قال المؤلف الموسيقي نبيل بنعبد الجليل، أستاذ تاريخ الأفكار والفنون بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، إنه “خلافا للمنظور المبسط الذي يريد الأوروبيون أن تُرى به ‘النهضة’ كمرحلة ثقافة وحضارة واحدة فإن النقيض هو الحقيقة؛ لأن مدرسة النهضة عند الإيطاليين في الفنون التشكيلية كان الفلاماندريون على طرف نقيضها، وقبل ذلك بجيلين كانت هناك القوطية المخترقة للحدود؛ وكذلك الموسيقى الإيطالية بذوقها المتوسطي المنفتح على الشمس والمحب للحياة ليست هي الموسيقى البوليفونية الكنَسية التي ضاق بها الإيطاليون ذرعا في مرحلة النهضة، بعمقها العنيف السوداوي الجنائزي”، وزاد: “يجب أن ننظر إلى التوحيد في الذوق بشيء من النسبية”.
جاء هذا في أحدث حلقات برنامج “في الاستشراق”، الذي يقدمه الإعلامي ياسين عدنان، ويعرض على “منصة مجتمع”، حيث ذكر بنعبد الجليل أنه “في القرن التاسع عشر كان يقول نيتشه إن الموسيقى رائدة الفنون الآن، وهي المثال الأعلى الذي على كل أشكال الإبداع، وحتى الفلسفة، اتباعه، وكان يتكلم عن موزارت وبيتهوفن، وكان ضد القومية الألمانية، عكس ظن الغوغاء وعمليات الاستعادة بعده”، مردفا: “نيتشه كان يحب فاغنر، وبعد نهاية علاقته معه تأسف على ضياع البعد الأوربي، وتقوقع الهوية الألمانية حول وهم القومية”.
وتابع المؤلف الموسيقي: “مدرسة كنيسة نوتردام فرضت معها باريس، في الموسيقى خاصة، ذوقا أوربيا، لكن مع الحرب الإنجليزية الفرنسية وقع نوع من التبعثر (…) والتّماس شيء مفروغ منه تاريخيا وجغرافيا بين الموسيقى العربية والموسيقى الغربية العالمة، في الأندلس والبلقان وأوروبا الشرقية وسهول آسيا الوسطى في ارتباطها بروسيا. وكذلك طرب الآلة (المعروف بالموسيقى الأندلسية)، بمشاربه المختلفة في المغرب والجزائر وتونس، استفاد بشكل عميق جدا من الغناء الغريغوري، والموسيقى الكنَسية، وأخضعهما لمنطقه، وحوّر العناصر النغمية في لغة تستجيب للتعريفات العربية الإسلامية لما هو موسيقى، والعكس وقع بعد أن أصبح الغرب سيد اللعبة، إذ صارت الاستفادة من نقط التماس تتمّ بالعقلية الأوروبية”.
وواصل المتحدث: “الموسيقات العربية الإسلامية، متعددة اللغات والديانات، لها منطق معين، وهناك اختلاف في مفهوم الزمن بينها وبين الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية (…) الميزان الأندلسي مجموعة متتاليات من البطيء جدا إلى المتسارع جدا، لأن الموسيقى قالب ينجز في الزمن، وليست من مقوماتها الصدمة، وتطربك عندما تنسيك الزمن. أما منطق الأوروبيين فمنطق مختلف؛ متتالية من القطع الموسيقية على أساس التناقض، وهذا آت من الفكر المسرحي والتراجيديا، وبعدها درامي. والسيمفونية تصدمك بطول الوقت، وتُعَدّد الأصوات، بينما الموسيقى العربية زخرفة لا تنتهي، بلحن واحد له زخرفة لا تنتهي، وحرية الارتجال داخل اللحن والارتجال الجماعي”.
ثم قال الموسيقي نفسه إن “القرن السابع عشر عرف محاولات لاستلهام الشرق من منظور الحروب الصليبية والخطر العثماني، وانطلاقا من القرن الثامن عشر ظهرت ‘لطائف تركية’ من الهلال الذي يؤكل، وصولا إلى موضات تستهزئ من الترك، في الموسيقى، في إطار صراع جيو-إستراتيجي، ثم الاستشراق العجائبي بعد ذلك”.
ولو اعترض الباحث على صحة توصيف “الشرق” فإنه قسّم حضوره في الموسيقى الغربية إلى ثلاثة أبعاد: الشرق العدو والمنافس، والشرق العجائبي، وشرق الحكمة والتصوف والروحانية الموحدة مثل “أوبرا الملك روجي”.
ونبه المؤلف الموسيقي إلى “استعادة الاستشراق بحذافيره، في ألحان عربية”، متسائلا: “هل حدث ذلك التلحين النمطي عن الشرق، لضعف في الخيال، أم لكونه صار عنصرا ومثالا قويا يستشهد به؟”، كما ذكر في محطة لاحقة من “البودكاست” أن “المتطور يكوّن خطاباته التي يتصورها عن الآخرين، وما دمنا نستهلكها فنحن نتبع”.
وحول حملة نابوليون والنظرة للموسيقى الشرقية ذكر بنعبد الجليل أن هناك “نظرة تاريخية استعلائية للغرب للعالم، انطلاقا من مهمة محضّر العالم، وهي نظرة توجد خاصة عند فرنسا”، وانعكست أيضا على “الموسيقى العربية، برؤيتها باستعلاء، وتحقير، ونرجسية (هو) تعبير عفوي جدا عن حائط ثقافي ذوقي في استنطاق المعايير الجمالية، والسؤال الفلسفي حول ما هو جميل”، وهو ما حال دون رؤية الغناء المسمّى شرقيا، ومقترحاته اللحنية؛ ثم استدرك قائلا: “من الموسيقيين والموسيقولوجيين عندنا من يسميها فوضى منظمة خضوعا للرؤية الاستشراقية القديمة (…) دون وعي بأن هاته الهيتوروفونيا صارت من المؤسِّسات للموسيقى الكلاسيكية المعاصرة”.
وحول زيارات فنانين غربيين في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي إلى المغرب للتعرف على ألوان موسيقية من بينها موسيقى كناوة، أجاب المتخصّص في الموسيقى: “جاء هذا في سياق تاريخي طبعته إعادة اكتشاف حضارات لا غربية ولا أوروبية، في الثقافة الشعبية الغربية الجديدة، وهي مرحلة تفتّح عام على كثير من موسيقات العالم، وليست موسيقى كناوة فقط (…) في بحث غربي عن مخرج روحي لورطة الغرب المادية، وبحث عن ملاذات روحانية، فيها استمرار للتصور الاستشراقي المتعالي (…) رسم لنا الدور الروحاني”.
الباحث المدافع عن كون “الموسيقى لغة نسبية، لا لغة عالمية، تَنقل وتُفهم حسب شعور ونفسية ممارسها ومتذوقها”، يرى أن النظرة الاستشراقية المتعالية “مستمرة بشكل غير واعِ”، وتحضر أيضا في “المزج الموسيقي” اليوم، الذي تحضر فيه الموسيقى الشرقية، “في إطار إستراتيجية ما تمزج به من موسيقى غربية”، وفي إطار استهلاكي أوسع.
وحول عمله المستلهمِ موسيقى عيساوة ذكر المتحدث أنه سعى فيه إلى النظر إلى القربان بالعقلية الشعبية، بنظرة شبه أنثروبولوجية، بالاستماع جيدا إلى جيناته المكناسية، ودراسة عميقة لما قام به إيغور سترافينسكي مع ثقافته، ونفى عن هذا طابع الفصام؛ لأن “المؤلف هنا يعلم ما يقوم به، ويعي ما يوظّفه (…) دون غربنة؛ فلا أجري هذا بنوع من الفصام الذي ينظر فيه نصفي الغربي لنصفي الشرقي باحتقار. لست من هؤلاء، لأنه عند بعض المتحدثين عن تطوير الموسيقى المغربية والموسيقى العربية التطوير هو أن يقص لحنا ويجعله غريبا في بيته بين أهله، ويخضعه في أستوديو لعملية مزج (فيزيون)، وهو لم يدرس لا الموسيقى العربية ولا الغربية، والتطوير عنده هو الغربنة، أي أن يحمل لحنا من فوق الجمل لوضعه في سيارة الفيراري”.
المصدر: وكالات