قال المفكر المغربي عبد الإله بلقزيز إن “العلمانية أتت في حقبة من التاريخ الأوروبي والغربي لتؤدي وظيفة، أدتها وانتهى أمرها”، وأضاف في أحدث حلقات برنامج “في الاستشراق” الذي يقدمه الإعلامي ياسين عدنان: “كانت أوروبا مسرح حروب دينية بين جماعات من معتقدات مختلفة، فجاءت العلمانية لفك الاشتباك بينها، وإخراج الدولة من براثن الحروب الدينية (…) أما اليوم فالديانة الوحيدة التي يعتنقها الغرب هي الرأسمال، وهي الإله الذي يؤمن به، والتعبير عنه هو المصلحة”.
وواصل المفكر: “العقيدة في الوعي الغربي الجمعي، هي: أنّا كانت المصلحة فثمّة عقيدتنا. لذلك ينبغي ألا نستغرب كثيرا ظواهر كالتي نراها (اليوم)؛ القوةُ فرضت نفسها، أمريكا فرضت نفسها على العالم سواء بجّلت الله أو قدحت في الذات الإلهية، فذلك يسري على الأوروبيين، والمصلحة تقتضي أن تفرض دولةٌ المعايير الكونية، رغم وجود مجتمع دولي وميثاق وقانون (بين قوسين)، إلا أن شريعة الأقوى هي من تفرض نفسها، وهؤلاء الصغار يرتضون الخضوع لهذه الشريعة وأن يساهموا أيضا في تقديم السخرة لها، وينبغي ألا ننشغل كثيرا بقصة العلمنة في الغرب، وهل تخلّى عن علمانيته؟ فإلى حدود الآن الغرب يقول إن الحضارة الغربية هي القائمة على التراث الديني اليهودي المسيحي، فماذا ترك لك لتقول له؟! فقد بلع لسانه ومعه العلمانية، لأن المصلحة تقتضي هذا”.
وتابع صاحب “نقد الثقافة الغربية”: “التنميط والإرغام وفرض المعايير الوحيدة على كل العالم، هذا هو البرنامج الثقافي والسياسي للمشروع الغربي في حقبته الأمريكية الراهنة، وكل الدعوات التي تتعالى في العقود الأخيرة، نحو بناء نظام عالمي جديد متوازن، والاعتراف بمجالات حضارية أخرى صارت لها مكانتها في المعارف والعلوم والإنتاج الاقتصادي وغيرها، هذه المعركة الكبرى الحقيقية التي علينا أن نخوضها اليوم، لا أن نضيع وقتا طويلا في الحديث عن فكر الغرب وثقافة الغرب”.
واسترسل صاحب سلسلة “العرب والحداثة” قائلا: “نحن من صرنا حريصين على تراث الأنوار، ونحن الذين جعلناه تراثا إنسانيا، من عرب وصينيين وهنود ولاتينيين… عن قناعة، ولم يبق فقط تراثا أوروبا، لأننا تبنيناه وتشربناه واستوطن نسيجنا الثقافي، وإن تنكروا له ينبغي أن نكون أحرص على التمسك به”، فـ”الغرب ليس متمسكا بتراثه، ومنذ بدء حركة الاستعمار في نهاية القرن الثامن عشر، دمّر الغرب كل بنيانه الحضاري وتحوّل إلى عدو لذاته وللعالم، والرأسمالية غيّرت البشرية، هذا الوحش الذي اسمه الرأسمال غيّر كينونة الإنسان، والخيال الإنساني، والذوق الإنساني، والخيارات الإنسانية. لذلك أوروبا والغرب ثمرة للرأسمالية”، ومعنى ذلك أنها جبّت ما قبلها.
ووضّح المتحدث أن “محاولة يتيمة” قد تمّت “في العهد الكينزي في ما سمي بنموذج الدولة الاجتماعية، ونجح ذلك من نهاية الحرب العالمية الثانية إلى النصف الثاني من السبعينات، وهي لحظت انتهت، وفيها بنت أوروبا أمجادها. وجاءت ليبراليةُ الرأسمالية المتوحشة مع الرئيس الأمريكي رونالد ريغان ورئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر، وهي استمرار لأبشع أنواع العبودية في العصور القديمة، بوسائط أفعل في إيذائها للإنسان والحقوق الإنسانية، وهي التي جنت على البشرية كل الجرائم التي نعيشها”.
واعتبر كاتب “نقد السياسة” أن “على أوروبا إنقاذ نفسها”؛ فقد “ركبت جنونها وأوهامها بالتفوق، وخاضت معتركا أخذها إلى حتفها؛ الحرب العالمية الأولى والثانية وانتهت، فبعد 1945 انقسمت إلى أوروبا تابعة للاتحاد السوفياتي وأخرى تابعة لأمريكا، ثم قوة واحدة بعد الحرب الباردة، استلحقت أوروبا وحوّلتها إلى هامش؛ فمن الممنوع على أوروبا تشكيل جيش موحد، وجيشها هو حلف شمال الأطلسي، أي الجيش الأمريكي.”
ثم أردف قائلا: “أوروبا حكمت على نفسها بهذا الاندحار. والسؤال اليوم هو كيف نستعيد التراث التحرري الأوروبي من هذه التأويلات النيوليبرالية التي تقوم بها المؤسسة الأمريكية ونظائرها في أوروبا، فأوروبا اليوم أيضا ضد تاريخها التحرري في سياسات دولها وحكوماتها، ومواقف نخبها، وخطابات مثقفيها. كلها تنكرت لهذا الماضي التحرري الذي أعتبره اللحظة الإنسانية الخلّاقة في التراث الأوروبي التي صارت جزءا من التراث الإنساني، والتي علينا أن نستنقذها لا أن تُترك تحت تصرف مهندسي الخطابات النيوكولونيالية والنيوليبرالية المعاصرة في الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا، أما أوروبا فلا يعنيني أمرها فلتنقذ نفسها أو لتتورط كثيرا”.
وقدم المفكر مثالا عن أوروبا اليوم وتعاملها مع مواطنيها من أصول مهاجرة، قائلا: “هذا مواطنك، ومع ذلك لا تتعامل معه بحسبانه مواطنا، مما يعني أن مفهوم المواطنة ينبغي أن يعاد النظر فيه كله، وكل منظومة الفكر السياسي الأوروبي يجب أن توضع موضع فكر نقدي”؛ فالعرب أبناء أوروبا “دائما في عداد الآخر”، بعدما أشار ياسين عدنان إلى أن الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس قد تحدث عن مواطنيه من أصول أخرى بوصف “من يعيشون بيننا”.
وحول “المنعطفات الكبرى” من النهضة، والإصلاح الديني، والثورة العلمية، والثورة الصناعية، وحركات التوحيد القومي، والثورة السياسية، وعصر الأنوار، ذكر أن “كل هذا من فتوحات أوروبا التي تُحسب لها، لكن في المقابل لا ينبغي أن نغالي كثيرا في النظر إلى هذه الفتوحات إلى درجة أسطرتها، كما تفعل بعض خطابات التبجيل المركزي الأوروبي، والغربي عموما، إلى حدود محاولة تكريس الانطباع بأن هذه هي المعايير المعتمدة لقياس درجة التقدم أو التحضر أو التمدن في أصقاع العالم”، فهي “فتوحات لكن علينا النظر إليها نقديا.”
وقدّر بلقزيز أنه “في الأربعين عاما الأخيرة صارت الكلمة العليا للخبراء، لأن المعرفة بالشرق لم تعد معرفة بل خبرة، وإذا كان المستشرق الكلاسيكي على طريقة جاك بيرك أو ماكسيم رودنسون عندما يقرر التخصص في دراسات الشرق يذهب إلى الدراسات الصينية فيتعلم لغتها، أو الهندية، أو الكورية، أو الإسلامية فيتعلم اللغات الإسلامية العربية والفارسية والتركية والأردية، واللغات الأخرى المرتبطة بها من آرامية وعبرية، ثم يبدأ في قراءة الدوائر المختلفة الحضارية التاريخية الثقافية، لكي يتخصص”.
أما اليوم، فـ”المتخصصون، في شؤون الوطن العربي والعالم الإسلامي، بينما كان تكوين المستشرقين القدامى في الفلسفة أو الأنثروبولوجيا أو التاريخ أو اللغة، تكوينُهم في علم السياسة أو الاجتماع، ويتخرجون دون معرفة بالعربية، ثم يكلّفون بالذهاب إلى مصر أو تونس أو المغرب لستة أشهر، وعليهم تعلم اللغة العامية، فما يعنيهم ليس ثقافة النخب بل المجتمع، وحينها يصبح متخصصا في ذلك البلد عندما يعود!” وعلق بلقزيز: “هذا هو نوع المعرفة الغربية اليوم بمجتمعاتنا. ولذلك ترتكب هذه الحماقات السياسية من الحكومات الإجرامية الغربية في حق شعوبنا، وجزء من المسؤولية فيها بسبب أولئك الذين يقدمون إفادات عن هذه المجتمعات وشعوبها”، ثم استدرك قائلا: “هل يؤسسون وعي النخب السياسية أم إنهم يؤدون وظيفة مرسومة سلفا؟ أي إن هناك معايير موضوعة سلفا، وعلى هؤلاء الخبراء الاجتهاد في تنزيلها إعلاميا، بعدما أنتجتها المؤسسة السياسية، ولا أتصور في جملة هؤلاء الخبراء من هم في مستوى برنارد لويس الذي كان يصغي إليه البنتاغون والبيت الأبيض، أما هؤلاء فصغار وقاماتهم الصغيرة تصلح لأداء الوظائف الإعلامية في المقام الأول”.
وذكر المتدخل أن أوروبا “مزيج بين الادعاء بالتفوق والمعيارية، ونقد هذه الأزعومات من داخلها، وهذه فضيلة في الفكر الغربي الحديث، فما نسميه بعد الحداثة هي لحظة نقدية وضعت كل معمار الحداثة موضع فحص نقدي”.
كما قال: “أوروبا التي نتحدث عنها، أي أوروبا الأنوار والإصلاح الديني والعلمانية والديمقراطية والوحدة القومية والنهضة، هي التي أنجبت الاستعمار وكل الوساخات التي وصلت إلى لحظتها القصوى مع النازية والصهيونية والعنصريات المعاصرة، والألمان لا يتحملون وحدهم مسؤولية النازية، بل هي نتاج الحالة العامة التي كان من تجلياتها الاستعمار بالنسبة لفرنسا وبريطانيا.”
ولا يعتقد بلقزيز أن هناك قطائع في التاريخ الاجتماعي والثقافي، وشرح ذلك بالقول: “قد تكون القطائع في الطبيعة والأفكار العلمية، لكن في الفلسفة أو الفكر السياسي لا تكون. المواريث الحضارية لكل مجتمع لها أثر كبير، قد لا يكون ظاهرا، في تشكيل المخيال السياسي للجماعة الاجتماعية عموما، والنخبة القائدة بصفة خاصة.”
إذن، “الكثير من أفكار التفوق والتميز موجودة قبل الارتداد عن عصر الأنوار، لأن الأوروبي قبل أن يبدأ اكتشاف قدرته على فلق الأفق وارتياد المستحيل، بات يعتبر نفسه سيدا على العالم قبل القرن السادس عشر، ولو كان هذا موجودا في الكتابات اللاهوتية المسيحية منذ القرن الميلادي الثاني حتى القرن الخامس عشر، وكلها تطفح بشعور التفوق الديني، ثم أتى زمن صارت فيه نظرة مدنية، بين القرن السادس عشر والقرن الحادي والعشرين”.
وأكد المفكر أنه “لا نستطيع فهم الاستشراق على الحقيقة إلا بالعودة إلى ما قبله؛ كل ذلك الماضي الفكري الثقافي اللاهوتي الذي هيّأ لميلاد الظاهرة التي نسميها اليوم الاستشراق”، وأشار في هذا الإطار إلى أن حداثة هابرماس لم تمنعه من العودة إلى “العهد القديم”؛ فهذه “مسألة عقدية عنده”، ومعنى ذلك أن “علينا إعادة فحص هذه الحداثة”.
ورغم سقوط بعض الاستشراق في “الإفصاح عن النزعة المستقبحة التي هي المركزية الأوروبية”، لكنه، وفق بلقزيز، “في المقام الأول ميدان دراسي”، و”لا ينبغي غمط حق التيار العلمي في الاستشراق”، مع العلم أن “الاستشراق انتهى منذ ثمانينات القرن التاسع عشر، أي لم يعد يقدم شيئا، ولو بقي بعض رجالاته الكبار أحياء”.
ووضّح أن “الاستشراق أول ميدان أنتجته أوروبا عن الشرق كله، من الصين واليابان والهند وكوريا إلى العالم العربي، ويهمنا ميدان الإسلاميات، وقبل بدئه فرض نفسه كميدان دراسي، وهي ظاهرة بدأها الفرنسيون في مطلع القرن التاسع عشر، وبدأ مزودا بجملة من الموارد المعرفية التي لم تكن متاحة في ذلك الإبان للفقهاء أو الكُتّاب العرب والمسلمين، لذلك ظهر تفوقه، الذي كان منهجيا وفي المعرفة بالنصوص.
والاستشراق في الوقت عينه شكّل نهزة تُغتنم بالنسبة لحركة الاستعمار”، ونخبة من الدارسين والملمين بتاريخ الشرق ولغاته، الذي استُنتج أنه “يمكن الاستفادة من خبراتهم وتجنيدهم ضمن مشروع المؤسسة الكولونيالية”.
هذا التيار الأخير “ارتضى تقديم السُّخرة الثقافية للمؤسسة الكولونيالية”، حسب المتدخل، و”بعضهم اعتبر أنه يؤدي وظيفة وطنية قومية لصالح بلده، والبعض الآخر كانت الأجندة بالنسبة إليه علمية، للتخصص في دراسة هذا العالَم الآخر المختلِف بعد أن احْتاز الأدوات لدراسته، وأهمها اللسان”.
وذكّر بلقزيز بأن عبد الرحمن بدوي قد “فتح الباب للجيل الجديد” الذي بدأ من أنور عبد الملك، وإن كان بعض هذا الجيل درس على أيدي مستشرقين، مثل بدوي وحسن حنفي ومحسن مهدي ومحمد أركون… لكن الآخرين أبناء الثقافتين العربية الإسلامية والغربية، فكانوا يستطيعون التنقل السلس بين الثقافتين دون الشعور بالنقص، بل يشعرون بأنهم إذ يقاسمون مثقفي الغرب مرجعياتهم ومدوناتهم الفكرية، يتفوقون عليهم بالمعرفة بمجال حضاري آخر لا يعرفه هؤلاء الغربيون، وكان اطلاعهم على المناهج الحديثة أوسع بكثير من جيل طه حسين ومن قبله، مما جعلهم يفتحون مناقشة خصبة وندية”.
وزاد: “إدوارد سعيد كان الأعلى قامة وشأوا في كل الفكر الغربي على الإطلاق، وسمير أمين كان سلطة علمية في كل أوروبا، وكذلك جورج قرم ومحمد أركون”، لذلك خاطبوا الغرب “بحسبانهم أندادا لمثقفيه”، لأنهم “يحتازون الأدوات المعرفية التي تسمح لهم بأن يدافعوا عن التراث والحضارة من دون أن يسقطوا في تبجيلها، ومن دون أن يفقدوا حسهم النقدي، ومارسوا نقدا مزدوجا للآخر وللأنا، وهذا ما ميز هذه النخبة”.
المصدر: وكالات