتها، بيد أن مهمتها تكمن أيضا، وأساسا، في فهم العالم الذي نعيش فيه والعلاقة بين الإنسان ومحيطه، والمعنى الذي يمنحه لوجوده والقيم التي تتشكل في دوائره”.
وأوضحت الأكاديمية ذاتها أن “المنفعة موجودة في المعرفة والتكوين وفي القيمة التي تمنحها لكل تخصص. فالعلم هو من حيث المبدأ علم نافع”، غير أن المقصود بالنزعة النفعية هو اختزال منفعة التكوين في العلوم الإنسانية والاجتماعية في القيمة التي تُمنح لتسويقها”، وقالت: “هناك خطاب شائع يعدّ العطالة مثلا مرتبطة بتخصصات العلوم الإنسانية والاجتماعية، على الرغم من أن بعض الدراسات التقييمية الجادة تبين أن البطالة ظاهرة يعاني منها حاملو الشهادات من مختلف التخصصات، بمن فيهم خريجو العلوم الصلبة”.
وتابعت الباحثة السوسيولوجية مداخلتها التي حاولت أن تجيب عن سؤال “هل العلوم الإنسانية في أزمة؟”، قائلة: “المشكل الآخر، أو التحدي الذي تواجهه العلوم الاجتماعية بالمغرب، يتعلق أساسا بتداخل الرأي والحس المشترك مع هذه العلوم وهذه المعارف”، مبرزة أنه “بحكم احتكام المعرفة في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية إلى مناهج ونظريات، فإنها تبتعد عن الرأي وعن الحس المشترك، إلا أنها (المعرفة) بحكم كونها تتعلق بظواهر الإنسان والمجتمع، فإن الرأي يتسرب إليها أو ينافسها”.
ومضت شارحة: “المعرفة البشرية استطاعت أن تبتعد عن الحس المشترك وعن الرأي لأنها تتأسس على رصيد معرفي”. ومع ذلك، فإن “إقحام أفكار من هذه الطبيعة في جزء لا يستهان به ضمن إنتاج العلوم الاجتماعية والإنسانية، بشكل غير مؤطر منهجيا ونظريا، جعل من تلك العلوم إنتاجا خاما، أي غير منقّحة”، تواصل بورقية، شارحة أن “العلم المنقح هو الذي ينبني على معرفة وعلى النظريات وعلى المناهج، في حين إن العلم الخام هو غير ذلك”.
وقالت المديرة السابقة للهيئة الوطنية للتقييم لدى المجلس الأعلى للتعليم: “إذا تأملنا في المسار العام للإنتاج الفكري والعلمي في المغرب منذ الاستقلال في منتصف القرن الماضي، ومنذ إحداث الجامعة المغربية، نجد أن تطورا كبيرا قد طرأ على مستوى الإنتاج، تبينه الدراسات الببليوغرافية، وهمّ كل تخصصات العلوم الإنسانية والاجتماعية، غير أن هذا الإنتاج بشكل عام ضمنه ما يمكن إدراجه في خانة العلم الخام وكذلك في خانة العلم المنقح”.
“التحدي الآخر الذي يواجه هذا الحقل العلمي مرتبط بمشكلة الإيديولوجيا، التي صارت تنفذ إلى الأعمال البحثية والعلمية”، تقول تورد، موضحة أنه “إذا تأملنا المسار العام للإنتاج الفكري والعلمي المغربي، نجد أن في بعض الأحيان كانت هناك أيضا تدخلات إيديولوجية، خصوصا فيما يتعلق بالنظريات الشمولية التي تدعو إلى تغيير المجتمع”، مشيرة إلى أن “في الثمانينات تمت مواجهة النظريات الشمولية كالماركسية مثلا بسياسة متسرعة لتعريب العلوم الاجتماعية، وغير ذلك من الإجراءات”.
وفي معرض حديثها، ذكرت بورقية أنه “وراء أزمة العلوم الإنسانية والاجتماعية نجد أزمة واقع يستدعي التفسير والفهم العلمي وبلورة نظريات حول دينامية الأزمة التي يخلقها التحول والتغير الاجتماعي والاقتصادي والقيمي، وهذا ما يسفر أن النظريات الشمولية الكبرى حول الإنسان والمجتمع برزت خلال مراحل التحول الكبرى، مثلا خلال القرن 19 والنصف الأول من القرن 20، بحيث أفرز واقعنا اليوم في هذا القرن الذي نعيشه ظواهر متناقلة من حيث حجمها وطبيعة تحولها”.
وأضافت: تتأرجح هذه الظواهر بين ما يتعلق بالعولمة، التي جعلت العلوم الإنسانية والاجتماعية تساير قضاياها وتاريخ العالم وأنثروبولوجيا العولمة وظواهر عابرة للقارات كالهجرة والثقافة، وظواهر أخرى فرضت تجزيئ التخصصات كسوسيولوجيا وأنثروبولوجيا الفرد والجسم والعواطف، مما يتطلب تكييف المناهج والمقاربات. ويضاف لذلك في عصر الرقميات، وجود المجتمع الافتراضي وديناميته التي تقتضي مقاربات ومناهج جديدة”.
وأكدت عضو أكاديمية المملكة أن “الأزمة ليست مغربيّة حصراً، بل مشكلة عالمية”، مشيرةً إلى أن “التحول لا يخلو من توتر تبدو تجلياته في شكل أزمة ترافق الظواهر، بحيث نتحدث عن أزمة القيادة، أزمة الأسرة، أزمة الشباب، أزمة التربية وأزمة الإنتاج الأدبي وغيرها”، وزادت: “العلوم الاجتماعية تغدو مجتزأة بدورها لتستوعب تجزيئ الواقع ومنطق تعدد الأزمات. أزمتها هي أزمة موضوعها، أي واقع الإنسان وظواهر المجتمع وتصوراته لمجتمعه ولتاريخه”.
ولفتت بوقية إلى أنه “على الرغم من التطور الذي عرفته الإنسانية على مستوى الرفاه الاقتصادي والتقدم التكنولوجي، مازالت هناك أزمة صراعات وحروب وتحولات جيو-سياسية، وأزمات اقتصادية وصحية وتربوية مطروحة في كل البلدان، مثلما ثمة أزمة الروابط الاجتماعية، وأزمة الديمقراطية التي يعيشها العالم اليوم، وأزمة التكنولوجيا والتّحول المناخي، وغير ذلك”.
المصدر: وكالات