قدّم محمد براو، مدير مجلة التدبير والرقابة على المال العام، وخبير دولي في الرقابة والمحاسبة ومكافحة الفساد، عددا من الإضاءات والملاحظات حول نظام الاقتطاع من أجور المضربين عن العمل، انطلاقا من الناحيتيْن الإدارية والقانونية.
وتناول براو، في مقال له، مجموعة من الجوانب المرتبطة بالاقتطاع من الأجر، خاصة ما يرتبط بـ”الأساس المادي للغياب”، “الإضراب”، و”الغياب غير القانوني”، و”شرعية الإضراب”، و”الحضور وعدم القيام بالعمل”، و”موقف القضاء”، و”العقوبة والعقوبة المقنعة”، و”الإجراء المحاسبي”…
هذا نص المقال:
يتعلق الأمر من الناحية الإدارية بإصدار أمر وزيري بالاقتطاع من الأجرة بسبب ما يتم وصفه “بالتغيب عن العمل بصفة غير مشروعة”، يوجه لمديرية الأجور التابعة للوزارة المكلفة بالمالية. ويتعلق الأمر من الناحية القانونية بالاستناد إلى القانون رقم 81 .12 (5 أكتوبر 1984) بشأن الاقتطاعات من رواتب موظفي وأعوان الدولة والجماعات المحلية المتغيبين عن العمل بصفة غير مشروعة؛ وعلى المرسوم رقم 1216.99 .2 (10 ماي 2000) بتحديد شروط وكيفيات تطبيق القانون المذكور؛ ويتعلق الأمر من الناحية الإجرائية بتوجيه استفسار للمضربين المبينة أسماؤهم بلائحة معدة لهذا الغرض، وبعد أن يتبين من خلال جواب المعنيين بالأمر أو سكوتهم أن أسباب تغيبهم عن العمل خلال الفترات الخاصة بكل واحد منهم غير مشروعة.
في الحاجة لإثبات الأساس المادي للغياب
يجب على الإدارة إثبات الصبغة المادية للغياب وليس فقط الاكتفاء بالتصريح بعدم شرعيته. وبخلاف ذلك، لا يمكنها الاقتطاع من الأجر؛ إلا بعد تقديم الدليل على عدم حضور المعنيين بالأمر. ولذلك فإن الأمر منوط بالإدارة لوضع وسائل المراقبة حتى تتمكن من تحديد الأشخاص المضربين والأشخاص غير المضربين. ويمكن للإدارة وضع نظام للمراقبة والرصد “pointage”.
في الحاجة لتكييف الإضراب بأنه غياب غير قانوني
يمكم للإدارة أن تعتبر أن الإضراب نتج عنه تغيب عن العمل، وأن هذا التغيب هو تغيب غير مشروع ما دام لم يصدر بشأنه إذن بالتغيب أو رخص مرضية أو عائلية أو ما شابه من الترخيصات المنصوص عليها في القانون الأساسي للوظيفة العمومية. فهذه الترخيصات ليس من بينها الإضراب. بعد ذلك وتأسيسا عليه يتم الأمر بالاقتطاع على أساس القانون الصادر سنة 1984 والمرسوم الصادر سنة 2000.
في شأن التوافق العام على أن شرعية الإضراب تبقى مصونة
مهما يكن من أمر الإجراءات الإدارية أو المالية، فالحق في الإضراب يبقى مصونا بموجب الدستور والاتفاقيات الدولية، ويظل بالتالي منزها عن أي منازعة من حيث شرعيته. لكن تقرير هذه المسلمة لا تأثير له على إعمال قاعدة الأداء مشروط بإنجاز العمل، وهي قاعدة آمرة من النظام العام المالي، لا يجوز الاتفاق على مخالفتها من طرف الدولة وأعوانها المكلفين بتنفيذ العلميات المالية والمحاسبية. وهي تعتبر في الاجتهاد القضائي المقارن بمثابة ثمن وتضحية يؤديها المضرب عن العمل من جيبه. أما إذا قررت الدولة إغماض العين عن تنفيذ الاقتطاع فتكون قد خولت منفعة نقدية غير مبررة للغير.
في حدود المقاربة المعمول بها أمام إشكاليات عملية مثل “الحضور وعدم القيام بالعمل”
في هذه الحالة سيصعب على الإدارة إثبات الأساس المادي للغياب لأنها تعتمد مقاربة غير دقيقة وغير ناجعة من وجهة نظري وهي مقاربة الشرعية القانونية للغياب أساسا للاقتطاع. إذ سيبقى عليها سد هذا الثقب من خلال الإشهاد في عين المكان ليس على الغياب لأن المضرب سيحضر وربما قد يوقع على الحضور، بل على عدم أداء الخدمة ومن هنا ننتقل من مقاربة الشرعية القانونية إلى مقاربة الشرعية المالية المحاسبية. وهي المقاربة الأسلم والأنجع بجميع المقاييس.
في ارتباك موقف القضاء بشأن أي المقاربتين ينبغي اعتمادها
هناك حيرة واضحة في موقف القضاء بهذا الشأن، ولا سيما قضاء الموضوع، فعندما ينخرط في اعتماد ومناقشة المقاربة القانونية فإنه يغرق في تفاصيل الأسباب والتعليلات القانونية والإجرائية مما يرجح كفة المطاعن في شرعية الاقتطاع أما محكمة النقض فإنها تلوذ بقانون المحاسبة العمومية دون تفاصيل تشفي الغليل.
عقوبة أم عقوبة مقنعة أم مجرد إجراء محاسبي؟ رأيي الشخصي
نستنتج مما سبق أن البناء القانوني والإجرائي المعمول به يبقى بناء غير متسق وتعوزه النجاعة، ولا يمكن فصله عن سياقه التاريخي الذي كان سياقا صراعيا غداة أحداث 84 التي انخرطت فيها أسرة التعليم فكان قانون 1984 قانونا ابن سياقه وانفعالاته، وتم سنه بخلفية العقوبة على الإضراب، وهذا ما تعبر عنه صياغة أسلوبه ونبرته، ورغم أن القضاء الإداري ومعه الوكيل القضائي للمملكة ينحوان منحى تجريد إجراء الاقتطاع من أي خلفية عقابية وأنه مجرد إجراء داخلي فإن المناقشة القضائية والمنطق القانوني المعتمد من ممثلي الدولة يؤكدان أن الأمر يتعلق بعقوبة مقنعة، وهذه شبهة كان بالإمكان تجاوزها بسهولة؛ لأن الأمر يتعلق في الواقع بمجرد قاعدة محاسبية فنية مفادها الأداء مشروط بإثبات العمل المنجز. وهي قاعدة إجرائية داخلية روتينية وتلقائية لا تحتاج لقانون أو مرسوم أو أمر إداري، أي لكل هذه الترسانة القانونية الجاري بها العمل (دبابة لتحييد ذبابة)؛ بل مجرد إخبار بعدم أداء العمل المنجز يوجهه الوزير الآمر بالصرف، يدعو فيه الخزينة العامة (مديرية الأجور) لاسترجاع المبالغ المالية التي تم أداؤها برسم الشهر السابق (الذي شهد الإضراب، استرجاعها من خلال اقتطاعها من مبلغ أجرة الشهر الموالي وكفى الله المؤمنين القتال… وللحديث صلة.
المصدر: وكالات