في الأسواقِ المغربيةِ منذُ أشهرٍ طويلةٍ يكتوي المواطنونُ بنارِ ولهيبِ أسعارٍ أثقلت كاهلَ البسيطِ، وحرمت الأفقرَ من موادَّ أساسيةٍ، من بينِ أسبابٍ عديدةٍ تشيرُ أصابعُ الاتهامِ إلى من يسمون الوسطاءَ.
هسبريس حاولت تتبعَ مسار خضرٍ وفواكهَ لرصدِ عددِ المتدخلينَ فيها، البدايةُ كانت من اشتوكة آيت باها، حيثُ توجد ضيعاتٌ هي مصدرُ موادَّ فلاحيةٍ عديدةٍ؛ منها الطماطمُ، دقت الجريدةُ بابَ المنتجينَ لمعرفةِ قيمةِ إنتاجِ هذه المادةِ.
فلاحون مهددون بالإفلاس
التقت هسبريس أحمد آيت داوود، فلاح بمنطقة آيت عميرة باشتوكة آيت باها، أكد أن ضيعات المنطقة وخاصة المشتغلة في الطماطم تعاني مشاكلَ عديدةً.
وقال: “نعاني مشكل غلاء المواد الأولية التي ارتفعت بشكل مهول هذا، ناهيك عن الأمراض المتعددة التي باتت تصيب النبات هنا”.
وأضاف: “نعاني كثيرا من الأمراض التي تضرب المحصول وتقضي عليها والتي زادت حدتها منذ سنة 2020 إلى اليوم”.
وعدّد آيت داوود أسماء هذه الأمراض والفيروسات: “توتا أبسوليتا، الفطريات مثل الباكتريوز، وغيرها”، مؤكدا أن من فلاحي المنطقة من اضطر إلى جني ضيعاته بالكامل في شهر يناير الماضي أو حتى أكتوبر الماضي، رغم أنه زرعها للتو”.
وأشار الفلاح إلى أن هذه الأمراض انتشرت بشكل واسع في المنطقة، و”حتى الأدوية المعتادة لم تعد تقضي عليها، إذ شكلت الفيروسات مقاومة ضدها”، حسب قول آيت داوود.
وأكد المتحدث أنه حين قدومنا إلى ضيعته كان فلاحو المنطقة يبيعون محصولهم بخسارة، قائلا: “منذ شهر أكتوبر حتى دجنبر، كنا نبيع المحصول بـ40 درهما للصندوق الذي يزن 31 كيلوغراما. ومنذ بداية شهر مارس، كنا نبيعه بما بين 50 إلى 70 درهما. أما اليوم فقد ارتفع السعر قليلا ليتراوح ما بين 80 إلى 90”.
وتابع قائلا: “إذا ما قمنا بقسمة 90 درهما على 30 كيلوغراما، فهذا يعني أن ثمن بيعنا للكيلوغرام الواحد لم يتجاوز 3 دراهم.. في المقابل، إنتاج كيلوغرام واحد يكلف الفلاح في الضيعة دون احتساب مصاريف نقلها إلى السوق ما بين 4 و5 دراهم”.
من جانبه، قال عبد العزيز المعناوي، رئيس جمعية اشتوكة للمنتجين الفلاحيين، إن “القطاع الفلاحي بمنطقة اشتوكة آيت باها يتجه إلى الهاوية، والفلاح لا يستطيع الاستمرار على هذا الوضع”.
وأضاف المعناوي، خلال لقائه بهسبريس، أنه “لا بد من القيام بوقفة تأمل للنظر في المشاكل التي تعتري القطاع”، مواصلا: “هي مشاكل عديدة جدا، والفلاح لا يستطيع المسايرة على هذا المنوال؛ فمع ارتفاع أثمان المواد الأساسية والبيع بأقل الأثمان لم يعد يستطيع المسايرة. لهذا، فإن عددا من الضيعات تم إغلاقها”.
وأكد المعناوي أن الفلاح ليس هو المسؤول عن ارتفاع أثمان المنتجات في السوق، مشيرا إلى أنه على العكس من ذلك هو أيضا “ضائع” وسط حلقة ودوامة مستمرة.
من الضيعة إلى أكبر الأسواق
انتقلنا من الضيعةِ إلى سوقِ إنزكانَ، أكبرِ الأسواقِ المغربيةِ، حيثُ سيعرضُ الفلاحونَ مُنْتُجهمْ ليُنقلَ إلى جميعِ مدنِ البلادِ. بعدَ صلاةِ الفجرِ، يصطفونَ في انتظارِ زبائنَ هم من سيحددونَ ثمنَ السوقِ.
حضرت هسبريس عملية البيع والشراء التي تنطلق باقتراح التاجر لثمن البضاعة، وعلى الفلاح أن يقبل أو يرفض الثمن؛ إلا أنه في غالب الأحيان يقبل خوفا من أن لا يبيع شيئا.
هنا، بالسوقِ نفسهِ، انتقلت الطماطمُ ومنتجاتٌ أخرى من الفلاحِ إلى تجارٍ سيبيعونها بالمكانِ نفسهِ، أو ما يسمى البيعَ بنصفِ الجملةِ، مرحلةٌ ثانيةٌ من سلسلةٍ طويلةٍ.
التقينا يوسف الساخي، تاجر الطماطم بسوق الجملة ونصف الجملة بإنزكان، واحد من التجار الذين اشتروا الطماطم من الفلاح وسيعيدون بيعها بنصف الجملة بالسوق.
الساخي أكد أن بضاعته خلال هذا اليوم اشتراها بمبلغ 110 دراهم للصندوق الواحد وأنه سيعيد بيع الصندوق بقرابة 120 درهما، أي أنه اشترها بحوالي 3 دراهم للكيلوغرام الواحد وسيعيد بيعها بقرابة 4 دراهم.
وعلل الساخي قائلا إن أرباحه لا تتعدى درهما واحدا وهو ثمن المصاريف، كأجرة المشتغلين لديه مثلا، موضحا أيضا أن من سيشتري منه سيبيعها بثمن أكثر.
من إنزكان إلى الرباط
ستنقُلُ هذه الطماطمُ من إنزكانَ إلى باقي مدنِ البلادِ، انتقلت هسبريس إلى سوقِ الجملةِ بالرباط، مرحلةٌ أخرى من مسارِ البيعِ قبلَ الوصولِ إلى المواطنِ.
التقينا هناك عبد اللطيف الكموني، تاجر بسوق الجملة للخضر والفواكه بالرباط، والذي يقتني بضاعته من إنزكان، والذي أكد بدوره أن ثمن بضاعته سيرتفع بسبب وجود مصاريف مثل التنقل أو أداء ضريبة الجماعة وغيرها.
وقال الكموني: “الصندوق حين نجلبه من أكادير وصولا إلى هنا فهو يكلفنا ما بين 20 و25 درهما كمصاريف نقل، ثم نؤدي للجماعة حوالي 20 درهما، ناهيك عن كوني كتاجر أرغب في أرباح ما بين 15 و20 درهم؛ وهي كلها مصاريف يؤديها المواطن”.
خلاصةُ تتبعِ المسارِ من إنزكان وصولاً إلى الرباط كانت أن الطماطمَ التي باعها الفلاحُ بحوالي ثلاثةِ دراهمَ هناكَ، أعيدَ بيعها بالسوقِ نفسه من طرفِ تجارٍ آخرينَ بحوالي أربعةِ دراهمَ للكيلوغرامِ الواحدِ، ثم ستباعُ بسوقِ الجملةِ بالرباط بحوالي سبعةِ دراهمَ ونصفِ الدرهم، ليصلَ ثمنُ البيعِ للعموم إلى حوالي عشرةِ دراهمَ.
الوسطاء ومراقبة التوزيع
محمد صديقي، وزير الفلاحة والصيد البحري والتنمية القروية والمياه والغابات، أكد، خلال لقاء بهسبريس، أن من بين أسباب ارتفاع الأسعار في الأسواق هو تدخل الوسطاء.
وقال صديقي: “رغم التحكم في حلقات الإنتاج والمدخلات الفلاحية والجني واللوجستيك شيئا ما، هناك حلقات التسويق والتخزين التي يوجد فيها متدخلون عديدون وقطاعات ومؤسسات”، أورد الوزير، مبرزا أن “الإشكال يكمن في وجود بعض الحلقات غير المعروفة، هي التي تتحول إلى وسطاء مضاربين”.
يختلفُ مفهومُ الوسيطِ من شخصٍ إلى آخر؛ لكنَ جلَ المتدخلينَ يرفضونَ وصفهم بهذا الاسمِ، معتبرينَ أن جلَّ هذه العمليات ترتبطُ بتجارةٍ عاديةٍ.
وقال رشيد، أحد التجار أو “الوسطاء”، إن الحديث عن “الوساطة هو كلام مغلوط، إذ إن الأمر لا يتعلق بوساطة بل تجارة وأنه كأي تاجر معرض للربح والخسارة”.
وعلل رشيد كلامه بالقول: “مثلا، أنا وسيط أشتري ضيعة ما بمبلغ 40 مليون سنتيم على أساس أنها ستمنحني رقما معينا من البضاعة؛ لكن ما أحصل عليه هو نصف أو ربع الرقم بسبب سوء الأحوال الجوية أو الأمراض أو غيرها. إذن، أنا كوسيط أصبح في خسارة واضحة”.
ما رصدتهُ هسبريس من عملياتٍ متتاليةٍ هو ما تعتبرهُ تقاريرُ رسمية “وساطةً”، مع دعواتٍ إلى ضرورةِ إعادةِ هيكلةِ القطاعِ حتى لا يصبحَ الفلاحُ الصغيرُ والمتوسطُ والمستهلكُ أكثرَ المتضررينَ.
مطالب بإعادة الهيكلة
وقال الحسين أضرضور، رئيس الفيدرالية البيمهنية لمنتجي ومصدري الخضر والفواكه بالمغرب، إن “هناك أنواعا وتعاملات عديدة يمر منها المنتوج قبل وصوله إلى المستهلك، وهو ما يخضع لإطارات وقوانين نقول عنها اليوم إنها أصبحت متجاوزة وتعود إلى 60 سنة مضت”.
وأكد أضرضور، ضمن تصريح لهسبريس، أن “ما يحدث اليوم من مراحل للبيع هو ما لا يجعلنا نتحكم بالسوق ويفتح المجال أمام من يسمون بالوسطاء أو المضاربين أو الشناقة أو غيرها من التسميات من التواجد بيننا ورفع أسعار البيع للعموم”.
إجراءاتٌ حكوميةٌ ومتدخلونَ كثرٌ في عملياتِ البيعِ والشراءِ، ومحاولاتٌ حكوميةٌ متعددةٌ لضبطِ الأسواقِ، إلا أن توجهاتُ الحكومةِ لضبطِ الأسواقِ لا تتوافقُ بشكلٍ كليٍّ مع ما ينادي بهِ المهنيونَ، كما تطالبُ تقاريرُ رسمية بإعادةِ الهيكلةِ وسنِّ قوانينَ تحمي كلاً من المستثمرِ الفلاحيِ والمستهلكِ.
وعدد عبد العزيز المعناوي، رئيس جمعية اشتوكة للمنتجين الفلاحيين، المطالب التي برأيهم يمكن أن تضع حدا لحالة التسيب التي تعرفها بعض الأسواق، وقال: “اليوم، القانون يفرض على الفلاح أن يمر من سوق الجملة؛ وهو ما يجب أن نجد له حلا حتى يمر الفلاح بشكل مباشر للمستهلك، وهو ما يمكننا أن نحققه على مراحل”.
وتابع المعناوي قائلا: “من بين الإشكالات التي يجب وضع حد لها هو البيع بالصندوق عوض الكيلوغرام الواحد”، مشددا على أنه “لا بد من تنطيق السعر بالكيلوغرام حتى يعرف المواطن بكم تم البيع وبكم يمكنه أن يشتري؛ وهو ما سيساعدنا على القضاء على وسيط أو اثنين من المتدخلين في البيع”.
واعتبر المتحدث ذاته أن استراتيجية الحكومة بوضع 12 سوق جملة كبيرا في 12 جهة من جهات البلاد هو أمر مهم؛ لكن الأهم منه هو “وضع قوانين وآليات الاشتغال داخل هذه الأسواق”.
بين مطالبِ الفلاحِ ورغباتِ المستهلكِ حلقةٌ مفرغةٌ في الوسطِ، التحكمُ فيها صعبٌ للغايةِ، وما سيُفقدُ مع مرورِ الأيامِ إن ظلَ الوضعُ على حالهِ هو أمنٌ غذائيٌ لبلادٍ بأكملها.
المصدر: وكالات