استعرض سيدي محمد العلوي العبدلاوي، باحث أكاديمي في الميدان التربوي، في مقال له، مجموعة من الأسباب المؤدية إلى ما أسماها “الوقاحة لدى الأطفال”. كما اقترح عددا من الحلول الرامية إلى تصحيح سلوك الأبناء، مبرزا في الوقت ذاته أهم التدابير التأديبية الملائمة وبطريقة إيجابية لتحقيق هذه الغاية، وفق المقاربة التربوية والخطوات العلمية.
هذا نص المقال:
إن كثرة المتدخلين اليوم في تحديد سلوك الأطفال لم يعد من خصوصية الأسرة لوحدها، لا سيما مع هذا الانفجار التقني في وسائل التواصل الاجتماعي الذي أتاح للأطفال معارف الكبار؛ فما كان حكرا من قبل على الكبار والذي لم يبلغوه إلا بشق الأنفس من التجارب والخبرات والتي فيها تفاضلت منازل الناس مع طول سن المرء، أصبح اليوم متاحا على قنوات التواصل الاجتماعي بضغطة واحدة، تختزل سنين عددا من عمر والديه، وقد يستدرك الطفل الصغير ما فات الكبير، على الرغم من عتو عمر الكبير، فأصبح الآباء اليوم يعيشون سباقا نحو إثبات فعالية تجاربهم الحياتية أمام ما يتيحه الأنترنيت من خبرات.. ولربما زاد وأربى بفضل المحتوى الجذاب، الصوتي منه والمرئي؛ وبالتالي أصبح كثير من الآباء اليوم متجاوزين أمام أطفالهم، مما جعل الكثير منهم محل تنقص عند الأبناء.
وهنا طفا سلوك إلى الواجهة، ألا وهو وقاحة الأبناء تجاه من يفوقونهم سنا وخبرة وتجارب حياتيةـ لا لشيء إلا لتوافر المعلومات هنا أو هناك، ولست أعالج في هذه المقالة المقضبة تشخيصا لهذه الظاهرة بقدر ما أريد إثارة انتباه الآباء خصوصا، والمدرسي عموما إلى هذا التجاوز المعرفي الذي لا يمكن لحاقه، لا سيما بعد ظهور الذكاء الاصطناعي كـ chatgpt وغيره الذي أصبح يقترح حلولا لربما لا تخطر على بال أكثر المتخصصين منهم ذكاء.
فالمراهق اليوم يحاول بشتى الوسائل الانفصال والاستقلال عن علاقة التبعية التي تربطه بوالديه؛ وفك الارتباط والعزلة، التي تتيح له نوعا من الاستقلالية والحرية مما يجعله في حالة مواجهة مع ذاته والبيئة الاجتماعية المحيطة به. وهذا الانسلاخ يأخذ شكل عبارات جريئة قد تصل إلى حد الوقاحة؛ وذلك راجع إلى التغيرات الجسدية والنفسية والفكرية التي تحدث للمراهق يصاحبها الكثير من الاضطرابات السلوكية نتيجة الإهمال وفقدان الرقابة الأسرية والمجتمعية على سلوك الطفل. وقد تكون تلك الوقاحة تعبيرا عما ينتاب الطفل من شعور بالإهمال والقهر الأسري والمجتمعي؛ مما يجعله ضحية الألم والحزن واليأس والصراعات الداخلية؛ الشيء الذي يدفعه إلى التمرد، ومحاولة إثبات الوجود ولو بشكل سلبي، وقد يتحول ذلك إلى عدوانية سلوكية تظهر من خلال منع المراهق مساعدة الأهل له، والذي قد يعتبره تدخلا في حياته ويتذرع به سببا مباشر لنتائجه الدراسية المتدنية، محاولة منه لإلصاق التهمة بالأسرة وأنها السبب في تدهور مستواه الدراسي، وما ذلك إلا لمحاولته التمرد وإثبات الذات ولو بطريقة عشوائية، فيجعل النصيحة تسلطا، والنقد البناء إهانة، والتوجيه عدوانية، فيعترض على أهله في كل ما يقولونه بدعوى سواء القصد والنية، فيتهم كل من يتدخل في تصرفاته بسوء الطوية، وإذا لم يوافقوه الرأي ولم ينصاعوا لرغباته فيصفهم بالقدم والرجعية والتخلف، مما يوسع الهوة بينه وبيهم، غير منطقيين، ولا يحسنون الحكم ولا تقدير، بل لا يحسنون ما يحسنه الغير من الحكم على الأشياء والذي قد يصل بهم الوصف إلى حد الغباء.
فوقاحة الأبناء هي سلوك غير مقبول وغير مرغوب فيه، حيث يتجاوز الأبناء حدود الآخرين ويعبرون عن انتقادات وسلوكيات غير ملائمة وغير محترمة. ويمكن أن تصل الوقاحة إلى عدم الالتزام بالقواعد والقيم الاجتماعية، والتصرفات العدوانية، والإساءة إلى الآخرين، وعدم الاستجابة لتوجيهات الكبار فضلا عن محاولة الانسلاخ عن مبادئ العائلة وقوانينها لتأكيد تميزهم عن باقي أفراد العائلة.
إن سلوك التمرد والمكابرة والعناد والعدوانية والاستفزاز والوقاحة -أحيانا- تعد رد فعل من جانب المراهق على سلطة الأهل التي تستخف بقدراته، التي يعتبرها مساوية لقدرات الراشد، وتعبيرا عن استقلاليته ورغبته في وضع مسافة بينه وبين أهله؛ فوقاحته ليست في الحقيقة إلا طريقة لتطوير إحساسه بهويته الخاصة؛ وذلك يتم بأن يتكلم بالطريقة التي يريدها، لاختبار قدرة أهله على مقاومة أهوائه ونزواته وخرجه عن القوانين العائلية التي وضعوها، فضلا عن الإساءة إلى الآخرين بالكلام أو الضرب أو التنمر، مع الرفض الواضح لأوامر الكبار والمعلمين والآباء وعدم الامتثال لها، والحديث بصوت مرتفع وعدم الالتزام بالآداب الاجتماعية، وقد تتخذ تصرفاته أشكالا أخرى كالاستهتار بالممتلكات العامة والخاصة وعدم الاهتمام بها، والإفراط في استخدام الأجهزة الإلكترونية مثل الهواتف الذكية والألعاب الإلكترونية والتلفزيون على حساب الأنشطة الاجتماعية والتعليمية، وعدم الالتزام بالأوقات المحددة للوجبات والمهام اليومية وتأخيرها أو تجاهلها.
يجمع علماء التربية على أن مرحلة المراهقة ليست المسؤولة وحدها عن وقاحة المراهق؛ بل إن للأهل- ذاتهم- دورا في ازدياد درجتها، وللعلاج طرق ووسائل سيأتي التنبيه عليها قريبا في هذا المقال.
إن تحديد الوصفة العلاجية لمشكلة الوقاحة عند الأبناء تنطلق أساسا بتحديد مكمن الوقاحة عند الطفل؛ فالوقاحة عند هذا الطفل ليست هي نفسها عند ذاك، فمثلا الوقاحة عند الأول تتجلى في الردود السريعة الجارحة التي لا تناسب مع سن الطفل والتي تتسم بعدم زنة الكلام الصادر عنه والذي لا يقدر أثره على المخاطِب له، وبالتالي تعتبر وقاحة وجرأة في غير محلها سيما من صغير لا يقدر مآلات الأمور مما يجعله يلقي الكلام على عواهنه.
ومن هنا، ينبغي تحديد سبب ومصدر هذه الوقاحة حتى يسهل علاجها وابطال مفعولها في شخصية الطفل؛ فقد تكون الوقاحة سببها التنشئة القاسية التي ترعرع فيها الطفل وبسبب الضغوط النفسية الحادة تجعل الطفل لا يتحكم في سلوكه والفاظه مما يجعله وقحا إلى أبعد الحدود. وبالتالي، فان السبب الرئيس ليس إلا نتيجة حتمية للتنشئة الاجتماعية القاسية التي اقتلعت كل شيء رطب في شخصية الطفل، فيصبح هنا ضحية لا جان وفريسة لا مفترسا ومفعولا به لا فاعلا.
الحرمان العاطفي قد يكون سببا أساسا في وقاحة الطفل، وقد رأينا من خلال ممارساتنا المهنية كيف تقسو بعض الأمهات على أبنائها بدعوى تعويده على القوة والرجولة وهي تكسر كل شيء حي في شخصيته؛ فمقدار الدمار والأفكار السلبية التي يتعرض له الطفل من ضعف ثقة الأسرة به وتناقض قرارات الأهل وتنازع المسؤوليات بين أولياء الطفل يمكن أن يعجل بظهور الوقاحة عند الأطفال في سن مبكرة، فعندما يرفضون الاستماع إلى الكبار أو يتجاهلون التعليمات الموجهة إليهم لهو دليل على تمرد الطفل واتجاهه نحو الوقاحة، وتزداد الوقاحة عندما يدخلون سن المراهقة ويبدؤون في الاعتراض على السلطة والقيود.
قد تظهر الوقاحة عند الأطفال في سن مبكرة، وتزداد خلال سنوات المراهقة، وهي عادة مؤشر على نقص التربية والتعليم الصحيح ونقص اهتمام الوالدين والرعاية السليمة وبما أن الوقاحة يمكن أن تسبب ضررا للآخرين وتؤثر على العلاقات الاجتماعية والعائلية، فإنه ينبغي معالجتها بسرعة وفعالية.
يمكن معالجة وقاحة الأبناء عن طريق تحديد السلوك الغير مقبول وتفعيل النظام الذي يفرض الحدود والتقييدات، وتشجيع الأطفال على تقدير الآخرين وتعليمهم مهارات التواصل الفعال والتفاوض وحل المشكلات، كما ينبغي للآباء والأمهات أن يعملوا على بناء علاقات إيجابية مع الأبناء وتقديم الدعم والاهتمام والتوجيه اللازم لهم، كما ينبغي إبراز الإيجابيات وتقدير الإنجازات التي يحققونها لتعزيز شعورهم بالثقة بالنفس والتقدير.
يعتبر تصحيح سلوك وقاحة الأبناء مهم جدا لضمان نمو الأطفال السليم وإعدادهم للحياة الاجتماعية والعائلية والمهنية. ويمكن تحقيق ذلك من خلال الحوار البناء مع الأطفال، وتقديم النصح والإرشاد الصحيح، وضبط الحدود الواضحة للسلوك المقبول، وتوفير الدعم والتشجيع للأطفال لتحقيق النجاح في أنشطة مختلفة. كما يمكن استخدام التدابير التأديبية الملائمة بطريقة إيجابية ومناسبة للحد من سلوك وقاحة الأبناء وتصحيحه لتقويم سلوك الأبناء، ويمكن اتباع بعض الخطوات العملية التالية:
1- إقرار الحدود والقواعد: يجب أن يتعرف الأطفال على الحدود والقواعد الواضحة والملزمة التي يجب اتباعها في المنزل وفي المجتمع، ويجب على الوالدين أن يكونوا متفهمين ومرنين وأن يستخدموا نبرة صوت ثابتة وحازمة لتوضيح القواعد والحدود.
2- توضيح الأسباب والنتائج: يجب على الوالدين توضيح الأسباب والنتائج المحتملة لسلوك وقاحة الأبناء، وكيف يؤثر ذلك على الأشخاص الآخرين وعلى سلوك الأطفال في المستقبل سواء علاقات علاقاتهم الأسرية أم المجتمعية مع ضرب الأمثلة والنماذج من وقائعهم الحياتية.
3- تقديم الإرشاد والنصيحة: يجب على الوالدين تقديم الإرشاد والنصيحة الصحيحة للأطفال بشأن كيفية التعامل مع الآخرين وتقدير الآخرين وإعطاء القدوة، وذلك من خلال تعليمهم الاحترام والتعاون والتسامح، وإبعادهم عن كل ما من شأنه تلويث أفكارهم وسلوكياتهم من قنوات التواصل الاجتماعي غير الهادفة.
4- استخدام التدابير التأديبية بحكمة: يجب على الوالدين استخدام التدابير التأديبية بحكمة وبشكل إيجابي، وعدم المبالغة في العقاب على أن يكون العقاب متناسبا مع الخطأ لا أكبر منه؛ فالعبرة بتصحيح السلوك وليس الردع وتدمير شخصية الطفل، وذلك من خلال تطبيق التدابير المناسبة والملائمة، مثل تحديد العقوبات والتحدث بنبرة هادئة وثابتة وعدم اللجوء إلى العنف الجسدي أو النفسي المدمر.
5- تشجيع السلوك الإيجابي: يجب على الوالدين تشجيع السلوك الإيجابي للأطفال؛ وذلك من خلال تقديم الثناء والتشجيع على السلوك الجيد والمساعدة على تحقيق الأهداف وتعزيز ثقة الأطفال بأنفسهم.
6- التواصل الجيد: يجب على الوالدين الاهتمام بالتواصل الجيد مع الأطفال وإتاحة الفرضة للطفل للتعبير عن نفسه، لا سيما شعوره السلبي الذي يعتبر حقا أساسيا له.
7- التعرف على الأسباب المحتملة للسلوك الوقح: وقد سبقت الإشارة إلى هذا، فيجب على الوالدين التعرف على الأسباب المحتملة للسلوك الوقح للأطفال؛ مثل عدم وجود الاحترام والتقدير في المنزل أو التعرض للتنمر في المدرسة، أو تأثره بمواقع التواصل الاجتماعي كمشاهدته لقنوات غير هادفة أو ذات مستوى منحط.
8- تقديم الدعم والمساعدة: يجب على الوالدين تقديم الدعم والمساعدة للأطفال في حالة الحاجة؛ وذلك من خلال توفير الوقت والجهد والموارد اللازمة لمساعدتهم في تحسين سلوكهم، مع وجوب التفرقة: أن وقوعه في موقف حرج يجب ألا يكون نتيجته الانتقام لتصرفاته السابقة، يجب مساعدته أولا ثم تهيئته نفسيا لتلقي النصيحة حتى يسهل تقبلها.
9- البحث عن المساعدة الإضافية: في بعض الحالات، قد يكون من الضروري البحث عن المساعدة الإضافية من متخصصين في مجال تصحيح سلوك الأطفال، مثل المرشدين النفسيين أو الأخصائيين الاجتماعيين، أو الرجوع إلى أساتذته في المدرسة؛ فالأساتذة يرون ما لا يراه الأهل، لأن سلوك الطفل في البيت يختلف عن سلوكه داخل جماعة القسم، أو وسط الحياة المدرسية التي تتيح للطفل إخراج مكبوتاته بحرية أكبر مما يفسر ظاهرة العنف داخل الوسط المدرسي لما يعيشه الطفل من قهر وعنف أسري.
يجب أن يكون التصحيح لسلوك وقاحة الأطفال مستمرا ومتواصلا؛ وذلك من خلال تطبيق الخطوات المذكورة بشكل دائم وبشكل منتظم. ويجب على الوالدين أن يعملوا معا كفريق واحد لتحسين سلوك الأطفال وتعزيز سلوكهم الإيجابي والصحي.
10- التعامل مع الأطفال بشكل عادل: يجب على الوالدين التعامل مع الأطفال بشكل عادل، وعدم التفضيل لأي طفل على آخر، لا سيما بسبب الجنس أو النتائج الدراسية.
11- الحفاظ على الصبر: يجب على الوالدين الحفاظ على الصبر وعدم الانفعال في حالة السلوك الوقح للأطفال؛ وذلك من خلال التعامل بشكل هادئ ومنطقي، لأن دلالة انفعال الوالدين بالنسبة للطفل نتيجة سلوكه الوقح، دليل على انتصارات له، وهي في الحقيقة ليست إلا وهمية.
12- الاستمرار في التواصل مع المدرسة: يجب على الوالدين الاستمرار في التواصل مع المدرسة والمعلمين، والتعاون معهم في حالة السلوك الوقح للأطفال.
13- تشجيع الأطفال على المشاركة في الأنشطة الإيجابية: يجب على الوالدين تشجيع الأطفال على المشاركة في الأنشطة الإيجابية؛ وذلك من خلال توفير الفرص والموارد اللازمة للأنشطة الرياضية والفنية والتطوعية.
14- العمل على تحسين صحة الأطفال: يجب على الوالدين العمل على تحسين صحة الأطفال؛ فالوقاحة عند بعض الأطفال قد تكون نتيجة لمظهرهم الخارجي من ضعف بنيته الجسدية التي يمكن تجازوها بسهولة من خلال التداريب الرياضية التي تعزز ثقته بنفسه وتشجيعه على النشاط البدني، من خلال توفير الفرص لممارسة الرياضة والأنشطة البدنية المناسبة وتحفيزهم على الحركة والنشاط.
15- تعليم الأطفال الاحترام: يجب على الوالدين تعليم الأطفال الاحترام، من خلال التعليم بالمثال وتوجيههم للتعامل بشكل مهذب مع الآخرين.
16- تعليم الأطفال الحوار والتعبير الصحيح عوض اختيار طريق الوقاحة: يجب على الوالدين تعليم الأطفال الحوار والتعبير الصحيح عن مشاعرهم ورأيهم، وتوجيههم بشكل مناسب للتعامل مع الآخرين.
17- تعليم الأطفال المسؤولية: يجب على الوالدين تعليم الأطفال المسؤولية، من خلال تحميلهم بمسؤوليات بسيطة؛ مثل المساعدة في المنزل والعناية بأغراضهم الشخصية.
18- التحدث عن القيم والأخلاق: يجب على الوالدين التحدث عن القيم والأخلاق مع الأطفال، من خلال تعليمهم القيم الإيجابية والأخلاقية وتوجيههم للتعامل بشكل مهذب وحسن مع الآخرين بضرب أمثلة من سير الأنبياء والصالحين أو دراسة السيرة النبوية.
19- توجيه الأطفال للعمل الجماعي وتنمية مهارات التعاون: يجب على الوالدين توجيه الأطفال للعمل الجماعي وتنمية مهارات التعاون، من خلال تشجيعهم على المشاركة في الأنشطة الجماعية والعمل في فرق وتعليمهم كيفية التعاون مع الآخرين بشكل فعال، ويمكن للوالدين الرجوع إلى المدرسة لمعرفة مدى انخراط أبنائهم في العمل الجماعي أو بالمجموعات للتقليل من العدوانية عند أطفالهم.
20- تعزيز القدرات والمواهب الفردية: يجب على الوالدين تعزيز القدرات والمواهب الفردية للأطفال، من خلال توفير الفرص لاكتشاف المواهب والاهتمام بميولاتهم كالرسم والطبخ وغيرها.
المصدر: وكالات