يرى عالم السيميائيات سعيد بنكراد أن نظرية السبرانية دالة في الاستعمالين العلمي والسياسي على “فن التوجيه والقيادة والمراقبة”، من مفهوم مركزي يختصر وحدة القدرة التي تمتلكها المؤسسات على إعادة إنتاج نفسها والتحكم في دينامية البناء الاجتماعي واستيعابه ضمن غايات تحددها السياسة والعقائد والإيديولوجيا .
وأوضح السيميائي المغربي، في مقال توصلت به جريدة هسبريس الإلكترونية بعنوان “الكوطا وضوابط التّمثيلِ الموجّه”، أن الأنساق تستطيع خَلْق حالة تماسك داخلي مستمد من قدرتِها على الالتفافِ على ما قد يَتَطوَّر أو يَنمُو خَارِج قَواعِد بِنائِهَا، وذلك بالاستناد إلى مبدأ “الاستعادة الدائمة”.
وقال بنكراد: “انطلاقا من هذا المبدأ اشتق مفهوم الاسترجاع الذي يشير إلى السيرورة التي يستطيع داخلها الفعل المنجز آنيا التأثير في سبب وجوده في ارتباطه بنسق يبرره”، موردا أن “كل نتيجة تؤثر بشكل استرجاعي في سببها، وكل شيء يجب أن ينظر إليه باعتبار بعده الدائري لا الخطي”، موضحا أن “المعلومات الخاصة بِالفِعْل قَيْد الإنْجاز هي التِي تُغذِّي النَّسق بِشَكل اِسْترْجاعي وتُمكِّنُه من تَحقِيق غاياته”.
نص المقال:
اِنْطلَقتْ السَّبرانيَّة، وهي نَظَريَّةٌ دَالَّة في الاسْتعْماليْنِ العلْمِيّ والسِّياسيِّ على “فنِّ التَّوْجيهِ والقيادةِ والـمراقبةِ”، من مَفهوم مَركَزِيٍّ يَختَصِر وَحدَه القُدرةَ التِي تَـمْتلكُها المؤسَّساتُ على إِعادةِ إِنتَاج نفْسِهَا والتَّحكُّمِ في دِيناميَّة البنَاء الاجْتماعيِّ واسْتيعابِه ضِمْن غاياتٍ تُحدّدُها السياسةُ والعقائدُ والإيديولوجيا. فاسْتنادًا إِلى مَبدأ “الاسْتعادة الدَّائمة” تَستطِيعُ “الأنْساقُ” خَلْق حَالَةِ تَماسُكٍ دَاخلِيٍّ مُستَمَدٍّ من قدرتِها على الالتفافِ على ما قد يَتَطوَّر أو يَنمُو خَارِج قَواعِد بِنائِهَا.
ومن هذه الاسْتعادةِ اشتُقَّ مَفهوم “الاسْترْجاع” الذِي يُشير، ضِمْن هذه النَّظريَّة، إلى “السّيرورة التي يَستطِيعُ دَاخلِها الفعْلُ الـمُنجز آنيًّا التَّأْثيرَ في سببِ وُجودِه في اِرْتباطه بِنَسقٍ يُبَرّره، فَكُلّ نَتِيجَةٍ تُؤثِّر بِشَكل اِسْترْجاعيٍّ في سببِها، وكلّ شَيْءٍ يَجِب أنْ يُنظَر إِليه بِاعْتبار بُعْدِه الدَّائريِّ لا الخطِّيِّ”. ووفْق هذه السَّيْرورةِ سَيكُون الوُصولُ إِلى النَّتيجة “أ”، مَشرُوطاً بِتضْمِين الفعْل مَجمُوعةً من العناصر يَجِب أنْ تَقُود إِلى هذه النَّتيجةِ دُون سِواهَا، وهو ما يَعنِي أنّ “المعلوماتِ الخاصّةِ بِالفِعْل قَيْد الإنْجاز هي التِي تُغذِّي النَّسقَ بِشَكل اِسْترْجاعيٍّ وتُمكِّنُه من تَحقِيقِ غاياته”. وبِهذا تَكُون النَّتيجةُ سَابِقةً في الوُجودِ على السَّببِ. وذاك ما تمارسه كلُّ مؤسّسات الدّولةِ. فتربيّةُ النّشءِ على قيمٍ بعينِها، سياسيّة أو دينيّة، يَقتضي صياغةَ برامجَ تعليميّة وترفيهيّة لا يُمكنُ أنْ تقودَ إلا إلى ما يُدعّمُ هذه القيمَ ويُغذّيها.
فَإذَا كُنَّا نَستطِيع، اِنْطلاقًا من هذا المفْهوم دائماً، قِيَاسَ المسافاتِ المحْتملةِ بين قَذِيفَةٍ يلْفظهَا مَدفَعٌ أَرضِيٌّ، وبين طَائِرةٍ تُحلِّقُ في السَّماء، من خلال ضَبْط المداراتِ الممْكنة بينهما، كان بِاسْتطاعتنَا أيضاً “التَّحَكُّم” في السُّلوكِ الاجْتماعيِّ في كُلِّ مُسْتوياته من خلال تَوجِيهٍ قَبْلِيٍّ، ما يُشْبِه البرْمجةَ المسْبقةَ التي يَتَحدَّد ضِمْنهَا كُلُّ شَيْء في حَيَاة الأفْرادِ والجماعاتِ، الذَّوْقُ والوجْدانُ ومبرِّراتُ الأحْكام وردُود الأفْعال. إنّنا من خلال ذلك نبلورُ نماذجَ سلوكيّةً موضوعةً للتّوارثِ والاستنساخِ.
يَتَعلَّق الأمْرُ بِشَرطٍ من شُرُوطِ وُجُودِ السُّلْطةِ ذاتِها، فآليَّات التَّحَكُّمِ عندهَا تَتَميَّز بِما يَكفي من المرونةِ ما يَجعلها قادرةً على اسْتيعاب تناقضاتِها الدَّاخليَّة، ما يُفْرِزه المجْتمعُ من “ظَواهِر” يَجِب أنْ تُعَالَـجَ ضِمْن قَواعِد النِّظَام نَفسِه، وتتمَيَّز بِما يَكفي من القُوة ما يُـمكِّنُها من صدِّ كُلِّ المؤثِّرات التي تُهدّدُ وجودَها، فالنّسقُ يَتَوفَّر على كُلِّ ما يُحَصّنُه ضِدَّ العناصر التي تَأتِيه من خَارجِه. وهذا معناه أنّ النَّسقَ يرتبط في وجودِه واشتغالِه بِقواعدَ دَاخلِيّةٍ تَضْمَن لَه الاسْتمْرارَ والحفاظَ على كِيانه، ويرتبطُ ثانيًا بِقدْرَته على تَوقُّع السَّلوكات الممْكنةِ التِي قد تَخرِقُ اِسْتقْبالا قوانينَه وتهدِّده بِالانْهيار الكُليِّ.
إنّ وُجُود السُّلْطة لَيْس شيْئًا آخر غَيْر حَالَة التَّوازن هَاتِه. ذلك أنّ “استِباق الفعْل”، استناداً إِلى مَفهومِ الاسْترْجاعِ، يُعَدُّ جُزْءًا من الفعْل الـمُنجزِ نَفسِه. فَإذَا كان التَّطَوُّر قدرًا لا رادّ لَه، فَإِنّ التَّحَكُّمَ فيه وتوْجيهَه أَمْرٌ مُمْكِن من خلال إِسقَاط حالاتٍ تُسْهِم في تَحدِيدِ مساراتِه المحْتملَةِ. بِعبارةٍ أُخرَى، يَقتَضِي الاسْترْجاعُ أَلَّا نَمنَعَ الفعْلَ من التَّحَقُّق، فَهذِه حَالَة صِدامِيَّة قد لا نَستطِيع التَّحَكُّمَ في نتائجِها، بل عليْنَا الدَّفْع بِه إِلى التَّحَقُّق بِما لَا يُشكِّكُ في الأُسس القيميةِ التي انبنَى عليْهَا النِّظَامُ، بِبعْدَيْه السِّياسيِّ والاجْتماعيِّ، وربما الدينيِّ أيضاً.
ويدخلُ ضِمْن آليَّات الاسْتباقِ هَاتِه كُلُّ البرامجِ الموجَّهةِ لِلعموم بِالسَّمْع والبَصر والتَّلقين المباشر، بِما فيهَا بَرامِجُ المدرسةِ والجامعات والوصلاتِ الإشهاريّةِ وحلقَات الذِّكْر الدِّينيِّ والتَّرْبيّة الوطنيَّة وصياغةِ الأخْبار وتدوِينِ الوقائعِ وسردِها، وتدخُل ضِمْنهَا أيضاً، وبشكلٍ صريحٍ في هذا المسْتوى، كُلُّ التَّشْريعاتِ والقرارات السِّياسيَّة المواكبة لِحركِيَّة المجْتمع وتحوُّلاته. إنّ القوانينَ ليست شيئاً آخر غير ضبطِ إيقاعِ التّطورِ وفق ما يُفرزُه حضورُ النّاس في المجتمعِ كما يُمكن أنْ يَتجسّدَ في سلوكِ الأفرادِ والجماعاتِ.
ووفْق هذا التَّصَوُّر يَجِب التَّعاطي مع أَجهِزة الدَّوْلة، الإيديولوجيَّة والسِّياسيَّة. فالأمْنيُّ عندهَا تَدبِيرٌ لِلطَّارئ من الأحْداثِ، أَما حالاتُ الاسْتعادةِ الدائمةِ للنّظامِ، فَهي طبيعتُها الأصْليَّة، إنّها تُشكّلُ عمقَها الإيديولوجيَّ. إنّ النِّظَام لا يُعْطِي “بِغَير حِسَاب”، إنّه يَمنَح قليلاً لِكيْ يَأخُذ كثيرا بما في ذلك ما يضمنُ أسبابَ أمنِه وبقائِه. ولا يَندَرِجُ هذا الأمْرُ ضِمْن تَصرِيفٍ دِيمقْراطيٍّ لِلاخْتلافِ، بل هو جُزْءٌ من لُعبَةٍ سِياسِيَّةٍ “مُشَوّشِةٍ” تَتِم دَاخِل فَضَاء يَشكُو من خَصَاص حَضارِيّ لَم يَستَطِع بَلورَة “ثَوابِتَ” هي الضَّمانة على التَّعَدُّد والتَّنوُّع والاخْتلاف في السِّياسة والدّينِ والفِكر والاخْتياراتِ السُّلوكيَّةِ، الفرْديَّة منها والجماعيَّة. فَفي غِيَاب هذه الثَّوابتِ، قد تُصْبِحُ كُلّ “التَّنازلات”، في السيّاسةِ والهندسةِ الاجتماعيّةِ، مُجرَّد مُقَايضَة، أي آليَّة من آليَّات الاسْترْجاع الإيديولوجيِّ والسياسيِّ، ما يُمْكِن اِعْتبارُه مُحَاولَةً دَائِمةً لِاحْتواء التَّباشيرِ الأُولى لِلتَّحوُّلات الاجْتماعيَّة والسِّياسيَّة.
ونمَطُ اشتِغالِ هذه الآليَّات وَحدَه قد يُمَكّنُنا من الإحاطةِ بالـمضْمونِ الحقيقيِّ لبَعض الأنْماط “الانْتخابيَّة” التي يُصَنِّفها الكثيرون، سلْبًا أو إِيجابًا، ضِمْن مُمارسَة “دِيمقْراطيَّة من نَوْع خاصٍّ”، هي في وَاقِع الأمْر جَوَاب تِقْنيٌّ/عَددَيٌّ عن حَالَة “تَطوُّرٍ مَحجُوزٍ” دَاخِل مُجتَمَع مُتَعدّد الإيقاعات والـمظاهر وعاجِزٍ، نَتِيجَة لِذَلك، عن اِحتِواء كُلِّ حالات تَخلّفِه وتقدُّمِه. وتتمَثَّل هذه الممارسةُ في بَعْض “التَّدابير التَّشْريعيَّة” التي تَتَمكَّن بِفضْلِها فِئةٌ ما، أو نَوْعٌ اجْتماعيٌّ، من الحُصول على تمْثيليَّة سِياسِيَّةٍ دَاخِل المؤسَّسات خَارِج الآليَّات المباشرة لِلممارسة الدِّيمقْراطيَّة عبر اقتراعٍ حرٍّ. يتعلّقُ الأمرُ بما يُشْبِه “المحاصَصة” التي لَا تَختَلِفُ في جَوهرِها عن كُلِّ أَشكَال المحاصَصات الموجَّهةِ نَحْو الحفَاظ على مَكاسِبَ تَخُص طَائِفةً دِينيَّةً أو مَذهبِيّة أو أَقَليَّة “عِرْقيَّة”.
والمقصودُ بهذه التَّدابير ما يُطلَقُ عليْه في الأدبيَّات السِّياسيَّة الجديدة” الكُوطا” أو المحاصَصة، وهي الحِصّةُ المعْلومةُ من المقاعدِ البرْلمانيَّة التي خُصّصَت لِلنِّسَاء في مَرْحَلة أُولَى، وامْتَدَّتْ لِتشْمل في مَرْحَلة ثَانِية فِئة “الشَّبَاب”، وقد تَزْداد اِتِّساعًا لِتشْمل فِئَات أُخرَى لا أحد يَعلَمُ عددَها سوى العارفين بِأسْرَار التَّقْطيع الانْتخابيِّ، ما يَعُود في ذلك إِلى تَحدِيد عدد الدَّوائرِ ومكاسبِ التَّوافقاتِ السِّياسيَّة في الوقْتِ ذَاتِه (تراجعت الدولةُ في الانتخابات الأخيرةِ عن “لائحةِ الشّباب” ولكنّها احتفظتْ بلائحةِ النّساء، مِمَّا أَثَار سُخْط الشَّبَاب اليمينيِّ واليساريَّ والإسْلاميِّ ومَا بيْنهمَا).
وهو ما يُفسِّر، في جُزْء منه على الأقلِّ، المعاركَ والـمؤامراتِ والمؤامرات المضادَّة والدَّسائسَ وكلِّ أشكالِ الكيدِ التِي رافقتْ تَشكِيل اللَّوائحِ عند جميع الفرقاءِ المتنافسين، مما انْزَاح بِالتَّمْثيليَّة، في الكثِيرِ من الحالاتِ، عن طابعِها “النوْعِيِّ” أو “الفئَويِّ”، لِكيْ تُصْبِح تعْبيرًا عن حالات إِحبَاطٍ عند من أعْياهم اِنتِظار ثَورَة لم تَأْتِ، أو من يبْحثون عن رِبْحٍ شَخصِيٍّ سريعٍ لا يُكلِّف الكثِيرَ من التَّضْحياتِ، ولا يَستدْعِي جُهْدًا كبيرًا في النِّضَال، في الوقْتِ ذَاتِه.
لذَلك قد تَبدُو هذه الكُوطا آنيًّا، في حَالَة المرْأة مثلاً، إِحْقاقًا لِـحقٍّ ضاع يَجِب اِسْترْدادُه، ولكنّها لا يُمْكِن أن تَكُون حلًّا سِياسِيًّا دائماً لِمعْضِلةٍ ثَقافيةٍ/حَضارِيّة، على المدى البَعيد. وأمْر ذلك بَيِّنٌ، فالمرأةُ ليست طرفاً في صراعٍ اجتماعيٍّ، وليست جزءاً من مشروعٍ سياسيٍّ منفصلٍ عن مشاريع الرّجال، ولا تتحرك ضمن مساحةٍ ثقافيّةٍ تخصّها وحدَها. لذلك كانت الكوطا تعبيراً عن شَكْلٍ تواصليٍّ لا يَستشْرِف أُفُقا جديدًا، وإِنّما يُعيد رَسْم خَرِيطَة السَّائدِ القيَميِّ بِكلِّ تناقضاته وفق حاجات آنيةٍ، بِمَا في ذَلِك الإرْثُ الدِّيمقْراطيّ الغرْبيُّ الذي نَهتدي بالكثيرِ من نماذِجه، فَلم تَحصُل المرْأةُ الفرنسيّةُ مثلا على حَقّهَا فِي التَّصْويتِ إِلَّا فِي نِهاية الأرْبعينيات مِن القرْن الماضي، أيْ بَعْد مُرُور أَكثَر مِن قَرْن ونصْف على الثّورةِ الفرنسيّة الكبرى( ثَورَة 1789).
ووفْق هذه الشُّروط، يُمْكِن أنْ تُصْبِح الكُوطا، في غِيَاب مَشرُوعٍ سِياسيٍّ مُضَادٍ يَتَطوَّر خَارِج النّماذجِ الاجتماعيّة السائدةِ، مُجرَّد تَرمِيمٍ سِياسيٍّ لِوَضع مُختَلٍّ، هُنَاك دَاخِل النِّظَام وَخارِجه من لا يَرغَب في تصْحيحِه؛ ورُبّما تَتَحوَّل، على مُستَوَى التَّشْخيص الدِّيمقْراطيِّ الشَّامل، إِلى عَائِق فِعْلِيٍّ أَمام تَطوُّرٍ مَوضُوعيٍّ يَنبُعُ من قَلْب التّاريخِ، ويسيرُ نَحْو إِرسَاءِ قَواعِدَ مُساوَاة حَقيقِيّة يَجِب أنْ تَختَرِق آثارُهَا الفضَاء الاجْتماعيَّ كُلَّه: في جميع هذه الحالات، تَقُوم القاعدةُ الانْتخابيَّةُ على التَّمْثيل الفئَويِّ/العدَدي وليْس السِّياسي.
وهو ما يَعنِي أنّ الكُوطا هي، بِالصَّريح الواضحِ، طَرِيقَةٌ جَدِيدَةٌ في تَدبِير الصِّرَاع السِّياسيِّ خَارِج الفضَاء العموميِّ، وخارِج كلّ حالاتِ أشكالِ التّشابكِ المحْتملة التي تمثّلُها منظماتُ السياسةِ ومنظماتُ المجتمعِ المدنيِّ. إنّها بِصيغة أُخرَى، ليسَت ترْسيمًا قانونيًّا وتشْريعيًّا لِتطوّرٍ حَقيقِيِّ ينتشرُ في كلّ تفاصيلِ المجْتمع، بل هي “مُقَايضَة” قد تَتِمُّ، في الكثِيرِ من الوضْعيَّات التَّمْثيليَّة، على حِسَاب الممثَّلات أَنفسِهنَّ. فــ”ممثِّلاتُ” النِّسَاء في البرلمانِ والغرفِ المهنيّةِ لَسن صوْتًا لِلْمرْأة، بل هُنَّ رأْياً حِزْبيًّا فِي بعض قضاياهَا، وفق مصادر فكريّةٍ أو عقديّةٍ سابقةٍ هي غايةُ التّمثيلِ لا مصالح الجسمِ النّسائيِ في المجتمعِ كلِّه.
وقد يَكُون أَمْر كُوطَا الشَّبَاب من طَبِيعَةٍ أُخرَى. فَهؤُلاء لا يُمثِّلون مَصالِح قَارَّة، ولا يَصْدرون عن وَعْي مُوحَّد، ولا يُشكِّلون كُتلَةً اِنْتخابيَّة مُنسجمَةً، ولا يَشْكون من حيفٍ تاريخيٍّ أو سياسيٍّ. فالشّبابُ على عكسِ “النّوع” في حالةِ المرأةِ، زمنيٌّ وعابرٌ في الذّاكرةِ، لذلك قد يكونُ مصدراً للكثير من الالتباساتِ: فهل تَشمَل “فِئة الشَّبَاب” الذَّكر والأنْثى؟ أم أنّ الشَّبَاب في العُرف السِّياسيِّ الجدِيدِ “فِئة ذُكورِيَّة” مَخصُوصةٌ يَجِب التّعامُلُ معها كما نتعاملُ مع النِّسَاء، وكما نَتعاملُ مع حقوقِ ذوي الاحتياجاتِ الخاصّة؟ في هذه الحالةِ لن تكون السيّاسةُ قد تخلّصتْ من إكراهات الميزِ الذكوريِّ.
إنّ المرْأة “نَوْع قار”، أَمًّا “الشَّبَاب” فَمَرحلَةٌ عُمْرِيةٌ عَارِضةٌ، لا تَتَمتَّع بِأَيةِ خُصوصِيَّة: نزلَ الآلافُ من الشَّبَاب إِلى الشَّوارع يُطالبون بِالعوْدة إِلى تشريعاتٍ قديمةٍ تُبيحُ الجلْدَ والرجْمَ وتطالبُ بتطبيقِ أحكامِ الردّة؛ وخرجَ الآلاف مثلهم يَستشرفون مستقبلا جديداً يُبنى وَفقَ ما تقتضيه مساواةٌ تتحقّقُ في الثروات والحظوظِ والتّمثيلِ السياسيّ. لم يمنعهم سنُّهم، في الحالتين معاً، من الدّفاع عن قيمٍ موغلةٍ في التّقليدِ أو في الحداثةِ. لِلْمرْأة مَطالِبٌ حَضارِيّةٌ مَعرُوفةٌ، لَعلَّ أبْرزَهَا اِسْتعادة كَرامَة أُهدِرت على مرِّ التّاريخ، أَما الشَّبَاب فلَا يُمْكِن تَحدِيد سَقْف سِياسيٍّ أو أيديولوجيٍّ يَجمَع بينهم.
لِذَلك، لا يُمْكِن أنْ يُصنَّف أَمْرُ التَّمْثيليَّة الخاصّة في حَالتِهم، ظَاهرِيا على الأقلّ، إِلَّا ضِمْن العبثِ السِّياسيِّ، ولكنّها تُعَدُّ مع ذلك، استناداً إِلى مَفهومِ “الاسْترْجاع” المحالِ عليه أعلاه، مُحَاولَةً لِاسْتيعاب العنصرِ “الـمُشوِّش” ضِمْن المؤسَّسة، تِلْك المظَلَّة التي نَستطِيع تَحتهَا إِعادةَ إِنتَاج القيّم القديمةِ، ومن خِلالِها نَستعِيدُ “الـمُنشقَّ” و”الـمنفلتَ” والذي “يتأبّى على الضبطِ”. إنّ الاسْترْجاع فيهَا يتحقّقُ على مُسْتوييْنِ: مُستَوَى خاصّ يَتِم دَاخلَه ضَبْطُ العلاقةِ بين الحزْب وشبيبتِه: عوض إِرسَاء دِيمقْراطيَّة دَاخلِية تَقُومُ على تَفاعلٍ يَشمَل الأفْكار والتَّصوُّرات وتبادل المواقعِ، هُنَاك الرَّيْع الحزْبِيّ القائمِ على “الولاءِ”، فهو وحده يُـمكن أنْ يشكّلَ بَوَّابةَ التَّوالدِ الذَّاتيِّ لِلسَّائد والـمأْلوف والـمتوارثِ، إنّه نَقْل بسيطٌ وسلِسٌ لِخبْرة تَتِمّ خَارِج مُمكنَات التَّجاذب بين الأجْيال.
ومسْتَوى عام يَتِمّ دَاخلَه التَّحَكُّمُ في الطَّاقة الشَّبابيَّة وتوْجيهِهَا. فَمن خلال هذه التَّمْثيليَّة تُنقَل المعْركةُ من الشَّارع إِلى المؤسَّسة، من الفضاء العموميِّ إلى المقرّاتِ الحزبيّةِ: الشَّارع مَفتُوحٌ على كُلِّ الاحْتمالات، أَما قُبَّة البرْلمان فتتحَكَّم فيهَا توجيهاتُ الحزبِ وضَوابِطُ السّلطةِ. بل قد تكونُ بُؤرَةً للمصالحِ أيضاً، فلا يرومُ المنتخبُ الشّابُ خدمةَ كلّ الشبابِ دائماً، بل قد يكونُ الدّافعُ إلى ذلك هو البحثُ أيضاً عن مجدٍ ذاتيٍّ. وفي الحالتيْنِ معاً تُـمْتَصّ الطَّاقةُ النِّضاليَّة الخلَّاقةُ لِلشَّبَاب ويَتِمّ تصْريفُها بِشَكلٍ هَادِئٍ.
فَفي غِيَاب “الثَّوابتِ” (الثَّوابت الحقيقيّة، أيْ تِلْك التي قَامَت عليْهَا الدَّوْلة المدنيّةُ الحديثةُ)، كُلُّ شَيْء مُحتَمَل ورهينٌ بالطَّريقة التي يَتِمّ بِهَا تَدبِيرُ تناقضاتِ السِّياسةِ والاجْتماعِ. فَقْد يُرْضِي هذا النَّمط التَّمْثيليُّ “نُخبَةً سِياسِيَّة” طَامِحةً إِلى تَمثِيل يَستوْعِب الكُتلة الاجْتماعيَّة في تَنوّعِها وغناهَا، ولكنّه سَيكُون في الوقْتِ ذَاتِه أَدَاةً تُسْتعْمَل في تَوجِيه كُلِّ التَّناقضات السِّياسيَّة واسْتيعابِها ضِمْن مَشرُوعٍ خاصٍّ، هو مَشرُوع المؤسَّسةِ بِمفْهومِها التَّقْليديِّ، خَارِج سَيرُورة التّاريخِ وضدًّا عليْهَا في الكثِيرِ من الحالاتِ.
يَتَعلَّق الأمْر بِـ”إجْهَاض” حَقيقِيٍّ لِلتَّطَوُّر أو التحكّمِ في صبيبِه، أو هو رَغبَةٌ في تَفادِي وُقوعِه أو تأْجيلِه، أو تقليصٌ لـمُمكناته. فالاسْتعْجال السِّياسيُّ “لِلْحداثة” شبيهٌ بــ”الطَّلْق” الـمُزيّف، إنّه يَكتَفي بِإشاعةِ “التَّحْديث” في الفضَاء العموميِّ، ولكنّه يُسَارِع إِلى اِسْتيعابِ قِيمٍ “الحداثةِ” ضِمْن مُؤسّسَاتٍ يَستفيدُ منهَا بَعْض “الحداثيِّين” على حِسَاب مضْمونِها الحقيقيِّ. وهو ما يُفسِّر إِمْكانيَّة بُرُوز جُزُر حَداثِيّة صَغِيرَةٍ وسط مُحيطَاتٍ من الجهْل والفَقْر والتَّخلُّف.
استناداً إِلى مَفهوم “الاسْترْجاع” أيضاً، هُنَاك مُحَاولَة لِاسْتباق الفعْل التّاريخيِّ وإفْراغه من مُحتوَاه الدِّيمقْراطيِّ، تمامًا كما تَستَبِق القذيفةُ الطَّائرةَ في السَّماء من خلال ضَبْط مَدَار مِثاليٍّ يَستوْعِب، في لَحظَة وَاحِدة، سُرعَة الطَّائرة وسُرعَة القذيفةِ، كما تصوّر ذلك نوربيرت فيينر، وهو منْ بلورَ هذا التصوّرَ. يَتِم في الحالة الأُولى، إِجهَاضُ الحركيَّة الاجْتماعيَّة وتحْويلِها عن مَسارِها الحقيقيِّ، ويسْتطيعُ المدْفعُ الأرْضِيُّ، في الحالة الثَّانية، تَحدِيدَ مَوقِعٍ خاصٍّ ضِمْن مَدَار مِثاليٍّ هو حَاصِل المعْلومات التي يُزوَّد بِهَا. وفي الحالتيْنِ معًا لا تَتَحدَّد النَّتيجةُ السِّياسيَّة بِاعْتبارهَا حَاصِل فِعْلٍ نِضاليٍّ، بل تُصْبِحُ هي ذَاتُها ما يَتَحكَّم في طَبِيعَة هذا الفعْل، وهي ما يُحدِّد مرْدوديّته بِشَكلٍ مُسبَقٍ من خلال “برمجةٍ” دائمةٍ للأدوار المنجزةِ في الحاضرِ أو المتوقّعةِ فقط.
قد تَكونُ الكُوطا، من هذه الزَّاويةِ، إِقْرارًا “صريحاً” بِالتَّخلُّف، أو هي “رَشوَةٌ” مقنّعةٌ، أي آليَّة مَركزِيّة في التَّحايلِ على التَّطَوُّر الطَّبيعيِّ للبنْيات الاجْتماعيَّةِ وقُدرتِها على إِفرَاز ما يَكفي من الغطَاء القانونيِّ لِاسْتيعاب عَناصِر التَّجْديد فيهَا. تماماً كما هو الاحْتفاء بِنَوعٍ تواصليٍّ جديدٍ يُنَادِي بِاسْتعْمال الدَّارجة لِمخاطبةِ الشَّعْب لأنّ الأُميّةَ مُنتشرَةٌ في صُفوفِه. فعوضَ أنْ نُحاربَ الأميّةَ ونُشيعَ أجواءَ المعرفةِ ونَرقى بمستوى النّاسِ، نُسارعُ إلى قبولِ أمرٍ واقعٍ بدعوى أنّ أصالةَ الشّعبِ في لغتِه. إنّها صِيغة مُثلَى لِتعْمِيم الجهْل.
المصدر: وكالات