بعنوان “الصّورةُ ومآلاتُ النّظرة” صدر عن المركز الثقافي للكتاب أحدث كتب عالم السيميائيات المغربي البارز سعيد بنكراد، مهتما بقصة بحث الإنسان عن نفسه والبقاء، منذ عصور الرسوم الصخرية الأولى إلى العالم المعاصر، ومهتمّا بنشأة الصورة واللغة والإيماءة، والمبادئ التي يقوم عليها وجود واشتغال الصورة، ثم الصورة الإشهارية من حيث توجيهها سلوك الناس وحجبها اللغة؛ قبل أن يتوقف الأكاديمي عند الوجهِ “اليافطة البرّانيّة التي نُمسك من خلالها بأسرار النفس”.
ويقدّم الكتاب الجديد مع كلّ فصلٍ ملحقاً تطبيقيّاً يبحث في خصوصيّة ما عرضه القسم النّظريّ؛ إذ حلّل لوحةً تشكيليّةً للفنّانِ عبد الحفيظ مديوني، مبرزا “قوّة التّشخيصِ التّجريديِّ وقُدرتَه على امتصاصِ الحضورِ العينيِّ للشيء وتحويلِه إلى شكلٍ في العينِ”، وقدّم قراءةً لصورةٍ أبْرز من خلالها “آليات التّمثيلِ البصريِّ حين يَجعلُ من الشّكلِ واللّونِ مادّةً لبناءِ معانِيه، فكلّ المعاني في الصورةِ مبنيّةٌ وفق ما تقابلاتِ هذه الألوانُ”، كما أجرى تحليلا مكثّفا لصورةٍ إشهاريّةٍ خاصة بأحد البنوك، ساعيا من خلال ذلك إلى “الكشفَ عن البعدِ الإقناعيِّ في مجالِ التّسويقِ حين يَتّخذُ من قضايا إنسانيّةٍ وسيلةً للبيعِ”، وقدّم أيضا قراءةً للوحات الفنّانة نادية محفض؛ وهي “لوحات تُقدم للعين وجوهاً إنسانيّةً تنِزّ ألماً وعذاباً ومعاناة”، في “استكشافٍ لخارطةٍ هوَويّة تنتشرُ في الوجهِ، أو بسبْر لأغوارِ نفسٍ لا يقولُ الجسدُ في كليّتهِ إلاّ القليل عنها”.
ويكتب بنكراد أن الأساطير والحكايات القديمة والكثير من مخلّفاتِ الإنسانِ في الأرضِ لم تكن سوى “استعارة كُبرى حاولَ من خلالِها الإنسانُ العاقلُ تَشخيصَ ما لم تستوعبْه المفاهيمُ أو ما استعصَى على الضّبطِ التّجريديِّ فيها”؛ “فكانت الرّسومُ التي خلّفَها على جُدرانِ الكُهوفِ والصّخورِ جزءاً من هذه الاستعارة الشّاملةِ؛ لقد كانت هي التّباشيرَ الأولى لسيرورةٍ طويلةٍ ستَقودُه إلى الانفصالِ عن محيطِه واستعادةِ جزءٍ من إنسانيّتِه، كما يُمكن أنْ تُعبِّرَ عنها لغتُه وإيماءاتُه وطقوسُه”، وزاد: “هذا ما أسْهمَ في تَغييرِ شكلِ حضورِ الإنسان في العالمِ؛ لأنه امتدّ، في هذه المضافاتِ ومن خلالِها، خارجَ نفسِه وضمَّنَ محيطَه قلقَهُ وهوسَهُ بالحياة، ورغبَته في بقاءٍ يدومُ في الأرضٍ أبداً، بعدما كان في حاجةٍ إلى نوافذَ أخرى لا ليَرى من خلالِها، بل لكي يَتمكّنَ من التخلُّصِ من الرّؤيةِ في عيْنيْهِ، ومدّهُ الفنُّ بسلطةٍ مصدَرُها الأحاسيسُ وما تَهوَى الأنْفُس”.
ويردف السيميائي ذاته: “لقد كان الرّاسمُ، ذاك الذي كان يَخطُّ الخطَّ على جدرانِ الكهوفِ، يَبني عالماً على هامشِ ما كان يَعيشُه فعلاً أو ضدّاً عليه، أو ما لم يَنتبهْ إليه بشكلٍ واعٍ، في رغبة في إسقاطِ حيواتٍ مطواعةٍ في العينِ وقابلةٍ للتّمدّدِ في كلِّ ما تُحيطُ به النّظرةُ أو تَهفو إليه. لذلك قد يكونُ في هذه الرّسومِ ما يُوحي أو يُوهِمُ بنفَسٍ واقعيٍّ، ولكنّها لم تكن في حَقيقتِها سوى تعبيرٍ بصريٍّ عن حاجاتٍ لم يُدرك الإنسان كُنْهَها أبداً. وقد تكون الأيقوناتُ بعد ذلك مشابهةً لما كانت تقومُ بتمثيلِه، ولكنّها لم تكن أبداً مطابقةً له. وهذا دليلٌ على أنّ إنسانَ المغاراتِ لم يكن يُحاكي عالماً، بل كان يَبحثُ في الأشياءِ والظواهرِ والكائناتِ عن نفسِه.”
ثم يستحضر الكاتب أن رسومُ جدرانِ الكهوفِ بمرورِ الوقت ستُصبح “جميلةً”، كما ستُصبحُ “العذارى الرومانيّة” عملاً فنيّاً في أعيُنِنا، وإن كانَ الأمرُ يتعلّقُ في الحالةِ الأولى بتقنيّةٍ “كانت الغايةُ منها هي الحفاظَ على البقاءِ”، أمّا في الثانية فقد “أصبحتْ وسيلةً للخلاصِ”؛ ووفق هذا الإيقاع في تمثّلاتِ وُجودِنا في الفضاء العام “ستَكون صورُ السّيلفي الجديدة أيضاً دالّةً على اللّهاثِ وراء خُلودٍ في عالمٍ افتراضيٍ بلا ضفاف، فالنّاس يُحاولون من خلال صورِ المحاكاةِ المنتشرةِ في كلّ مكانٍ بناءَ عالمٍ يَقيهُم شرَّ الواقعِ وتعقيداتهِ”.
الإنسانَ إذن وفق بنكراد “بدأ مُتمْتِماً وخطّاطاً وانتهى ناطقاً في اللّغةِ وناظراً في العينِ؛ فالذي تعلّمَ كيف يَتحكّمُ في أصواتِه ويُوجّهُها لإنتاجِ المعاني هو ذاتُه الّذي روّض اليدَ وحوّلها إلى أداةٍ يَستطيعُ من خلالها تَوجيهَ الخطِّ والرّسمِ إلى ما يَقودُ إلى استحضارِ الغائبِ عن العين؛ وقد كان ذلك موازياً للصّوتِ، وكان هو سبيلَه إلى الكتابةِ أيضاً”، ثم يسترسل شارحا: “لقد تعلّم كيف يَصرخُ ويَستغيثُ رغبةً في الذّهابِ إلى الآخر، وتعلّم أيضاً كيف يَخطُّ على الجدرانِ رسائلَ موجّهةً للآتين، في الوقت ذاتِهِ؛ فلا يُمكنُ فصلُ اللّفظِ الذي كان يُحاكي أصواتَ الطّبيعةِ عن النّظرةِ التي تَسلّل من خلالها العالمُ إلى الذّاكرة البصريّةِ. الذي كان يرسمُ كان عاقلاً، فوحدهُ الإنسانُ العاقل يُمكن أنْ يخرجَ من ذاتِه ويُسقطَها على خارجٍ يُعيدُ فيه رسمَ قَدَرٍ جديدٍ غير ما تُريدُه الطّبيعةُ. ووفق ذلك كانت رسومُ الكهوفِ مهدَ ولادتِنا. وهذا كذلك مصدرُ الرّوابطِ بين الرّسمِ والكتابةِ والصّوتِ، بمعنى أنه ثلاثيٌّ تَبلوَر تزامنيّاً، وهو الذي وسّع من إدراكِ الكائنِ البشريِّ لنفسهِ ومحيطِه؛ فالحرف ذاته أساسُ الكتابةِ وشكلُها، كان وليدَ الخطِّ، أو كان يُمثِّلُ سنّ الرّشدِ فيه؛ وتلك هي قوتُه أيضاً، إنّه يُوجد في الشّكل من خلال خصائِصِه الذاتيّة، لا من خلالِ احتمالاتِ الصّوتِ فيه. إنّ الرّسمَ يَنفُخ في الحرفِ من داخلِه ليَدفعَه للخروجِ عن المَدى الصوتيِّ ليُصبحَ شكلاً في العينِ”.
ويتوقّف الكتاب في فصله الأوّلِ عند نشأةِ اللّغةِ والإيماءةِ، مختصرا ذلك في “الغْرافيّاتِ التي اعتبرَها الكثيرُ من الباحثين بدايَةً لنشأةِ اللغةِ ونشأةِ الصّورةِ ونشأةِ الكتابَةِ في الوقت ذاتِه”؛ لأن “الصّوتُ والخطُّ كانا مُترابطين منذ البدايَةِ. ومن الغْرافيّة نفسِها سيَنبثقُ الفنّ التّجريديُّ الذي لم يَحتفظ منها سوى بما يُمكنُ أنْ يُحيَل على دلالاتٍ استوطنتِ الأشكالَ والألوانَ.”
ويحدّد الفصل الثاني “بعض المبادئِ التي تَقومُ عليها الصّورةُ في وجودِها وفي اشتغالِها، أي ما يتعلّقُ بالاستِنساخِ والمحاكاةِ والتّمثيلِ الذي يَقومُ على استهدافٍ لا يَرومُ التِقاطَ الشّيءِ في حقيقتِه، بل يَهدفُ إلى اقتفاءِ سيرورةِ تحوّلِه إلى نظرةٍ صادرةٍ عن العينِ؛ ومن خلال ذلك حَاول تحديدَ طبيعةِ الرّابطِ بين الصّورةِ وبين ما تَقومُ بتمثيلِه”. ثم توقّف الفصلِ الثّالث عند الصّورةِ الإشهاريّةِ، مؤكّدا على “موقعها في حياة النّاسِ”، و”هشاشَتها أيضاً، فهي ليست من طبيعةٍ فنيّةٍ، فما تُمثّله عابرٌ فيها، إنّه موجّهٌ إلى استحضارِ قاعدةٍ للفعلِ هي ما يوجّهُ السّلوكَ الشرائيّ ويتحكّمُ فيه”.
وكتب بنكراد: “الإشهارُ يُخاطبنا بالصّور، ونَرى الفضاءَ العموميَّ وَفق ما تقترحُه علينا كلُّ التّمثيلاتِ البصريّةِ التي تُزيّنُ واجهاتِ المتاجرِ والألواحِ الإشهاريّةِ. لقد حَجبتِ الصّورةُ اللّغةَ وحلّت محلّها، فالكلماتُ في اللسانِ بطيئةٌ لا تَستعجِلُ القصدَ، أمّا الانفعالاتُ في الصورةِ فتُحاصرُ العينَ في عفويّتِها ضمن الهنا والآن”.
أما الفصل الرابع فيتوقّف عند الوجهِ “بكل الحمولاتِ الدَّلاليّة والهوياتيّة التي يَستثيرُها في الفضاءِ العُموميِّ؛ فنحن لا يُمكن أنْ نَحضرَ في وجودِنا في انفصالٍ عمّا يُمكنُ أنْ يقولَه الوجهُ عنّا، فقد يَكونُ كلامُنا ناقصاً ما لم تُصدّقْ عليه تَعابيرُ الوجْهِ، بالقبولِ أو الاستهجانِ”، ويردف: “الوجهُ ميزةَ الإنسانِ وحدَه، فلا وجهَ للحمارِ. وقد تكونُ هذه الميزَةُ هي التي جعلت الوجهَ مستودعاً لرمزيّةٍ انتشرت في كلّ مَناحي الحياةِ؛ فهو الوِجهةُ والاتجاه والوجاهةُ. إنّ الوجهَ في جميع هذه الحالاتِ هو اليافطةُ البرانيّةُ التي نُمسِكُ من خلالها بأسرارِ النّفسِ، إنّه ما يَدُلُّ على الكينونةِ وما يكشفُ عن أسرارِها أو يُداريها. إنّ العينَ تَستعيدُ منه أو تُضمّنُه ما هُرِّب في المجرّد في شكلِ انفعالاتٍ تستَوطنُ ما ظهرَ وما خفيَ من حضورِ الإنسانِ في عينِ الآخر”.
المصدر: وكالات